حول مفهوم المجتمع المدني وتطوره (ج1)


غازي الصوراني
2021 / 7 / 2 - 16:28     

للوهلة الأولى قد يبدو للبعض أن مفهوم »المجتمع المدني« مفهوم بسيط أو سهل التناول، لكونه بات مألوفاً كشعار ثابت في الخطاب المطلبي كافةً للقوى السياسية، سواء المشاركة في الحكم أم المعارضة له، ولا سيما أنه بات عنواناً لمعظم الحوارات والندوات التي تعقدها القوى السياسية، أو تلك التي تقيمها أو تروج لها المنظمات غير الحكومية في البلدان العربية، فقد »نجحت« هذه العبارة في القفز والوصول إلى أعلى سلم الأولويات(*) في مساحة واسعة من الخطاب العربي النخبوي، بعد أن تراجعت إلى قاع السلم، مفردات وعبارات ومفاهيم كانت –وما زالت- أقرب إلى التفاعل مع الواقع الاجتماعي، وأكثر قدرة على مخاطبة الوعي النخبوي، والوعي العفوي الجماهيري في آن واحد، وأقصد بذلك مفاهيم التحرر القومي والتنمية والعدالة الاجتماعية والتقدم والوحدة والاشتراكية والعداء للإمبريالية على الرغم من حدة الصراع مع العدو الصهيوني ومشروعه التوسعي الاحلالي الاستيطاني الكولونيالي.

لكن المألوف ليس بالضرورة بسيطاً ولا سهل التناول أو التطبيق؛ فعلى الرغم من حالة الذيوع والانتشار لعبارة »المجتمع المدني« في بلادنا، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، إلا أن هذا، لا ينفي الطابع الطارئ والمستحدث الوافد والكمي لعملية انتشار هذا المفهوم من جهة، ولا ينفي واقع الإبهام والغموض الذي يشوب الحديث عنه في الإطار العام للمثقفين أو القوى السياسية من جهة أخرى، وذلك في موازاة اغتراب هذا المفهوم، الذي يصل أحياناً لدرجة القطيعة مع الشرائح والأنماط الاجتماعية العربية المتباينة في سياق تطورها الراهن، وهو سياق بطيء الحركة تشده خيوط الماضي في ظروف دخل العالم عبرها إلى دروب من التقدم لا مكان فيها لأحد من الماضي. لكن الإشكالية البالغة التعقيد التي تواجه قوى التغيير الوطني الديمقراطي في بلادنا، تتبدى في قوة الوجود المادي والمعرفي لمعطيات »الماضي« ورموزه التي مازالت ماثلة في الحاضر عبر تكيفها وتفاعلها معه في إطار عملية إعادة تجديد إنتاج التخلف، في أنظمة الحكم المطلق وعلاقاتها الاجتماعية، التي قد تختلف من حيث الأسلوب أو الشكل الأتوقراطي، الثيوقراطي،أو البيروقراطي / الكومبرادوري، لكنها خاضعة -بصورة عامة أو نسبية- لشروط التبعية من جهة، ولشروط اقتصاد السوق والخصخصة وقواعدها المنفلتة من جهة أخرى.

هذا المشهد الملتبس، لا يعني أن نبدأ – نحنُ العربَ – من نقطة النهاية أو آخر الشوط الذي وصل إليه الآخر، وأقصد بذلك النظام الرأسمالي وتطوره الى نظام العولمة المتوحش الراهن. لأن الحديث عن المجتمع المدني في بلدان الوطن العربي هو حديث عن مرحلة تطورية لم ندخل أعماقها بعد، ولم نتعامل مع أدواتها ومعطياتها المعرفية-العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والصناعية-بصورة إيجابية، إذ أنه على الرغم من كل ما يتبدى أمامنا من مظاهر العصر الحديث، أو الحداثة – في العديد من البلدان العربية - فإن ذلك لا يمثل سوى شكل ظاهري استهلاكي في الغالب، لمجتمع تابع غير متبلور، تتعدد وتختلط فيه الأنماط الاجتماعية كلها بصورة هجينه، وتتيح للأنماط القديمة إمكانية السيطرة في كثير من بلدانه، يتجلى ذلك في بنية العواصم والمدن العربية -التي نفترض أن تكون الحاضنة أو الحامل الأساسي والأول -عبر علاقات وقوى إنتاجية متقدمة- لمفهوم المجتمع المدني وبلورته في المجتمع العربي، »وهي بنية -مدن عربية- متريفة أو هي أصلاً ريفية«، إضافة الى تكونها من وحدات (أحياء) ذات تجمعات بشرية تتمحور حول خلفيات اجتماعية أو مناطقية أو طائفية، محكومة بهذا الشكل أو ذاك بالمنظومة الثقافية العربية الإسلامية إلى تشكل المرجعية المباشرة والفورية لمعظم الفئات الاجتماعية أفرادا أو جماعات سواء في الريف أم »المدينة« المتريفة، وارتباطاً بذلك هناك مسألة تطور الطبقة الوسطى وعلاقتها (الهشة) بـ »المجتمع المدني« نظراً لعدم استقلاليتها بل وتبعيتها للدولة، وضعف قدرتها على إحداث ضغوط موازية باتجاه تفعيل الديمقراطية وقيام مجتمع مدني، والسبب في ذلك يعود الى أن الطبقة الوسطى ارتبطت إما بالتكوينات الرأسمالية الخارجية أو باقتصاد الدولة العربية وانفاقها وبالتالي هيمنتها، على العكس تماماً عن تطور هذه الطبقة في أوروبا(1)، إنه مشهد يبرر التساؤل المشروع: هل هنالك مجتمع حديث في بعض هذه البلدان؟ قبل أن نشرع بالسؤال الثاني، هل هنالك حقاً مجتمع مدني فيها؟ إنه السؤال الذي يطرحه د. عزمي بشارة بصورة مباشرة في الحالة الفلسطينية(2).

من هنا تجيء أهمية المراجعة التاريخية لنشأة مفهوم المجتمع المدني وحركته ومضامينه ودوره في انتقال عملية التطور وصعودها في البلدان الأوروبية، من مرحلة العصور الوسطى الإقطاعية، إلى مرحلة الرأسمالية أو عصر النهضة، وما لهذا الدور من أثر في إحداث القطيعة مع الفكر الغيبي من جهة، ومع العلاقات الاجتماعية السياسية والاقتصادية الإقطاعية من جهة أخرى، آخذين بعين الاعتبار استحالة نقل التجربة، بل إدراك المنهج والأدوات والمفاهيم المعرفية واستخدامها في واقعنا العربي الذي يختلف في تطوره الاجتماعي – الاقتصادي، بصورة جذرية. عن سياق التطور في أوروبا والغرب الرأسمالي عموماً.

وبالتالي فإن إدراك الدلالات المعرفية لمفهوم المجتمع المدني في القرنين السابع عشر والثامن عشر يفترض إدراك المقومات والعلاقات الداخلية والخارجية لعصر النهضة أو الحداثة، منذ بدايته، ومن ثم للنظام الرأسمالي بشموليته، في إطار المجتمعات الأوروبية التي نشأ وترعرع فيها الفكر الليبرالي كتجسيد لذلك المفهوم. لأن القيمة الأساسية لأفكار الحداثة(*) تكمن في إسهاماتها الفاعلة في تطوير مكانة »المجتمع المدني« والدولة الليبرالية في آن واحد داخل المجتمع الصناعي الحديث، باعتبارهما صيغتين منسجمتين لمعادلة واحدة.

هذه المعادلة أو الإطار الناظم لكل من مفهوم المجتمع المدني والنمط الليبرالي أسهمت بصورة واضحة ومباشرة في تنظيم العلاقات الرأسمالية الجديدة، أو الصراع الطبقي بالاحتكام إلى طرفي المعادلة المتوازيين، الدولة الديمقراطية – الليبرالية ومؤسسات المجتمع المدني.

لقد كان تكريس هذه المعادلة داخل النمط الليبرالي في البلدان الأوروبية أحد العوامل المنشطة والدافعة لعملية الإنتاج والتراكم الرأسمالي فيها، ثم التوسع الرأسمالي وتسارعه اللاحق في الانتشار في الأسواق العالمية، خصوصاً في البلدان الأقل تطوراً، والبلدان المتخلفة والمستعمرات، والتحكم فيما بعد، بمجمل عملية التطور السياسي الاجتماعي والاقتصادي لهذه البلدان، بما خدم عملية التوسع الرأسمالي من جهة، وحال دون تطور آليات مفهوم المجتمع المدني أو تفعيلها من جهة أخرى. وقد ساعد على ذلك أن هذه البلدان بقيت محكومة بهذه الدرجة أو تلك لآليات التبعية(*) التخلف العام وبنيته الفوقية وأدواته الاجتماعية في المجتمع الزراعي، شبه الإقطاعي، الريعي، المحكوم بالعلاقات العشائرية القبلية. وهو مجتمع يتميز – كما هو معروف- بالرتابة والبطء الشديد في الحـراك الاجتماعي الناتج عن استمرار هيمنة البنى الاجتماعية-الاقتصادية التقليدية والتراثية القديمة-. نلاحظ تسارع الحراك الاجتماعي بصورة شاذة في حالات خاصة مرتبطة بالفساد البيروقراطي للأنظمة العربية- وفي هذا الجانب، فإن التشابه بين مجتمعاتنا العربية والمجتمعات الشرقية الأخرى في آسيا والهند وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، لم تفرضه المصادفة، بقدر ما فرضته أشكال التماثل في التفكير والمنهج والأنماط والعلاقات الاجتماعية السائدة، والتبعية والتخلف، على الرغم من اختلاف الأديان واللغة والتقاليد.

ومع استمرار بقاء هذه المجتمعات في إطار النمط الزراعي،شبه الرأسمالي، شبه الإقطاعي- العشائري القديم، فإن عملية التوسع لبلدان المركز الرأسمالي لم تجد صعوبة تذكر في السيطرة عليها والتحكم في مسار تطورها السياسي والاقتصادي اللاحق، بما يخدم هيمنة المصالح الرأسمالية وتفردها من جهة، ويَعوقُ عن النهوضِ الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ والسياسيِّ لتلك المجتمعات أو امتلاكها لمقومات التقدم والحداثة أو المجتمع المدني من جهة أخرى.

لذلك فإن الحديث عن صيغة المجتمع المدني وفق النمط الليبرالي وإمكانية تطبيقه أو توفر مقوماته من حيث الشكل والمضمون في بلادنا العربية أو بلدان العالم الثالث عموماً، فرضية غير قابلة للتحقق في ظل أوضاعها الراهنة، لأنها تتخطى التركيبة الاجتماعية الاقتصادية التابعة والمشوهة في هذه البلدان، أو أنها تتعاطى مع المفهوم المجرد للمجتمع المدني في الإطار السياسي – الاجتماعي الضيق للنخبة الليبرالية من المثقفين، وبعض الأنظمة الحاكمة بما لا يضر بمصالح هذه النخب أو حلفائها في الداخل والخارج.

ويكفينا للتدليل على صحة ما تقدم أن الأنظمة التسلطية في العالم الثالث تبدو مكرهة اليوم، في ظل سيادة آليات العولمة، على الأخذ ببعض أشكال »النمط الليبرالي الديمقراطي« أو الانفراج السياسي بصورة متفاوتة وجزئية ارتباطا باحتياجات أو ضرورات الانفتاح الاقتصادي وهيمنة القطاع الخاص الطفيلي -الكومبرادوري -البيروقراطي من ناحية، وبما يخدم مصالحَ المركزِ الرأسماليِّ المعولمِ ووكلائِه على المستوى الإقليمي (باكستان- تركيا -كوريا الجنوبية-إسرائيل.. الخ) من ناحية ثانية.

المسألة الأخرى في هذا السياق أننا يجب أن ندرك، بصورة واضحة، طبيعة الفرق الجوهري بين نشأة »الرأسمالية« في العالم الثالث، والرأسمالية في البلدان الغربية. ففي الغرب، بنت الرأسمالية قوتها الاقتصادية أولاً، ثم استولت على السلطة السياسية. أما في دول العالم الثالث، فالاستيلاء على السلطة يتم أولاً ثم يجري الحديث عن »بناء القوة الاقتصادية«، بما يعزز القاعدة المتبعة والمتداولة في العالم الثالث التي تقول أن السلطة مصدر الثروة وبالتالي فإن الفجوة بين الإطار الضيق لأصحاب السلطة المستبدة التي تكاد تفقد وعيها الوطني من جهة، والإطار الواسع للجماهير الشعبية الفقيرة من جهة أخرى، ظاهرة قابلة للتزايد والاتساع عبر التراكم المتصاعد للثروة -ذات الطابع الطفيلي عموما- الذي يؤدي – كنتيجة منطقية أو حتمية – إلى تزايد أعداد الجماهير الفقيرة المقموعة والمضطهدة تاريخياً،والتي ستتعرض إلى مواجهة أوضاع لا تحتمل، وبالتالي فإنها تصبح مهيأة للإحباط أو اليأس، أو للاقتناع بالأساليب التي تدعو إلى استخدام العنف – تحت غطاء ديني أو اجتماعي- أكثر بما لا يقاس من قناعتها بالمنافسة الانتخابية الشكلية أو الهامش الديمقراطي الليبرالي الضيق للخلاص من وضعها اليائس.

فإذا كان واقعنا العربي على هذه الشاكلة من التخلف والتبعية والخضوع، الى جانب التطور الاجتماعي الاقتصادي المشوه والقهر الوطني والقومي، كيف يمكن لهذا الواقع أن يتعاطى بصورة جدلية مع مفاهيم المجتمع المدني بالمعنى التاريخي والحديث والمعاصر؟ خاصة وأن هذا الواقع »لا يمكن فيه الحديث بَعد عن خارطة طبقية مستقرة لكل بلد عربي على حدة، وتالياً للوطن العربيِّ أجمعَ«(3).

سؤال لا أدعي سهولة الإجابة عنه، فهذه الإجابة ستظل مرهونة بعملية تطور الواقع الموضوعي (الطبقي) المعاصر في بلدان الوطن العربي من جهة، وبنهوض الأحزاب التغييرية الديمقراطية الثورية والعقل الجمعي الطليعي في هذه البلدان من جهة ثانية.

ذلك لأن »المجتمع المدني« على الرغم من كونه مفهوماً نظرياً مجردا وليس شيئاً جاهزاً، إلا انه -أيضا- مفهوما ولد وتبلور مع ولادة وتبلور المجتمعات البورجوازية والعلاقات الرأسمالية والصراع الطبقي في اواخر التشكيلة الاقطاعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وبالتالي فهو -بالنسبة لنا- أداة نظرية لا يمكن أن نلمسها كحقيقة تجريبية متطورة تاريخياً أو مطبقة – كلياً أو جزئياً - في الواقع العربي المعاصر، بالرغم من اجتهادات بعض الأكاديميين والمثقفين العرب المخالفة لهذا الاستنتاج، وأقصد بالذات تلك الاجتهادات التي ترى في المؤسسات الارثية والعائلية والعادات والتقاليد ولجان الزكاة والأحزاب القديمة، جزءُ من هذا »المجتمع المدني« تاريخياً!(*)

على أي حال، فإن الطابع المستحدث والملتبس- عند البعض- لهذا المفهوم، رغم ذيوع انتشاره، يتطلب إدراكاً أولياً لتطوره التاريخي ولإبعاده ومقوماته الفكرية، إلى جانب تطبيقاته في المجتمعات الأوروبية كمقدمة تُسِّهل الوصول – بالمعنى النسبي – إلى تحديد مكانة »المجتمع المدني« في بلادنا.

وهذا يستدعي التعرض إلى محورين:

المحور الأول: يتناول نشأة مفهوم المجتمع المدني وتطوره في الفكر الحديث والمعاصر للحضارة الرأسمالية الغربية.

المحور الثاني: ويتناول الأزمة الاجتماعية في بلدان الوطن العربي وغياب الأسس المادية لمفهوم المجتمع المدني وآفاق المستقبل.

يتبع..




(*) يقول د.الطاهر لبيب: »إن مفهوم المجتمع المدني عندنا بلا تاريخ (كما حصل لهذا المفهوم في الغرب) وهذا سبب الحرج العلمي في استعماله، إن الاستعمال الطارئ لهذا المفهوم في بلادنا يعبر عن حالة طوارئ في الفكر العربي ولا يحيل الى ممارسة تم تنظيرها ولا الى تنظير واقع تم ممارسته، حتى الدولة التي نشأ ضدها تستعمله لتحديد من هم أعضاؤه« ومن هم »خارجون عنه«.. (المجتمع المدني في الوطن العربي-مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت-1992-ص357).

(1) د.متروك الفالح -المجتمع والديمقراطية والدولة في البلدان العربية- مركز دراسات الوحدة- بيروت -2002- ص12.

(2) د.عزمي بشارة، مساهمة في نقد المجتمع المدني، رام الله: مؤسسة مواطن، الطبعة الأولى، ص9، كانون الأول/ديسمبر، 1996.

(*) إذا كنا نتفق على أن الفرق الزمني الذي يفصلنا كمجتمع عربي عن شكل ومضمون الحداثة والنهضة والليبرالية والمجتمع المدني التي نشأت وترعرعت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا،أكثر من مائة عام، فما هو -يا ترى- الفرق الزمني الذي يفصلنا عن الحضارة الغربية اليوم في عصر العولمة وثورة العلم والاتصالات والمعلومات؟؟ ألسنا بحاجة الى ثورة تغييرية تطال كل جوانب البنية المجتمعية العربية بكل تفاصيلها قبل أن نتحدث عن المجتمع المدني؟

(*) التبعية –كما يقول د.إبراهيم العيسوي (قضايا فكرية - يناير 1986) هي ظرف موضوعي تشكل تاريخيا، ينطوي على مجموعة علاقات اقتصادية وثقافية وسياسية وعسكرية، تعبر عن شكل معين من أشكال تقسيم العمل على الصعيد الدولي، يتم بمقتضاها توظيف موارد مجتمع معين لخدمة مصالح مجتمعات أخرى تمثل مركز أو قلب النظام الرأسمالي العالمي. وتؤدي أوضاع التبعية الى تعطيل الإرادة الوطنية للدولة التابعة وفقدانها السيطرة على شروط إعادة تكوين ذاتها أو تجددها، بحيث تعتمد الدولة التابعة ليس على مواردها المحلية، وإنما على المعونات والتكنولوجيا من المراكز الرأسمالية بهدف المحافظة على الدور المتدني للدول التابعة في التقسيم الرأسمالي العالمي للعمل، واستمرار الطبيعة الذيلية للكيان الاقتصادي لهذه الدول، بحيث تبقى البنية الاجتماعية-الاقتصادية للدول التابعة بنية متخلفة، بمعنى أنها بنية فاقدة للتكامل الذاتي تتسع فيها الفجوة بين هيكل الانتاج وهيكل الاستهلاك، حيث ينتج المجتمع ما لا يستهلك، ويستهلك ما لا ينتج. فالتبعية إذن هي جوهر التخلف (الى جانب العوامل الداخلية وأهمها بقاء سيطرة أنماط التطور القديمة وتداخلها الفج مع الأنماط الحديثة في إطار ما يسمى بثقافة التخلف المحكومة بالماضي في إطار عام من الاستبداد والفساد).

(3) د. محمود عبد الفضيل -التشكيلات الاجتماعية الطبقية في الوطن العربي-مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت-1988-ص108.

(*) هناك أكثر من تعريف ومفهوم للمجتمع المدني: يقول د.عزمي بشارة »المجتمع المدني هو نتاج الديمقراطية وليس قاعدتها« ويقول أيضاً »لا شك أن اللامساواة الحادة اجتماعيا لا تسمح بمشاركة سياسية أو اجتماعية جاعلة عوضا عن ذلك مجتمعاً مدنياً نخبوياً، أي مناقضا لذاته لآن مدنيته لا تقوم على المواطنة، وإنما على الموقع الطبقي، ولذلك »فإن مرحلة تشييد المجتمع المدني في عالمنا العربي اليوم، تعني تحقيق الديمقراطية، إذ لا يجوز أن نقفز عن المراحل الضرورية مثل تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية من أجل تحقيق مفهوم معاصر للمجتمع المدني« (مساهمة في نقد المجتمع المدني-مصدر سبق ذكره-ص30،44)، ويقول د. محمد عابد الجابري »أن المجتمع المدني هو المجتمع الديمقراطي الذي تتوفر فيه حقوق المواطن والتعددية واستقلال القضاء« (مجلة المستقبل العربي-عدد 197-ص5)،أما عبد القادر الزغل فالمجتمع المدني عنده هو »مطلب البرجوازية في مرحلة التحول الكبير لأوروبا الذي كانت تدعمه الأيديولوجية الليبرالية،فهو مفهوم وقع في القرن الثامن عشر لمجابهة التراث الاستبدادي للدولة الأوروبية« (المجتمع المدني في الوطن العربي-مركز دراسات الوحدة - بيروت - 1992 - ص438).وفي هذا السياق فإن ندوة »المجتمع المدني« التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية –بيروت- 1992 تبنت تعريفا للمجتمع المدني على أنه »يقصد به المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المستقلة عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة كالمشاركة في صنع القرار السياسي على المستوى الوطني عبر الأحزاب السياسية،والدفاع عن مصالح العمل النقابي والمساهمة في العمل الاجتماعي والتنمية الى جانب نشر الوعي الثقافي …« ويطرح طارق البشري تصوراته عن الدولة والمجتمع والديمقراطية مشيرا الى »فقدان التوازن بين الدولة وبين التكوينات الاجتماعية الفرعية (المجتمع الأهلي) وأن هذا الخلل وَلَّد الاستبداد (الحياة 17/7/1997)، وهناك تعريفات أخرى،نتفق مع مضمونها بصورة عامة »المجتمع المدني هو المجتمع الذي يقوم فيه النظام السياسي أو سلطة الدولة نتيجة اتفاق أفراد هذا المجتمع بإرادتهم الحرة« أو هو »المجتمع الذي تقوم فيه دولة المؤسسات الديمقراطية بالمعنى الحديث للمؤسسة (برلمان-قضاء مستقل-أحزاب-نقابات وجمعيات …الخ)، أو هو »المجتمع الذي تتوفر فيه حقوق المواطن،بمعنى توفر قيم المدينة ضد قيم التخلف« أو هو »المجتمع القادر بصورة ديمقراطية على مواجهة مظاهر الخلل والفساد والتعسف من قبل الدولة« وكل هذه التعريفات تأتي في إطار المجتمع الرأسمالي وهي لا تلغي صحة التعريف الماركسي الذي يرى المجتمعَ المدنيَّ مجتمعَ الصراعِ الطبقي في إطار الديمقراطية البرجوازية.