منظمة التحرير الفلسطينية ..تابعة أم متبوعة؟


سعيد مضيه
2021 / 7 / 3 - 11:04     

منظمة التحرير ومقولة "المجتمع المدني" والواقع الفلسطيني 1من 2
في حقل السياسة تخوض المنظمة غمارها نشاطا سياسيا مطعما بالتنظيم والوعي. ونظرا لكونها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ، وحيث أن السياسة المغيرة للواقع تتم بالجماهير ومع الجماهير من اجل الجماهير ، فإن ذلك يوجب على منظمة التحرير الفلسطينية، ويعطيها الحق لاداء مهمة تنظيم وتوعية الجماهير الشعبية الفلسطينية. الفهم الخاطئ يزعم أن جهة سياسية ما تدافع عن ... ، أو تحمي مصالح كذا؛ وفي الواقع العملي فأي تنظيم سياسي لا يبرر وجوده إلآ بالنشاط مع الجماهيرصاحبة المصلحة. السياسة الواعدة تستنهض الجماهير وترفدها بالوعي ، تؤهلها لأن تتحمل مسئوليتها وتقرر مصير الوطن. الكتل الشعبية هي المحولة للتاريخ؛ وتكون التحولات أعمق بقدر الكتل البشرية المنخرطة فيها؛ وبذا فالنشاط في اوساط الجماهيريمثل المهمة الأولى والرئيسة لقوة التغيير الاجتماعي ، التي يرمز لها باليسار. وتجاهل هذه الحقيقة الأولية ، أبجدية النضال الوطني والاجتماعي، أحد أعراض أنيميا اليسار الفلسطيني.
والتحرير في بلد مرتبط بالعصر الوسيط ، مثل فلسطين، يقتضي مقاربته على جبهتين متداخلتين : التحرير الاجتماعي والتحرير القومي ، وكان خليل السكاكيني قد توصل في ثلاثينات القرن الماضي الى وجوب إسناد نضال التحررالقومي بنسخة من التحرر الاجتماعي تجتث ظواهر تخلف العصور القديمة. يحتفظ هذا النهج المزدوج بأهمية حاسمة ، نظرا لأن استبداد العصر الوسيط جرع الجماهير الشعبية صنوف القهر والهدر اللذين احدثا تشوهات بالوعي الاجتماعي . تبخيس الجمهور إحدى تركات التخلف بدون تصفيتها يصعب تشكيل حركة شعبية ديمقراطية. المهمة هي مبرر وجود اليسار داخل الحركة الوطنية . .
كان لينين قد طرح على شيوعيي الشرق في مؤتمرهم عام 1919 مهمة انتشال شعوبهم من التخلف اولا ، ونقلهم الى الحضارة؛ حذرهم انهم لن يجدوا في كتب الشيوعية الحلول لمشاكل مجتمع ما قبل الرأسمالية. اصطدمت مشورة لينين بالقواعد الصلدة للانضمام الى الأممية الشيوعية، ولم ينتبه الماركسيون العرب لنصيحة لينين، فتخلفوا في تحديث الحياة الاجتماعية. تواصلت قيم التخلف ومعاييره ونماذجه الاقتصادية والتعليمية - الثقافية وهياكله السياسية تترصدهم مصدات تصدمهم، تؤوّل بخبث التغيير الاجتماعي مبادئ هدامة تخل بالقيم وتهدم المجتمع!
هل تشكل منظمة التحرير الفلسطينية الإطار الذي تحرك أذرعه وتوجه الأنشطة السياسية لمختلف قطاعات الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده؟ هل هي إحدى منظمات ما يسمى المجتمع المدني ام هي مؤسسة دولة ؟هل تمكنت خلال ما يزيد على نصف قرن على تشكيلها الاقتراب من إنجاز مهمة تحرير مجتمعها الفلسطيني أو حتى ولوج دربها؟ في مقالة للرفيق طلعت الصفدي نشرت بتاريخ 3/8/ 2011، تحت العنوان "عفوا السيد الرئيس ، المجلس المركزي لرسم السياسات، وليس للخطابات"، والمضمن في كتابه "صراع في بحور الظلام ليس للفرد قيمة "، كتاب تميز بجراة الطرح وصراحة النقد وثراء الخبرة في السياق؛ فهو عضو بالمجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير وعضو قيادة حزب الشعب. كتب في المقالة: "المجلس المركزي في كل دورة يتكرر المشهد ، وتغيب مراجعة القرارات السابقة، ويسقط من جدول الأعمال تقييم الفترة بين اجتماعين، وتَراجعَ النقد البناء لتصويب المسيرة ، ويتحول المجتمعون الى مستمعين غير فاعلين. هل يمكن تغييرنمط هذه الاجتماعات وتفعيل طاقات وخبرات أعضاء المجلس المركزي...؟ لماذا لا يشارك الجميع في صناعة القرارويتحمل المسئولية الوطنية والتاريخية لتنفيذه، حتى لا يتحولون الى مقعدين او شهود زور؟..."
الرفيق يتحدث بلغة حداثية لنهج سياسي حداثي أين منهما الممارسة الفعلية المتعثرة بالفشل والإحباط لمنظمة التحرير الفلسطينية. طبيعي أن تكون النتيجة حسب استخلاص الرفيق "تكلس القيادة الفلسطينية واطرها السياسية المختلفة ونزوعها للتفرد"، لأنها خطفت المنظمة وسيلتها للعلاقات الدولية ، ومنعتها من اداء وظفتها الشعبية ، حيث الشعب مجرد رعايا!! يحق التساؤل : هل اتاحت إدارة متكلسة فرصة لتشكل مجتمع مدني مستقل ؟ وهل هناك إمكانية في المستقبل؟ والأهم من ذلك كله هل صمدت إدارة متكلسة امام إدارة تتقن التفكير والتخطيط الاستراتيجيين، إدارة تغتني اجتماعاتها وقراراتها بالعقول الغنية بالأفكار العلمية والتجارب الموثوقة؟ الوقائع تجيب!
تجارب الماضي الأليمة تبين أن الإطاحة بنظام استبدادي يحل النصف الهين للمشكلة؛ وأصعب منه خوض صراع ضد تراكمات الهدر الدهري. فلكي يتكيف الفرد مع الهدر الذي لا فكاك منه، يتواطأ معه مبتلعا احكامه، يتمثلها ويحتفظ بها وسيلة لتحقيق التوازن النفسي والرضى الخادع عن الذات. استخلص مصطفى حجازي إثر تحليل نفسية وفكر "الإنسان المهدور" في كتاب اصدره عام 2006 حمل نفس العنوان أن "الهدر الممارس من قبل الأنظمة الأبوية يجمد وظيفة العقل ويشل الإرادة... قضية التحرر الإنساني، تنطلق من تصفية ترسبات الهدر وتعافي النفسية الاجتماعية لاكتساب الصحة النفسية. حالة من تقبل الهدر والتعايش معه تستدعي صدمة تعيد الوعي بالإنسانية المضيعة، وتكسب الصحة النفسية ، بمعنى عودة الوعي " . التواطؤ الذاتي مع الهدر الخارجي الذي لا يستتب إلا من خلال اجتياف احكامه والامتثال لها؛ وبالتالي إعادة إنتاجها ذاتيا، هو الأخطر" [319]:
القيادة الفلسطينية، أبوية الطابع ، وهذا ما أقر به عضو باللجنة المركزية لحركة فتح، وحدد قيادة عرفات وقيادة محمود عباس بهذا التوصيف . ونقول أن أبوية القيادة طابع فلسطيني منذ الشروع في مقاومة الهجرة اليهودية أوائل القرن العشرين. وهي قيادة أسلمتنا الى النكبة ثم الى هزائم وانتكاسات ظلت تلاحقنا ، وبتنا على مشارف تصفية وجودنا كله . حلل البنية الأبوية، وكشف طابعها المتخلف الدكتور هشام شرابي في بحثه العلمي " البنية الأبوية إشكاليات التخلف في المجتمع العربي". انطلق من رؤية للمجتمعات العربية كافة تعاني نفس تركة التخلف وتكابد استبداد الأنظمة وتبعيتها للسيطرة الامبريالية . طور شرابي وصية لينين التي بقيت مغْفلة ومنسية قرابة المائة عام.
الدكتور شرابي كان محاضرا بجامعة جورج تاون، مهموما بالنتائج الكارثية لهزيمة حزيرن، وسقوط وطنه الأصلي- فلسطين - بكاملها تحت وطأة احتلال إسرائيلي اقتلاعي. في صيف 1967اطلع على الماركسية لغرض تطوير محاضراته للعام الأكاديمي القادم: "لا أعرف تجربة هزتني من الأعماق ونفذت الى أسس تفكيري... كان من نتائج التجربة أنها كشفت عن مقدرة الثقافة المسيطرة في إخضاع عقلية الفرد لقيمها وتضليله على أعمق المستويات ..." . باشر شرابي سيرورة التطهر من الفكر البرجوازي وقيمه. بهذه الذهنية وبحصيلة التمرس في منهجية العلم ومن شرفة مطلعة على واقع العالم العربي، وضع مؤلفين مرشّدين حللا عوامل الوهن بالمجتمعات العربية وحفرا عن جذر التخلف، وطرحا سبل الخلاص. وضع اولا عام 1973 كتاب- "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" ، أتبعه عام 1988 بحثا معمقا تناول مختلف جوانب مجتمع التخلف الاجتماعي والتابع للسيطرة الامبريالية ، " البنية الأبوية إشكاليات تخلف المجتمع العربي"، ونشرت ترجمته الى العربية عام 1992.
تبدي الأبوية موقفا دونيا تجاه الخارج، وموقفا مزدريا للجماهير في الداخل. يحشد النظام الأبوي حوله الجماهيراحتياطي عزوة ويحجزها عن أفكار التنوير والتحرر الاجتماعي. يستحيل تشكل مجتمع مدني في كنف النظام الأبوي: "السيد الأبوي يجحد إنسانية القاعدة الاجتماعية المقهورة؛ يفقد التعاطف مع المعذبين في الأرض والإحساس بمعاناتهم وآلامهم، ومخاوفهم وحاجاتهم. حيال هذه الحالة يصبح الكيان الوطني مجرد كيان شكلي هزيل مهدد بالانفجار في أي لحظة يتغير فيها نظام القوى" .
برز وهيمن نتيجة القيادة الأبوية على نشاط منظمة التحرير ثلاثة معالم خطيرة قوضت النهج الثوري في توجهات فتح ، حتى وهي تمارس الكفاح المسلح :
الأول، فصمت الرابطة العضوية بين الصهيونية والامبريالية، وظلت تعول على ضغوط أمبريالية ترغم إسرائيل على قبول دولة للفلسطينيين غربي نهر الأردن والتعايش معها. أفرغ مشروع المنظمة من مناهضة الامبريالية. يصدمها الانحياز الامبريالي للصهيونية وإسرائيل ، لتعود وتعلق الأمال من جديد إثر تصريح مبهم تفسره طبقا لتفكير رغبي . في كامب ديفيد الأول لم يحفظ بيغن جميل كارتر ، إذ سحب مصر من جبهة العداء لإسرائيل وورفض ضغوطه بحزم للتنازل لأصحاب البلاد الأصليين؛ بعد ذلك أشاع الصهاينة وأنصارهم في الإدارة الأميركية أن الرئيس كارتر ينوي في فترته الثانية ممارسة الضغوط على إسرائيل لصالح الفلسطينيين؛ فتم إفشاله في الانتخابات . نجح منافسه ريغان على موجات المحافظين الجدد، أعتى أنصار الصهيونية. لكن القيادة الفلسطينية لم تكف عن اوهام التدخل الامبريالي للضغط على إسرائيل. في مؤتمر أنا بوليس الذي دعا اليه الرئيس الأميركي بوش (27نوفمبر 2007) بهدف التوصل الى حل الدولتين رفض الطرف الإسرائيلي برئاسة إيهوداولمرت الاتفاق المبدئي على دولة للشعب الفلسطيني.
والتوجه الثاني، تجميد ادوار المنظمات الاجتماعية - هيئات المجتمع المدني المفترضة- من خلال نظام كوتات يعين الهيئات القيادية لمنظمات الطلبة والنساء والكتاب والصحفيين الخ ويوزعها على الفصائل وفق نسب محددة تضمن تمرير قرارات القيادة الفتحاوية. الهيئة الاجتماعية لا تحرك جماهيرها للتحرر، فقط تتمظهر عزوة ودليل هيمنة للجهة المتحكمة. لم تجر على الساحة الفلسطينية شراكات في ورشات سياسية تثقف وتحشد ، من خلالها تتحاور الاطر السياسية تحت الأضواء بروح الاحترام والتعاون .
نجم عن التوجهين توجه ثالث جمد الحراك الشعبي. فقد حرص الفصيلان الكبيران، فتح وحماس ، بما تيسر لهما من شعبية، على حجز الجماهير احتياطيا للاقتراع الانتخابي اواستعراض النفوذ السياسي لتعظيم حصتها في الكوتا، لغرض الهيمنة؛ لم يتوقف التحريض ضد شركاء الهدف، حتى وهم يشاركون في الحكم؛ "النظام الأبوي المحدث لا يسترشد بالعلم ولا يقبل المشاركة ، يتحايل كي ينفرد بالقرار، ...وسواء كانت (البنية الأبوية) علمانية ام دينية لا تستطيع تغيير المواقف لأنها لا تعرف ولا تريد ان تعرف إلا حقيقتها ولا تريد إلا فرض حقيقتها على الآخرين بالعنف والجبر إن لزم الأمر".. تعمق شرابي في الحفر عن جذور التخلف وتاريخيته وتحليل مظاهره الاقتصادية والثقافية والسياسية وطرح سبل الخلاص. الأبوية بنية المجتمعات العربية منذ ما قبل الإسلام؛ وفي العصر الحديت تعرضت لتبدلات نتيجة التماس مع الامبريالية؛ فغدت بنية أبوية مستحدثة أو محدثة، تم تحديثها بتاثير خارجي. "الأبوية المستحدثة أو المحدثة دلالة على توفر عامل خارجي حفز التطور الداخلي، دفعه الى التحول. فما ان تنطلق عملية التحديث حتى يختل التطور الذاتي الداخلي ويعتل المجتمع." ، عبارة عن مطعوميفعل الممانعة لأمراض التحديث والتنوير. أبرز مثال على نظام يتحرك داخل إطار التبعية بمسوغ التمويل والارتهان ل"المجتمع الدولي" هو السلطة الفلسطينية.
في كنف نظام أبوي لم تتم ورشات عمل تطلق الطاقات الثورية للجماهير وتغني نشاطها العملي للتغيير وتغتني بمنجزاته. أسفر تجميد الحراك الشعبي عن تعطيل دينامية التحرير، نظرا لاندماج التحرر من السيطرة الأجنبية بتحرير الجماهير من القهر والهدر المزمنين، وزجها في الحركة الشعبية الديمقراطية الواعية ورفد تفكيرها برؤية علمية تضيق حيز الخرافة والجبرية في التفكير وتضوي مسيرتها على درب التحرر والتقدم. حذر مصطفى حجازي، وهو باحث في التخلف - ميدان النفسية الاجتماعية- حذرفي كتابه "الإنسان المهدور " من أن" ألإنسان العربي يقف أمام احتمالين: استمرار الضياع في المتاهة ليتحول الى فضلات بشرية والانضمام الى الفئات المستغنى عنها ؛ او التخلص من هوية الفشل وارتهاناتها وبناء هوية النجاح تتمثل في وجود مليء ذي معنى يتصف بالتمكن وحسن الحال".