في مغزى استشهاد نزار بنات


جلبير الأشقر
2021 / 6 / 30 - 20:05     


فجّرت حادثة القمع الوحشي التي أودت بحياة المعارض السياسي الفلسطيني نزار بنات نقمة شعبية ما برحت تحتقن منذ زمن طويل ضد «السلطة الوطنية» وهي لم تبدأ مع محمود عبّاس والحق يُقال. ذلك أن فوز «حماس» في عام 2006 بانتخابات «المجلس التشريعي الفلسطيني» الثانية والأخيرة (حتى إشعار آخر) التي شهدتها الأراضي المحتلة سنة 1967، ذلك الفوز كان المراقبون قد أجمعوا في حينه على أنه تعبيرٌ عن نقمة شعبية عارمة ضد فساد سلطة أوسلو، وهي حالة لم تبدأ بالتأكيد يوم تسلّم عبّاس مقاليد الحكم في بداية العام السابق.
والحقيقة أن «منظمة التحرير الفلسطينية» التي خلقتها الدول العربية على صورتها ومثالها في عام 1964 لم تتغير لمّا استلمت منظّمات الكفاح المسلّح زمامها خلال السنتين اللتين أعقبتا هزيمة الدول العربية في عام 1967. بل إن «فتح» أكبر وأهمّ منظّمات الكفاح المسلّح، هي التي تغيّرت عمّا كانت عليه قبل الهزيمة عندما كانت تنظيماً سرّياً في الشتات تطارده المخابرات العربية. فقد أدركت الأنظمة بعد الهزيمة أنها عاجزة عن منع صعود المقاومة، فعملت على احتوائها بدمجها داخل «منظمة التحرير» وإغراقها بالتمويل بغية تحقيق هدفين متلازمين: إفسادها وجعلها مرتهنة بمموّليها. هكذا سخيت المملكة السعودية بدولاراتها النفطية على «فتح» بينما خلق كل من نظامي حزب «البعث» في سوريا والعراق تنظيماً تابعاً له، أما «الجبهة الشعبية» و«الجبهة الديمقراطية» فاعتمدتا على أكثر من مموّل عربي ودولي.
وقد أدارت «فتح» مؤسسات «منظمة التحرير» على شاكلة الأنظمة العربية القائمة على تعدّد القبائل، إذ شملت المنظمة جماعات الكفاح المسلّح الأخرى، وبعضها لا يعدو كونه نسخة طبق الأصل عن أجهزة النظام الذي يتبع له. وسارت «فتح» بخطى حثيثة على درب تقليد نموذج الأنظمة العربية، وقد عجّلت هذا المسار عواملٌ شتّى، منها السحق الوحشي الذي تعرّضت له المقاومة في الأردن وطردها منه في عامي 71-1970، والاغتيالات المتتالية التي طالت قادتها والتي دبّر الموساد معظمها (وليس جميعها) والظروف الخاصة بلبنان الذي تلا الأردن كساحة رئيسية للمقاومة. والحقيقة أن «جمهورية الفاكهاني» كما أسميت الدويلة التي شكّلتها «منظمة التحرير» في لبنان وعاصمتها حيّ الفاكهاني في بيروت، كانت تشبه الأنظمة العربية بالفساد وأجهزة القمع، بما في ذلك تعدّد فروع الأمن ضماناً لتحكّم رأس النظام بجميعها. ولم يبدأ مسلسل قتل المعارضين السياسيين بنزار بنات كما هو معلوم، ناهيكم من الذين تعرّضوا للاعتقال والتعذيب وعددهم أكبر بكثير.
هذا وقد كانت «السلطة الوطنية» التي نشأت بموجب اتفاقية أوسلو/ واشنطن لعام 1993، هي المحطة الأخيرة في استكمال تحوّل المؤسسة المركزية للمقاومة الفلسطينية إلى سلطة قمعية فاسدة، وهي الغاية التي سعى وراءها الحكم الصهيوني ومعه عرّاب الاتفاقية الأمريكي. فقد أناطا بهذه «السلطة» مهمة ضبط «الأمن» في المناطق ذات كثافة سكانية فلسطينية في الأراضي المحتلّة سنة 1967، بعدما أدرك الصهاينة أن كلفة سيطرتهم المباشرة عليها باتت عالية للغاية إثر الانتفاضة الشعبية التي عمّت تلك الأراضي وبلغت ذروتها في عام 1988. وقد أرادوا اختبار «السلطة الوطنية» في غزّة (وأريحا) أولاً، قبل تسليمها زمام «الأمن» (أي أمنهم في المقام الأول) في سائر مدن «المنطقة أ» حسب تقسيم اتفاق أوسلو الثاني (1995) لأراضي 1967، أي ثلاثة بالمئة فقط من مساحة الضفة الغربية، ومن ثم «المنطقة بـ« التي تشمل حوالي عشرين بالمئة من الضفة والتي تُشرف عليها «السلطة الوطنية» بالاشتراك مع سلطات الاحتلال.

لا بدّ من أن يستفيد الجيل الجديد من تجربة عام 1988 سبيلاً إلى التغيير الديمقراطي والاجتماعي العميق الذي تحتاج إليه الساحة الفلسطينية أمسّ الحاجة، شأنها في ذلك شأن سائر ساحات السيرورة الثورية الإقليمية

وقد نجحت «السلطة الوطنية» في الاختبار: فبعد أشهر قليلة من تسلّمها مهمة الإشراف على غزّة في ربيع سنة 1994، يوم الجمعة في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر تحديداً، قامت قوات الشرطة التي جلبتها السلطة الجديدة معها من المنفى بارتكاب مجزرة شنيعة بقمعها تظاهرة لأنصار «حماس» و«الجهاد الإسلامي» بحيث أسقطت 14 قتيلاً و200 جريح. كانت هذه المأساة أولى مآثر «السلطة» وقد أقنعت الحكم الصهيوني بالمضي قدماً في تسليمها «المنطقة بـ«. وإذا صحّ أن العلاقات بينها والاحتلال ما لبثت أن تدهورت على خلفية تصعيد الصهاينة لنشاطاتهم الاستيطانية في الضفة الغربية، ثم انفجرت إثر الاستفزاز الذي قام به آرييل شارون في القدس في خريف عام 2000، بقيت «السلطة» ملتزمة بالمهمة المنوطة بها بموجب اتفاقية أوسلو، ألا وهي الإشراف الأمني على السكان الفلسطينيين في الأماكن الموضوعة تحت «سلطتها» المنقوصة والمحدودة كأي سلطة «وطنية» خاضعة لهيمنة استعمارية.
هذا هو المسار الذي كان مقتل نزار بنات أحدث حلقاته، وقد جعل كيل الغضب الشعبي يطفح في انتفاضة على حكم محمود عبّاس، وقد بلغت شرعيته الرئاسية أقصى درجات الحضيض بعد إلغائه الانتخابات التي كان مزمعاً إجراؤها في شهر أيار/ مايو الماضي. ومصيبة سكان الأراضي المحتلة في عام 1967 أنهم خاضعون لسلطتين قمعيتين، إحداهما تابعة لإطار أوسلو، وبالتالي لإملاءات الدولة الصهيونية وسيّدها الأمريكي، والأخرى قائمة على أيديولوجيا دينية ظلامية ورجعية. وهو وضع لخّصه ببلاغة عنوان التقرير الذي أصدرته منظمة حقوق الإنسان «هيومن رايتس ووتش» في عام 2018: «سلطتان، طريقة واحدة، المعارضة ممنوعة: الاعتقال التعسّفي والتعذيب في ظل «السلطة الفلسطينية» و«حماس»».
فقد أصاب تماماً «ملتقى فلسطين» في البيان الذي أصدره يوم الخميس الماضي (24/6) والذي أعلن فيه أنه يرى «أن هذه الجريمة، وهي ليست الأولى من نوعها، هي نتيجة تراكم تاريخي للسكوت عن إقامة سلطة وفق اتفاق أوسلو المهين والمجحف، من وراء ظهر الشعب الفلسطيني، ونتاج التحوّل من حركة وطنية إلى سلطة تحت الاحتلال، حيث بات مفهوم الحرية خارج ثقافتها السلطوية، مع تأكيد أن ذلك يشمل السلطتين، في الضفة حيث اغتيل نزار بنات اليوم، وفي غزة حيث اغتيل بالأمس عصام السعافين».
وتبقى انتفاضة عام 1988 نموذجاً أعلى ليس للنضال الفلسطيني وحسب، بل كذلك لتنظيم بديل للمجتمع الفلسطيني قائم على الديمقراطية الحقيقية التي جسّدتها «اللجان الشعبية» وهي الأطر التي حلّت في ذلك العام محل المؤسسات التقليدية في تأطير الشعب وتنظيم الخدمات في الأحياء والقرى، وقد تميّزت بجملة من الصفات جعلتها نواة سلطة ديمقراطية بديلة من نوع التي تسعى وراءها الثورات المتعطّشة للديمقراطية، وبين هذه الصفات التعدّدية السياسية التي تشمل غير المنتمين، والقرار الديمقراطي، ومشاركة الشباب والنساء. فلا بدّ من أن يستفيد الجيل الجديد من تجربة عام 1988 سبيلاً إلى التغيير الديمقراطي والاجتماعي العميق الذي تحتاج إليه الساحة الفلسطينية أمسّ الحاجة، شأنها في ذلك شأن سائر ساحات السيرورة الثورية الإقليمية.