حول مفهوم المجتمع المدني وتطوره (ج2)


غازي الصوراني
2021 / 7 / 3 - 17:55     


أولاً: نشأة مفهوم المجتمع المدني وتطوره في الفكر الحديث والمعاصر للحضارة الرأسمالية الغربية

في سياق انتقال مجتمع أوروبا من النمط الزراعي الإقطاعي محدود الأفق إلى النمط الجديد التجاري الصناعي الرأسمالي بآفاقه المفتوحة، وعبر صراع وتناقض نوعي متعدد الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية، بدأت تراكماته الأولى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، في هذه المرحلة الانتقالية، تولدت المفاهيم والأفكار والمدارس الفلسفية معلنة بداية عصر جديد للبشرية،عصر الحداثة، عصر النهضة والتنوير، عصر المواطنين الأحرار، عصر المجتمع المدني والديمقراطية.

لكن ولادة هذه المفاهيم لم تكن عملية سهلة في المكان أو الزمان، ولم تتم أو تظهر معالمها دفعة واحدة، ولم تتخذ شكل القطع منذ اللحظة الأولى مع النظام أو الحامل الاجتماعي القديم. إذ أن هذا الانقطاع لم يأخذ أبعاده في الانفصام التاريخي بين مفاهيم العصر الإقطاعي القديم، ومفاهيم عصر النهضة والتنوير الجديد، إلا بعد أربعة قرون من التراكم والنفي، شهدت صراعاً مادياً وفكرياً هائلاً من جهة، وتحولات ثورية في المدن والتجارة والاقتصاد والاكتشافات العلمية من جهة أخرى. هذه التحولات كانت بمثابة التجسيد لفكر النهضة والإصلاح الديني والتنوير والديمقراطية، وسيادة القانون في إطار الحداثة، وهي التي أرست في الوقت نفسه القواعد الأساسية التي استند إليها »المجتمع المدني« وارتبط بها فيما بعد عبر علاقة جدلية متجددة أو قابلة للتجدد.

وفي هذا السياق يقول د.صادق العظم »إن ما يميز العصر الأوروبي الحديث، هو هذا الاتحاد العضوي الفريد الذي تم بين المصالح الحيوية للطبقات التجارية الصاعدة وبين الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية والميكانيكية الجديدة، لقد أضحى لرأسِ المالِ مصلحة حيوية في العلم، كما أصبح للتقدم العلمي مصلحة لا تقل حيوية في رأس المالِ، وهذه دينامية حضارية جديدة تماما لم يعرفها الإنسان من قبل، هذا المزيج الجديد، برهن أنه طاقة متفجرة وهائلة الى أبعد الحدود، مدمرة وخلاقة في وقت واحد، هذه الطاقة هي التي صنعت ما يسمى بالحداثة، وشكلت العالم الحديث وقضت على القديم، كان شعارها: المعرفة قوة، وكان للعلم دورٌ حاسمٌ في الإنتاج التدريجي للفلسفة الحديثة، تماماً كما كان حاسماً في إنتاج نوع جديد من المعرفة بالطبيعة وظواهرها، وبالمادة وبقوانين حركتها عبَّر عن نفسه بمقولات جديدة. فإذا رجعنا، أو حاولنا مراجعة أبرز المقولات والتصورات التي سيطرت على الخطاب الفلسفي وتفسيره للعالم قبل عصر النهضة أو قبل المرحلة الحديثة، نجد أنها تضم التالي: الماهية، الجوهر، المُثُل، الفيض، الغاية، الوجود بالقوة، الصورة، الهيولي، الفكرة المطلقة، أو الصانع الأول، التسيير، التخيير، الغيب.. الخ، فإذا انتقلنا الى الفلسفة الحديثة وخطابها، فماذا نجد؟ نجد تراجعاً بطيئاً ولكن متزايداً ومؤكداً لهذه المقولات والتصورات الغيبية جميعا لصالح صعود نوع مغاير منها، أخذ يحتل مواقع السيطرة على الخطاب الفلسفي الحديث (خطاب ومقولات عصر النهضة)، مثلا: المكان، الزمان، الجسم المادي، الذرة، الحركة، العلة الفاعلة، الصفات الأولية، الصفات الثانوية، قوانين الحركة، الاستقراء. وكل هذه المقولات مستمدة ومشتقة من العلم الحديث وخطابه ونظرياته. باختصار، لقد فرضت الكوزمولوجيا العلمية الجديدة (المادية الميكانيكية تحديداً) على الفلاسفة والفلسفة خطابا وتصورات ومقولات علمية نقيضه ونافية للفكر الغيبي القديم ومقولاته«(4).

ومما لاشك فيه -من جانب آخر-، أن ولادة »المجتمع المدني« لم تكن ممكنة بدون نجاح الثورات السياسية البورجوازية التي أنجزت كثيراً من المهمات الديمقراطية، في فضاء التنوير والعقلانية والعلم والديمقراطية. فقد كان نجاح هذه الثورات أو التغيير العنيف، في هولندا في مطلع القرن السابع عشر، وفي بريطانيا من (1641 - 1688)، ثم الثورة الفرنسية (1789 – 1815)، والثورة الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر بمثابة الإعلان الحقيقي لميلاد عصر النهضة أو عصر الحداثة.

ففي هذا العصر انتقلت أوروبا الغربية من مجتمع الطبيعة المحكوم بنظرية الحق الإلهي إلى المجتمع المدني، مجتمع الديمقراطية والثورة العلمية الكبرى التي دشنت العلاقة بين الإنسان والعالم من جهة وبين العقل والمنهج العلمي من جهة أخرى.

ولكن ما المنطلقاتُ والعواملُ الرئيسة التي دفعت نحو تشكل هذا العصر واستمراره؟

إن معظم الدراسات التي تناولت هذه المرحلة التاريخية الأولى من عصر النهضة وما يطلق عليها »المرحلة الانتقالية« تتفق على أن العنصرَ الرئيسَ لهذا العصر هو أولوية الفرد وحريته، أو الفردية، والإقرار باهتمامات الشخصية الإنسانية وحقوقها ومصالحها كموقف نقيض للحكم المطلق، الديني والسياسي، الذي ألغى هذا الحق وصادره أكثر من ألف عام، دون أن نُغفلَ دورَ التجارة وأثرها في تعزيز النزعة الفردية في سياق تطور الطبقة البورجوازية الصاعدة آنذاك، والتي وجدت في التجارة سندها المعنوي بما تستدعيه من نظام في المعارف والأخلاق والقوانين والأنظمة التي تحمي وتعزز سيادة الطبقة الجديدة، فالبرجوازي –الصانع أو التاجر- غايته الأولى هي الربح في عالم وحيد، هو عالم الامتلاك والبضاعة والتنقل الحر، في الزمان والمكان، ولا حاجة به للراهب أو لسلطان الكنيسة والحكم المطلق.

بالطبع لم يكن هذا التحول ممكناً، بدون تراكم المواقف والرؤى الفلسفية والفكرية الرحبة التي كسرت الجمود الفكري اللاهوتي – الإقطاعي السائد، وأدت إلى تهاوي استبداد الكنيسة في عقول الناس، وإخفاق نفوذها الاقتصادي والسياسي، ومهدت لولادة النظام الجديد- المجتمع المدني-.

ومن الجدير بالتأمل والمتابعة أن هذه العملية من التراكم والتحول النوعي تخللتها أشكال متنوعة من الصراع الحاد، الذي نشب طويلا بين دعاة الجديد المدافعين عن سيادة العقل والعلم والحرية، والمدافعين عن القديم أو النظام القائم على السلطة المطلقة في السياسة والمجتمع والمعتقدات الدينية والمعارف، وبالتالي فإن ما أتى به فلاسفة الفكر السياسي الحديث هو مواكبةٌ وإتمامٌ لما قام به علماء وفلاسفة آخرون في مجالات الفلك والطبيعة والرياضيات ونظرية المعرفة.

من هنا فإن الحديث عن نشأة مفهوم المجتمع المدني وتطوره في الفكر الغربي كما يقول سعيد بن سعيد العلوي »يفترض تحليل مجموعة هائلة من النصوص التي كتبها هوبس وجون لوك وروسو،وكانط وهيجل، وماركس وانجلز و لينين وجرامشي، إضافة إلى ما كتبه أوغست كونت وسان سيمون وتوكفيل وماكس فيبر وآدم سميث وكنز وروزا لوكسمبرج، كما يلزمنا أن نتعرض للمفهوم من حيث هو تصور تجريدي لتطور المجتمع الغربي الحديث بحيث يكون ميلاد المجتمع الصناعي تعبيرا عنه وتصويرا لما صاحبه وواكبه من صراعات وثورات سيكون التعبير عنها هو تطور النظرية الليبرالية من جانب وميلادُ الماركسيةِ وتطورُها من جانب آخر«(5).

وبدون ذلك التحليل، الذي يقع على عاتق الطليعة الحزبية السياسية المثقفة بالدرجة الأولى، لن يتم التوصل إلى صياغة وتركيب الرؤية النظرية التحليلية المناسبة لواقعنا العربي الراهن، وما تتطلبه من ضرورة إعادة النظر في مختلف الأبعاد، الأيديولوجية والثقافية، والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستنباط جدلية العلاقة المطلوبة – على الصعيد ال قطر ي والقومي، لتفعيل الأطر النقيضه المنظمة والآليات التغييرية لكي تقوم بدورها في تجاوز المرحلة الراهنة ببرنامجها القومي التقدمي القادر على صياغة المستقبل.

من ناحية أخرى، فإن تحليل مفاهيم عصر الحداثة والمجتمع المدني سيقودنا إلى استكشاف عمق التباين بين مجتمعاتنا وبين المجتمعات الأوروبية، ليس فقط من حيث التطور الاجتماعي التاريخي وشكله ومحتواه، بل من حيث التطور المعرفي الذي تواصل في حركة متجددة صعودا في الغرب، في حين انه عاش في الشرق حالة انقطاع وجمود معرفي أو ضمن حلقة دائرية منذ القرن الثالث عشر الميلادي إلى يومنا هذا، عبر استمرار سيطرة النظام القديم وأدواته ورموزه السياسية والاجتماعية، في ظل عوامل داخلية وخارجية مترابطة، أغلقت السبل في وجه كل محاولات النهوض أو محطاته في التاريخ العربي المعاصر، وذلك على النقيض مما جرى في سياق التطور الأوروبي الذي تفاعل عبر الصراع الحاد مع أفكار التنوير والنهضة وأدواتهما وأفسح المجال لنمو الدور الرائد والهام للبورجوازية الصاعدة وتعاظمها، في مقابل تراجع سلطة النبلاء والكنيسة أو السلطة المطلقة.

فقد ترافق صعود البرجوازية في تلك المرحلة مع ظهور العصر الكلاسيكي لنظرية المجتمع المدني، أو عصر النهضة، الذي تمت فيه صياغة هذه النظرية التي تبلورت عبر حصيلة نوعية من أفكار التنوير للعديد من المفكرين والفلاسفة من كل أنحاء القارة الأوروبية وعلى مدار أربعةِ القرونِ السابقةِ على القرن التاسعَ عشرَ.

وقد كان نيقولا ميكافيللي ( 1469- 1527 ) من أوائل المنظرين السياسيين أو المبشرين بالعصر الجديد، فقد حاول في مؤلفاته، البرهنة على أن البواعث المحركة لنشاط البشر هي الأنانية والمصالح المادية. فالفردية والمصلحة عنده هما أساس الطبيعة الإنسانية، وقد وجدت البرجوازية الصاعدة -آنذاك- في هذه المفاهيم ملاذا ومدخلا لتطورها وصعودها. وفي هذه المرحلة، ظهرت كتابات نيقولا كوبرنيكس (1473 – 1532 ) التي أسهمت في تحطيم الأيديولوجية اللاهوتية، ووضعت كما يقول »انجلز« الأسس الأولى لبداية تاريخ تحرر العلوم الطبيعية من اللاهوت. هذه الأسس تبناها -فيما بعد- الفيلسوف والعالم الفلكي »جوردانو برونو« (1548 – 1600) صاحب النظرية العلمية التي تقول بـ»لا نهائية المكان أو لا نهائية الطبيعة«، وهو القائل بأن »الكلمة الأخيرة في كل مجال من مجالات المعرفة تكمن في العقل وحده«. (وبسبب موقفه العقلاني هذا، حكمت عليه الكنيسة بالموت حرقاً).

كما كان للعلماء الطبيعيين – ليوناردو دافينشي وجاليليو وغيرهما – إسهامهم في هذا الجانب، إذ أنهم صاغوا النظرة الديئية Deism(*) إلى الطبيعة التي أسهمت إلى جانب النزعة الإنسانية، في تعزيز الفلسفة العقلانية والمنهج العلمي وتطورهما كمنطلقات أساسية للبرجوازية الأوروبية الصاعدة تمهيدا لولادة عصر النهضة.

و بتأثير هذه الأفكار، التي أسهمت في تفسخ العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية في النظام الإقطاعي الأوروبي، تراجع الدور السياسي الذي لعبه الدين في المجتمع، وتراجعت معه الهيمنة الثقافية الفكرية اللاهوتية، لحساب تنامي الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية، التي أدت إلى انتشار العلاقات الرأسمالية وتفشيها في مسامات المجتمع الإقطاعي. وقد اتخذت هذه العملية مساراً تدريجياً في منطلقاتها وأهدافها الفكرية والفلسفية العامة، فبدأت خطواتها الأولى تحت غطاء النزعة الدينية الإصلاحية التي تزعمها مارتن لوثر (1483– 1546) الذي أعلن مطالبته بالإصلاح إلى جانب انه أنكر دور الكنيسة ورجال الدين في الوساطة بين الإنسان والله. وكان لهذا الموقف دور هام في فتح آفاق القطيعة بين الدين والدولة(**) وتعميق تطور مفاهيم المجتمع المدني والمثل السياسية البورجوازية والدولة الديمقراطية.

ومع تواصل الحراك والتناقض والصراع الاجتماعي والفكري بوتائر متفاوتة في تسارعها بين القديم والجديد، ظهرت أفكار الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون (1561-1626) التي تدعو إلى إقامة منهج علمي جديد يرتكز على الفهم المادي للطبيعة وظواهرها، كما تدعو إلى »النزعة الشكية فيما يتعلق بكل علم سابق كخطوة أولى نحو الإصلاح وتطهير العقل من الأوهام: أوهام القبيلة، وأوهام الكهف، وأوهام السوق، وأوهام المسرح«(6).

لقد كان فرنسيس بيكون –كما يقول ول ديورانت- »أعظم عقل في العصور الحديثة، قام بقرع الجرس الذي جمع العقل والذكاء، وأعلن أن أوروبا قد أقبلت على عصر جديد«(7).

ويبدو أن الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596-1650) كان متأثرا إلى حد بعيد بأفكار بيكون، فقد ارتكز المذهب العقلاني عند ديكارت على مبدأ الشك المنهجي أو الشك العقلي الذي يرمي إلى تحرير العقل من المسبقات وسائر السلطات المرجعية، وكذلك الأمر بالنسبة لتوماس هوبز (1588-1679) الذي رفض في مذهبه في القانون والدولة نظريات الأصل الإلهي للمجتمع، واستنتج أو استخلص أن كل سلطة مدنية يجب أن تكون انعكاساً لأصل مجتمعي دنيوي، وقد حورب بسبب موقفه هذا الرافض لاشتقاق السلطة المطلقة من الحق الإلهي، إذ أن الوجود الممكن الوحيد للمجتمع عند هوبز هو، المجتمع المدني، المجتمع السياسي المنظم في دولة(8). فالنسبة لهوبز »فإن كل نشاط هو نوع من أنواع الحركة، وبما أن الفكر نشاط، فلا بد من الاستنتاج بأن الفكر حركة، والحركة بطبيعة الحال هي حركة جسم مادي ليس إلا، وهذا ما دفعه الى تأكيد الطبيعة الدنيوية والبشرية للسلطة السياسية رافضا بصورة حاسمة المصدر الإلهي لهذه السلطة«(9).

وفي سياق تطور هذا المفهوم نتوقف قليلا عند جون لوك (1632-1704) الذي كان مباشرا وصريحا في رفضه لمفاهيم المجتمع الإقطاعي، ولذلك فقد كانت رؤيته مغايرة لكل من سبقوه، حينما أعلن أن الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحرية والمساواة كمفاهيم أساسية تحكم المجتمع، لقد تميز جون لوك بوضوحه فيما انتهى إليه، فالتعاقد الاجتماعي عنده »غاية معلومة لا تكون مع العبودية والخضوع(*)، فهما نفي لتلك الغاية وإقصاء لها، فالغرض الأساسي من التعاقد الاجتماعي هو المحافظة على الأرواح والملكية الخاصة وإلغاء النظام الملكي المطلق (أو الفردية الاتوقراطية) التي لا تتفق مع طبيعة المجتمع المدني الذي ينطلق في الأساس من مبدأ الإرادة الحرة«(10).

وفي سياق تطور عملية إنتاج المعرفة في أوروبا، يتواصل تطور مفهوم المجتمع المدني مع شارل مونتسكيو (1689-1755)، أحد أعمدة التنوير الفرنسي، ففي كتابه »روح القوانين« يتفق مونتسكيو مع مضمون المبادئ التي صاغها سلفه الإنجليزي جون لوك، لكنه يتميز بتأكيده على أن الضمانة الأساسية للحرية تكمن في المؤسسات الدستورية الكفيلة وحدها بالحد من العسف وكبحه، إلى جانب رفضه للحكم المطلق الذي اعتبره شكلا مناقضا للطبيعة الإنسانية، ومناقضا للحقوق الشخصية وحصانتها وأمنها، ففي »مجال العقوبات، يضع مونتسكيو حدا فاصلا بين الفعل وبين نمط التفكير، فالعقاب يستحق فقط على الأفعال التي يقترفها الإنسان لا على أفكاره أو آرائه، إذ أن عقاب الإنسان على أفكاره هو امتهان فاضح للحرية«.(9)

ولكن رغم إيمان »مونتسكيو« بسيادة القانون وحرية الفكر، إلا أن »جمهوريته لا تتجلى في حكم الشعب كله، بل في ممثليه من النخبة الأرستقراطية، فهو يخشى حكم الشعب باعتباره استبداد الرعاع، وهو أسوأ أنواع الاستبداد، فالجمهورية هي حكم الرجال الأحرار وليست حكم العبيد ولا أخلاق العبيد«(11).

وإذا كان لأفكار مونتسكيو، ومن بعده فولتير، وكوندياك، دور هام في وضع أسس المجتمع المدني البرجوازي الجديد، فإن جان جاك روسو(1712-1778) لم يتميز بأهمية أفكاره الفلسفية النظرية فحسب، بل في تلك الأفكار الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والتربوية التي طرحها، وكان »أكثر وضوحاً من كل المنورين الفرنسيين في عهده، فقد وقف مع وجهة نظر البرجوازية الصغيرة الراديكالية والفلاحين والحرفيين، وهي وجهة نظر أكثر ديمقراطية من معاصريه، ففي كتابه »العقد الاجتماعي« يحاول »روسو« البرهنة على أن الوسيلة الوحيدة لتصحيح التفاوت الاجتماعي، هي في ضمان الحرية والمساواة المطلقة أمام القانون، وهذه الفكرة لقيت ترحيبا فيما بعد عند رجال الثورة الفرنسية لا سيما اليعاقبة«(12) كما طرح في »عقده الاجتماعي« نظام الجمهورية البورجوازي الذي أكد فيه أن الحياة السياسية يجب أن تقوم على سيادة الشعب المطلقة، ورفض تقسيم السلطة إلى تشريعية وتنفيذية، واقترح بدلا منها الاستفتاء الشعبي العام في جميع الأمور السياسية الهامة، انه بذلك – كما يقول د. عزمي بشارة، »يؤسس سلطة مطلقة، هي سلطة الشعب، ولكن الشعب يبقى كيانا مجردا إذا لم تتوفر الديمقراطية كشكل لسلطته، أي كيانا معنويا لا توجد وسائل لترجمة وممارسة قوته، ويفرد المجال لمن شاء من الدكتاتوريين الشعبويين للتكلم باسمه«(13).

إن مأثرة روسو الخالدة، أنه أكد على شرط التلازم بين النسبي وبين الحرية والمساواة، فلا »مكان في عقده الاجتماعي لمواطن غني إلى درجة تمكنه أن يشتري الآخر، وفقير إلى درجة يضطر فيها إلى بيع نفسه، لقد أدخل روسو عنصر المساواة إلى المجتمع المدني، وبذلك جعل العدالة الاجتماعية شرط الحرية«(14). إن روسو بذلك يعبر عن قناعته -وهي قناعة موضوعية صحيحة- بأن أصل التناقضات في الحضارة البشرية يكمن في التفاوت الاجتماعي »الذي يرجع، بدوره، إلى التفاوت في الملكية –ملكية الأرض، وأدوات العمل. إن المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني المعاصر، عند روسو، هو ذلك الرجل، الذي وقف للمرة الأولى، ليسيج قطعة من الأرض ويصيح: »هذا –لي«، ووجد أناس، بسطاء بما فيه الكفاية، ليصدقوا ذلك«(15).

لقد استحق روسو بحق لقب »رجل الديالكتيك في فلسفة التنوير الفرنسي« الذي أطلقه انجلز عليه.

وبقيام الثورة البرجوازية الفرنسية، لم يعد ثمة مناص من تحطيم العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية الإقطاعية، لحساب التطور الرأسمالي الصاعد داخل إطار المجتمع المدني الجديد في بقية البلدان الأوروبية، وخصوصا ألمانيا، التي كان التطور الرأسمالي فيها أبطأ مما كان عليه في إنجلترا وفرنسا، في مقابل التطور المعرفي للفلسفة الألمانية التي كانت أكثر تقدما ووضوحا وشمولية عن مثيلها في البلدان الأوروبية المجاورة. من هنا، جاء وصف ماركس لفلسفة عمانويل كانت (1724 – 1804)، رائد الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، »بأنها النظرية الألمانية للثورة البورجوازية الفرنسية، فكانط الذي عايش تطور الرأسمالية في المجتمعات الأوروبية، هو أول من تنبه إلى خطأ مقولات آدم سميث (1723-1790) حول الطبيعة الاقتصادية والتجارية للمجتمع المدني، التي تناولها في كتابه الشهير »ثروة الأمم« عام 1766 حيث »أكد على مفهومين: الأمة بدل الدولة، والغنى (أو الثروة) بدل السياسة، بما يعني أن المجتمع المدني هو مجتمع للمبادلات التجارية، فالعمليات الإنتاجية والمبادلات التجارية تتمخض من تلقاء نفسها، وبصورة تدريجية، عن حكومة نظامية تضمن للأفراد حريتهم وأمنهم ومصالحهم من دون تدخل الدولة وقوانينها في المجال الداخلي، ويقتصر دورها على المجال الخارجي لتأمين أمن الحدود، فضلا عن القيام بالمشاريع الكبرى التي تعجز عنها المبادرة الخاصة.

وهكذا يكون آدم سميث هو أول من دشّن القطيعة بين الدولة والمجتمع المدني«(16)، أو الليبرالية، ممهداً -مع غيره من المفكرين والفلاسفة- الطريق للفلسفة الألمانية ودورها الرائد، وخصوصا تلك الفلسفة التي تناولت الطريقة الديالكتيكية والمنطق الديالكتيكي، وصاغت القوانين التي تحكم عملية التطور«(17)، وهي مأثرة تسجل للفيلسوف الألماني هيجل (1770-1831)، الذي كان أول من نظر إلى العالم الطبيعي والتاريخي والروحي، بوصفه عملية، أي في حركة دائمة، في تغير وتطور مستمرين، وهو أول من صاغ بشكل منظم النظرة الديالكتيكية إلى العالم، وما يوافق ذلك من منهج ديالكتيكي في البحث. لقد صاغ هيجل الديالكتيك باعتباره علماً فلسفياً يعمم التاريخ لكامل المعرفة، وكذلك القوانين الأكثر شمولا لتطور الواقع الموضوعي، ونقصد بها قوانين الترابط والتناقض ونفي النفي، ذلك هو المبدأ الديالكتيكي الهيغلي في وحدة الجوهر والمظهر، إلا أن هذه الوحدة لا تستمر في الحركة الى ما لا نهاية، فهي تتوقف -كما يرى هيجل- عند الدولة الألمانية أو عند مفهوم نهاية التاريخ، وهو ما تصدى له ماركس فيما بعد.

ولكن مأثرة هيجل تكمن في رؤيته التي تقوم على أن تطور التاريخ هو انعكاس لتطور الحرية العقلية المدركة بأن »الأشياء في ذاتها« ليست مستعصية على المعرفة، فليس في طبيعة الأشياء (في الطبيعة أو المجتمع) أية عوائق أو حدود تقف أمام عملية المعرفة، هنا تتجلى بوضوح دلالات فلسفة هيجل التي لا تنفصل عن المضمون الداخلي لعملية التطور الاجتماعي وتناقضاته، وهذا ما أدركه هيجل في نظريته عن المجتمع المدني، التي حاول من خلالها تخفيف الصراعات الاجتماعية عبر رؤية تقوم على التوازن بين الملكية الخاصة والأنانية الفردية من جهة، وإشكالية الإفقار والاغتراب من جهة أخرى، وكما يقول د.عزمي بشارة »هناك محاولة مستمرة –عند هيجل- لحل مشكلة الإفقار والاغتراب الناجمة عن مبدأ الأنانية الفردية والملكية الخاصة، التي يقوم عليها المجتمع المدني، من دون التنازل عن الفرد وحريته وحقه في التعاقد، ومن أجل ذلك ينطلق هيجل من الخطوة الأولى في تأسيس المجتمع المدني، وهي العمل من أجل سد الحاجات البشرية ضمن نظام الملكية الخاصة التي لا تعني شيئاً من دون الاعتراف الاجتماعي بها، فالتبادل بين البشر في علاقات السوق لا يمكن أن يتم من دون القانون ومن دون عملية تنظيم أو إدارة العدالة، فالسوق وحدها لا تنتج قانونا وعدالة، من هنا تنشأ الحاجة إلى السلطة، السلطة العامة (Public Authority)، (سلطة المجتمع المدني) ولكن هيجل يعود إلى القول بأن للملكية الخاصة الفردية حدودها، على الرغم من تأكيده على أن هذه الملكية هي أساس المجتمع المدني«(18).

إن تأكيد هيجل على أن للملكية الخاصة الفردية حدودها، أو قيودها، يرتبط بمفهومه للحرية الذاتية، التي تتحقق فقط في نظام اجتماعي، يتيح للفرد، حدا معينا ومقبولا من مقومات الحياة بكل جوانبها داخل المجتمع، ففي ظروف الفقر والبؤس والحرمان الاجتماعي، لا يمكن أن تتوفر عوامل التطور الاجتماعي والثقافي للفرد، وبالتالي لا جدوى من الحديث عن الحرية، إذ أنها تصبح –في حال وجودها- بلا أية قيمة أو معنى. ففي غياب حرية الفرد –في ظروف القهر الاجتماعي أو الطبقي- تنتفي أهم ميزات المجتمع المدني وهي تطور الوعي السياسي، بل وينتفي وجود المجتمع المدني كواقع ملموس قائم بذاته، كما نلاحظ في مجتمعاتنا العربية في ظروفنا الراهنة.

وفي مواجهة المنطلقات الفكرية للفيلسوف الألماني »هيجل« عموما، ونظام الملكية الخاصة وعلاقات السوق ومبدأ الحرية الذاتية خصوصاً، قدم ماركس (1818-1883) تعريفه للمجتمع المدني على أنه » حلبة التنافس الواسعة للمصالح الاقتصادية البرجوازية، فالمجتمع المدني عنده هو المجتمع البرجوازي، انه فضاء الصراع الطبقي، وهو بالتالي الجذر الذي تمخضت عنه الدولة ومؤسساتها المختلفة«(19)، إذ أن الدولة (الرأسمالية) -لدى ماركس- »ليست بأي حال من الأحوال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه، وليست هي واقع الفكرة الأخلاقية كما يقول »هيجل«، لكنها نتاج المجتمع نفسه عند درجة معينة من تطوره، اقتضت في النهاية وكما يقول انجلز »ظهور قوة تقف ظاهريا فوق المجتمع«، وبالتالي فإن وجود الدولة -في المجتمع البرجوازي- يعني وجود مجتمع مدني، كما أن وجود المجتمع المدني هو الذي أفرز الدولة ذات السلطة العامة والقوة المسيطرة الخاضعة للنظام والقانون، وهو أمر لم يسبق وجوده في التنظيم العشائري، أو التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية القديمة، وقد أشار انجلز الى الدور الذي امتلكته الدولة البرجوازية بقوله »إن أصغر شرطي في الدولة المتمدنة يملك سلطاناً يفوق سلطان جميع هيئات المجتمع العشائري« وهذا يقودنا الى استنتاج أن مقولة المجتمع المدني لا تستخدم إلا في ظل الملكية الخاصة أو المجتمعات التي تعتمد هذه الملكية«(20).

لقد تصدى ماركس لمُنَظِّري الإصلاح الاجتماعي(*) في عصره، »الذين نظروا الى الجماهير الأوروبية البائسة والمعدمة بصفتها موضوع الإصلاح والتغيير الذي سيتم لمصلحتها ولكنه لن يأتي أو يتم على يدها أو بفعلها، إن هذه الجماهير، موضوع الإصلاح والمستفيد منه، ولكنها ليست الذات الصانعة للثورة أو التغيير، لقد رفض ماركس هذه الصيغة الفوقية، وتجاوزها جدليا الى ما هو أرقى، أي الى تأكيده المعروف بأن المهمة الإصلاحية والثورية إياها غير قابلة للإنجاز إلا على يد أصحابها الذين سيحولون أنفسهم ووعيهم ومجتمعهم (المدني) من خلال الصراع الطبقي«(21).

إن وضوح هذه الرؤية »استند في الواقع الى المفاهيم العلمية الاستراتيجية الجديدة التي أشاد عليها ماركس المادية التاريخية، ومن أهمها«(22):

1- »مفهوم البنية الفوقية، الذي تطور عند ماركس وتبلور نتيجة النقد الراديكالي الذي وجهه ماركس الى ظواهر مثل الدين والحق والفكر والثقافة والدولة.. الخ وبخاصة الى الفلسفة السائدة وقتها في ألمانيا التي كانت ترجع تلك الظواهر الى مصادر إلهية أو روحية متعالية«.

2- »مفهوم قوى الإنتاج، وهو أهم أداة معرفية-علمية حاسمة قدمها ماركس الى علوم الأفعال، وقد استخدم هذا المفهوم الجديد، كأساس علمي لنقد سجالي شديد ومدمر وجهه الى تلك النظريات والفلسفات السائدة يومها، القائلة بأن الحياة الاجتماعية بمؤسساتها هي نتاج لروح تاريخية معينة أو لقيم ثقافية أو تأملات ميتافيزيقية مثالية شائعة بكثرة في تلك الأيام في ألمانيا (وهي ما زالت شائعة -وفاعلة- في بلادنا ونحن في القرن الحادي والعشرين!!؟)

إن ماركس بتقديمه لفكرته عن قوى الإنتاج، ومضامينها، أكد أن الحياة الاجتماعية بمجمل تجلياتها وظواهرها، لا تتكون في الأساس عشوائيا أو تتشكل روحيا، أو تتطور ذاتيا وإراديا، بل ترتكز الى قاعدة موضوعية محددة ومتحركة يلخصها نوع معين من قوى الإنتاج المادية«.

3- »مفهوم علمي استراتيجي آخر قدمه ماركس، هو مفهوم علاقات الإنتاج، وقد نشأ هذا المفهوم نتيجة استيعاب ماركس ونقده وتجاوزه لفكرة المجتمع المدني التي استخدمها هيجل، فقد أحل ماركس مفهومه العلمي الجدي، ليس محل فكرة المجتمع المدني فحسب، بل محل فكرة »العلاقات الاجتماعية« أيضا، وعبر النقد المستمر، تجاوز ماركس مفاهيم مثل »المجتمع المدني« و»العلاقات الاجتماعية« و»علاقات التبادل الاقتصادي« لصالح مفهوم علاقات الإنتاج. كذلك تجاوز ماركس عبر مفهومه الجديد، أفكارا شائعة ومتداولة حول خصائص المجتمع المدني وتفسير نشأته«(23).

يتبع..



(4) د.صادق جلال العظم - دفاعاً عن المادية والتاريخ- دار الفكر الجديد-بيروت-1990 - ص43.

(5) سعيد بن سعيد العلوي وآخرون، المجتمع المدني في الوطن العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992، ص46.

(*) الديئية أو الربوبية هي الاعتقاد بوجود اله كسبب أولي لا شخصي للعالم، والعالم من وجهة نظر هذه الفلسفة، محكوم أو متروك لفعل قوانينه الخاصة بعد أن خلق – من أنصارها فولتير وروسو في فرنسا، وجون لوك ونيوتن في إنجلترا

(**) بسبب التبعية والتخلف في إطار الهيمنة الاستعمارية، والإمبريالية، لم يتمكن المجتمع العربي حتى اللحظة، ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين من تثبيت مفهوم وقواعد فصل الدين عن الدولة كخطوة أولية وشرط أساسي لدخول المجتمع المدني.

(6) الموسوعة الفلسفية، بيروت: دار الطليعة،1981،ص99 وص164.

(7) ول ديورانت،قصة الفلسفة، بيروت؛ مكتبة المعارف،1985،ص135.

(8) د.عزمي بشارة،مساهمة في نقد المجتمع المدني، رام الله: مواطن،1996،ص ص67 – 69.

(9) د.صادق جلال العظم - مصدر سبق ذكره - ص48.

(*) طوال التاريخ القديم والحديث والمعاصر، لم يعرف المجتمع العربي عموما سوى صيغة العبودية والخضوع والحكم الفردي الأتوقراطي أو الفردي البيروقراطي المستبد بعيدا بصورة كلية عن مفهوم أو فكرة التعاقد الاجتماعي أو أي شكل من أشكال المؤسسات الدستورية الديمقراطية.

(10) سعيد العلوي،المجتمع المدني في الوطن العربي، مصدر سبق ذكره- ص41.

(11) د.عزمي بشارة،مساهمة في نقد المجتمع المدني،مصدر سبق ذكره،ص89.

(12) موجز تاريخ الفلسفة،موسكو،دار الفكر،الطبعة الثالثة،1979،ص305/310.

(13) د.عزمي بشارة، مساهمة في نقد المجتمع المدني،مصدر سبق ذكره،ص99.

(14) المصدر نفسه، ص102.

(15) موجز تاريخ الفلسفة، مصدر سبق ذكره، ص309.

(16) جورج طرابيشي-جريدة الحياة- 10/9/2000- ص17.

(17) المصدر نفسه، ص377.

(18) عزمي بشارة،مساهمة في نقد المجتمع المدني،مصدر سبق ذكره،ص ص113،114-116.

(19) سلوى السيد-مجلة الطليعة-العدد 40-دمشق-آذار 2001-ص18

(20) سلوى السيد-المصدر السابق-ص20.

(*) يقابلهم في بلادنا دعاة اللبرالية وحقوق الإنسان في إطار المنظمات غير الحكومية.

(21) د.صادق جلال العظم-دفاعا عن المادية والتاريخ-دار الفكر الجديد-بيروت-1990-ص131.

(22) المصدر السابق -ص133/134.

(23) المصدر السابق - ص134.