حول شيوعيون في المساجد وشيوعيون في النشاط الاجتماعي


عبدالرزاق دحنون
2021 / 7 / 1 - 14:44     

سجال
كتبه
أحمد الفاضل هلال
صحيفة الميدان العدد 3811 الثلاثاء 29 يونيو/حزيران 2021

إن الكثير من المواضيع الحساسة وذات الأهمية الاستراتيجية لا تجد حظها من التفاعل بين القراء في إعادة الموضوع إلى دائرة التداول والحوار، وهذا لعكس حالة الحيوية الاجتماعية التي تنبت عميقاً في جذور القضايا. وإذ يمكن القول بأن هناك انسداداً في المشاركة في الحوارات وإبداء الرأي. إلا أن هناك نوعاً ينشط في ردود الأفعال والشخصنة والتي سرعان ما تختفي تماماً كالتقاط الإنفلونزا في اللقاءات العابرة. لقد أصبحنا نميل للطرق السهلة والمريحة في التعبير عن الموافقة بإرسال علامات النصر أو التأييد، يبدو أن الثلاثين عاماً من تحكم وسيطرة الحكم الفاشي قد تركت بصمات من اللامبالاة وعدم الاهتمام في إطار الاجماع السكوتي. وبهذا أصبح معطلاً كل ما يمكن أن يساعد في إثراء الحوار والمشاركة في فتح الجوانب المجهولة أو تلك التي لم تجد الإضاءة الكافية، وهذه حالة تشبه الإعلان عن موت الحوار وشكل الحيوية والدينامية. صحيح تتم في العوالم السفلية البعيدة عن الأضواء في أشكال ذات فائدة محدودة، لأنها تنخر في داخل قصبة القضايا كالسوسة، وخاصة في تلك المواضيع التي تتعارض مع المرجعيات والأيديولوجيات السائدة، والتي ترى في الأطروحات والمقاربات الأخرى استيراداً لحساسيات تتعارض مع منطلقاتها التي صنعت منها حيكورة من المحرمات للتحكم في الحيز العام في سبيل الحفاظ على المسلمات السابقة والإبقاء على الجمود الذي يعني مشروعها الثقافي والسياسي.

في جريدة الميدان العدد 3795 بتأريخ الخميس 20 مايو ورد مقال للأستاذ عبد الرزاق دحنون، بعنوان (شيوعيون في المساجد). إن قضية الدين واحدة من أكثر القضايا تعقيداً، لأن دين الله الذي يدعو لقيم المساواة والعدل والمحبة ومكارم الأخلاق والتكافل قد تم الاستيلاء عليه بواسطة الدولة والسلطة السياسية، ليعاد إنتاج استخدامه كأداة في الصراع السياسي ولتكريس الاستبداد والظلم وملكوت الأغنياء.

يبدو جلياً أن قضية الدين تتجاوز الأطروحات المريحة في تعريف التدين بأنه مجرد مسألة شخصية، هذا التوصيف يعجز عن إدراك أن سلطة الدولة حولته إلى أيديولوجية وأسلوب في الصراع السياسي والاجتماعي المحتدم، لكون الدين مكون وجداني وذا تأثير كبير وواسع في حياة البشر، هذا مع التأكيد على أن المكان الوحيد والطبيعي للدين هو الحياة الخاصة والفردية. وعندما يتمدد الدين كأيديولوجية في الحياة العامة على مزاج الدولة، فإن هذا يتطلب إعداد دراسة للواقع تتجاوز النطاق الشخصي، صحيح أن الدين يقوم على الإيمان واليقين وأخذ المواضيع كما هي، وهذا عكس مناهج العلم التي تقوم على التجارب والشك وعدم الثبات. فالدين لا يمكن أن يصبح مرجعاً علمياً كما يراد توظيفه أو أن تترجم نصوصه إلى لغة قانونية في مواجهة الكثير من المستجدات وخاصة القضايا الأكثر معاصرة والتي تتطلب الاجتهاد والموضوعية والعقلانية والكدح الفكري وأعمال العقل.

إن دراسة الواقع تأخذ في الاعتبار عدم الإسقاط والاستنساخ فهناك تفاوتات تاريخية وثقافية واجتماعية بين البلدان حيث الوعي والاستنارة وقبول الآخر وجدل الأفكار ومنطق الحوار، فالأديان هي رسائل ودعوات للمحبة والعدل والتسامح والقيم الأصيلة. ودراسة الواقع لأي بلد هي البوصلة التي مكن الاهتداء بها في طرح البرامج، لأن هناك بلدان منفتحة على الآخر وأخرى مغلقة أمام أعمال العقل، وهناك بلدان تتوفر فيها الحريات وأخرى يسود فيها الاستبداد والفكر الأحادي وهذا النمط ينطبق على البلدان العربية والإسلامية التي تريد أن تكرس الدين في خدمة التخلف واستخدام الخصوصية كأداة سلطوية للهيمنة وفلسفة الفقر والخراب هي الأرزاق والنصيب في الدنيا.

وأما على مستوى التناقضات والاختلافات لا يمكن تقديم أو أنتاج أحكام ذات قاعدة عامة مشتركة، يمكن أن تشكل إطاراً مرجعياً للجميع في الظروف الحالية الأكثر اختلافاً ولكن يمكن عكس التجارب للاستفادة والإلهام على الرغم من وجود تقاطعات في العقيدة والنظرية الواحدة.

كل دساتير الحزب الشيوعي السابقة والحالية تكلمت بوضوح عن احترام الأديان وكريم المعتقدات، ودورها في صياغة الوجدان الروحي للإنسان وترسيخ القيم الأخلاقية والتضامن والتكامل وتحرير الدين من قبضة التجار والسماسرة، مع العمل على وضع الدين في مكانه الطبيعي في النضال من أجل المساواة والعدالة والتصدي للظلم والمطففين والمحتكرين. إلا أن القوى التقليدية وتجار الدين كانوا ولازال ليس أمامهم من سبيل غير الانحراف بالعقيدة وتحويل الصراع السياسي والاجتماعي وكأنه بين الكفر والإيمان. ولقد أدركت القوى الثورية في السودان ومنذ وقت مبكر الاحتيال في استخدام الشريعة والحاكمية، بأنها دعوة غير أصيلة في لغة الصراع السياسي وإلا أنها ظلت لغة دارجة في السياسة.

وفي التأريخ البشري استخدمت مصطلحات دعائية وتحريضية مشحونة بجرعات سياسية في التخلص ومطاردة الخصوم الفكريين تحت مسميات السحر والدجل والزندقة، لتطال الاتهامات علماء ومفكرين ومجتهدين من أمثال الحلاج وابن عربي وابن المقفع ومحمود محمد طه، حسين مروة وفرج فودة إلى نصر حامد أبوزيد....الخ على الرغم من أن هذه الكوكبة المتفردة كانوا من المسلمين والموحدين وملتزمين بقيم الدين. إلا أن استعادة الدين القويم أصبح إحدى أدوات الضبط السلطوي وأيديولوجية سياسية في يد السلطة والجماعات المتحالفة معها.

ومع تطور حركة التطور الاجتماعي وانتشار قيم العولمة مؤدلجة استخدمت القوى الرأسمالية الشيوعية كفزاعة بدلاً من الأساليب السابقة المتخلفة وبما أننا مجتمعات استهلاكية ولا علاقة لنا بإنتاج المعرفة والقيم المادية وغير المادية، فلقد حققت القوى التقليدية والمحافظة والخصوم التاريخيين المتحالفين مع الرأسمالية العالمية وعملائها في المنطقة، اكتشافاً عبقرياً في تحميل عجز قصورها للشيوعية، وأضحت الشيوعية في خطابهم هي الكفر المبين وهي معاداة القيم وهي زواج الأمهات والأخوات ولكنهم على رغم ضخامة التضليل، فإنهم لم يجدوا سابقة في التأريخ للاستدلال لاستخدامها كشهادة تضاف لسجل التزوير ولكن ينتظرون إلى حين أن ينجب تزاوج الحصان بالحمار غزالة شقراء. وهذه الجماعات التقليدية على الرغم من امكانها الحديث عن كل شيء ولكنها لا يمكن أن تتجرأ أن تتحدث عن ملكية وسائل الإنتاج بطبيعتها الاجتماعية والعدالة والفوارق الاجتماعية التي تصبح قسمة وقدراً.

إلا أن المهم الجزم بأن الإلحاد ليس مدخلات عمل ولا من منتجات الشيوعية. ولقد سبق الإلحاد الشيوعية، بل هو أحد منقولات الماضي في الجدل حول الكون. إن الملحدين موجودون في كل المجتمعات كأفراد وجماعات وهم جزء من إفرازات الواقع وليس نتاج قرارات. لقد أكد الشيوعيون ولا زالوا يؤكدون بأن نضالهم ليس ضد السماء والله ولكن نضال في الأرض ضد القوى الاجتماعية التي تعمل على توظيف الدين في الاستغلال والظلم تفسير الدين لمصلحة الأقوياء. والماركسية هي منهج وليست عقيدة، ومن خلال هذا الفهم يناضل الشيوعيون من أجل خلق ظروف أفضل للناس في حياتهم في الدنيا، أما الحياة الأخرى فهذه قضية أخرى تقع في إطار الأمور الشخصية لأن الدولة ليس من اختصاصاتها أو الأحزاب والجماعات إدخال الناس الجنة أو النار ولا تملك كوتات حصرية في هذا الخصوص.

وعلى العموم فإن الخصوم الفكريين ليس أمامهم من فرصة للتوبة النصوحة من المضي في معاداة الشيوعية، ما داموا ارتضوا العمالة للرأسمالية العالمية. وبناء على ما تقدم فأن الشيوعيين السودانيين لا يخجلون ولا يأبهون عن الإفصاح عن التزامهم بالماركسية وهذا ليس للمزايدة والعناد والاستعلاء، لأن ليس هناك ما يخيفهم أو يجرح وطنيتهم ولا تذكر أحداث في التأريخ المعاصر إلا وكان الشيوعيون جزء من المكونات التي أثرت وبصمت على التأريخ، وهم موجودون بين أبناء الشعب يصيبون ويخطئون. إذا القوى الظلامية ترى في الشيوعية لعنة سوداء، فإن الشيوعيون لا يتحسسون من كلمة الشيوعية ولقد ساروا في دروبها القاسية والموحشة عقوداً، بدون أن تكون لهم مرجعية فقهية في التقيه والتخفي عن المنازلة. عركتهم المحاكم والسجون والتشريد وشهدت لهم أعواد المشانق عن المآثر في الجسارة والبطولة. ولكن يجب الاعتراف بأن معاداة الشيوعية واستخدامها كأيديولوجية للرأسمالية وقوى التخلف الاجتماعي يتطلب جهداً مضاعفاً من الشيوعيين ليس لمجرد دحض الادعاءات والعمل التحريضي المنظم ولكن للمزيد من الاندماج والانخراط في الأنشطة الاجتماعية لأن المعايشة هي أفضل المختبرات للكشف ومعرفة المواقف ولوضع التكتيكات والاستراتيجيات العلمية والعملية. وفي إطار إشباع الاحتياجات الروحية للفرد يسلك الشيوعيون أيضاً طرقاً مختلفة تعبر عن المكنونات الفردية والثقافية والبيئية، فالحزب لا يدعو ولا يعمل على سلخ الانتماءات الأكثر خصوصية للفرد أو إجبار الأفراد على اختيارات معبأة وجاهزة. أن التنوع موجود ومعاش، وهو الذي يعبر عن حق الاختيار على أساس الحرية وليس على أسس قسرية تتنافي والحقوق. وفي سبيل عكس تجربة الشيوعيين السودانيين في التعامل مع مسألة الدين والتدين فأن أفضل عنوان يمكن أن يكون للتجربة هو –شيوعيون في مجالات النشاط الاجتماعي- بدلاً من (الشيوعيون في المساجد) ، لأن لكل من المسجد والكنسية والكنيست لها قدسيتها ورمزيتها للمريدين وأن الأشخاص يذهبون على أساس قرار فردي، وأن هذه الأماكن المقدسة لا يسمح بأن تكون أماكن للتراشقات والملاسنات ذات محتوى سياسي. وكل مسلك يجب رده إلى طابعه الشخصي وفي إطار التثقيف لتجربة الشيوعيين في المجال الاجتماعي، يمكن القول بأنهم قد أعدوا دراسة للواقع الذي يعيشون فيه من منظور رؤيتهم للعالم واستناداً لإملاءات ودكتاتورية الواقع وليس ما تحكي وتروي النصوص والأقوال، مع استصحاب حقوق المواطنين في الاختيار الحر في اشباع احتياجاتهم الروحية. وأن كل ما يسعى إليه الشيوعيون هو تركيب نظارة جديدة للقراءة وتجاوز أزمة استبانة ملامح الواقع.

وفي إطار قراءة الواقع أنخرط الشيوعيون في تأسيس النشاط التعاوني بالعمل في تأسيس الجمعيات التعاونية الانتاجية والاستهلاكية لكسر الاحتكار والجشع وفي إطار تعميم المعرفة باعتبارها حقاً فقد اسهموا في تكوين حلقات محو الأمية وقيادة المبادرات حملات العون الذاتي في بناء المدارس والشفخانات وقيادة حملات النظافة وإصحاح البيئة وإقامة الأيام العلاجية والتوعية الصحية ومحاربة العادات الضارة، بجانب مساعدة الفرق الفنية المهتمة بالتراث، بجانب المساعدة في إنشاء الأندية الثقافية والرياضية والروابط القبلية وتكوين الاتحادات والنقابات والمنظمات ومعارض للكتب.

أما على مستوى النشاط الروحي وبدون إيحاء أو تدخل أو توجيه من الحزب، نجد أن هناك أعضاء يمثلون انفسهم، وهم أئمة مساجد وتجد أعضاء في لجان إعمار المساجد وحلقات القرآن والذكر وهناك من يحجون وملتزمون بأداء الشعائر والطقوس الدينية وملتزمون بإقامة مناسباتهم الاجتماعية وفق التقاليد والأعراف الاجتماعية السائدة، ويواصلون الأرحام ويتصدقون على غيرهم وهذه مقاربة وقراءة للواقع.

أنه لمن الصعب جداً تجزئة الماركسية، لأنها منهج متكامل يتداخل ويتشابك فيها الاقتصادي والاجتماعي بالسياسي والفكري وبدون ذلك الإطار الفكري اختلفت الماركسية في شيء عن سائر النظريات الاجتماعية التي اندثرت والتي وقفت أمام عتبات التفسير والتي أبعدها من القدرة على اجتراح طرق للتغيير الجذري. أن النشاط الاجتماعي هو مدخل مهم للنشاط السياسي الواعي. ولا يمكن أن يكون بديلاً له.

إن المثقفين هم العمود الفقري لأي مشروع سواء أكان اجتماعياً، ثقافياً أو سياسياً. وكل ثورة بدون مشروع ثقافي لا يمكن أن تحيا وأن كتب لها البقاء فأنها تصبح مجرد حالة مشوهة في مسار التطور الاجتماعي.

ويمكن أن نضيف بأن للشيوعيين وثيقة في إطار التنظير لملامسة وتحليل الواقع، وهي إصلاح الخطأ في عمل الحزب الجماهيري التي جسدت مضامين التعلم من الجماهير ومنها وإليها والسلوك القويم وعدم استنساخ التجارب والتعامل الحي مع احتياجات الواقع والتواجد في صفوف الجماهير واحترام خياراتها الروحية. سياحة في حياة متدافعة مع الكاتب عبد الرزاق دحنون مع كل الاحترام والتقدير.

تحميل
صحيفة الميدان العدد/3795/ تاريخ الخميس 20/5/2021
file:///C:/Users/abd%20alrzak/Downloads/3795%20(2).pdf
صحيفة الميدان العدد/3811/ تاريخ الثلاثاء 29/6/2021
file:///C:/Users/abd%20alrzak/Downloads/3811%20(1).pdf