فرنسيس فوكوياما: نهاية التاريخ ومَقدمُ الإنسان الأخير (تفوقُ الرأسمالية وانتشارُ الليبرالية الاقتصادية في جميع أنحاء العالم، واستحالة تصور عالم آخر مختلف عن عالم الرأسمالية)


محمد الهلالي
2021 / 6 / 30 - 09:18     

اعتبر فرنسيس فوكوياما Francis Fukuyama (ازداد سنة 1958) في كتابه " The End of History and the Last Man" (والذي ترجم للعربية تحت عنوان: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ترجمة فؤاد شاهين، جميل قاسم، رضا الشايبي، تحت إشراف مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، بيروت 1993) أن "انهيار" الشيوعية تزامن مع نهاية التاريخ. واستنتج أن نهاية الحرب الباردة و"زوال الأنظمة الشيوعية" شكل انتصارا لليبرالية على خصمها الأيديولوجي العنيد: الاشتراكية-الشيوعية.
وإذا كانت نهاية التاريخ لا تعني بأي حال من الأحوال نهاية الصراعات والتوترات والحروب، فإنها حققت نصرا مهما يتمثل في إعلائها من شأن الديمقراطية الليبرالية التي صارت أفقا لا بديل عنه ولا مفر منه للبشرية.
تفترض نهاية التاريخ أن للتاريخ معنى. وتحيل هذه الفكرة على فلسفة هيجل وعلى أطروحته الشهيرة التي هي "جدلية العبد والسيد". وبناء على هذه الأطروحة الهيجلية يجد الإنسان نفسه مدفوعا تحت ضغط حاجته للاعتراف إلى خوض صراع مُميت ضد نظيره: وهذا الصراع هو أساس انطلاق حركة التاريخ.
قدمت الحرب والعلم معا دليلا على دينامية التاريخ الذي يحركه الصراع. وقامت الأسلحة بدور كبير في هذه المجال. وتم توظيف الاختراعات العلمية لتحقيق نفس الهدف. ويرى فوكوياما أن التطور العلمي يعمل بكيفية تقود جميع المجتمعات نحو نفس النموذج. أي أن العلم سوف يوحد النموذج المجتمعي. وصار من الصعب على البشرية، بسبب الدور الذي قام به العلم، تصور عالم آخر مختلف عن عالمنا الرأسمالي، بل صار من الصعب تصور إمكانية إحداث تغيير أساسي في هذا العالم: لذلك ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار إمكانية أن يكون التاريخ قد بلغ نهايته. إن التقدم الذي أحدثه العلم أقصى تدريجيا التناقضات الأساسية التي عرفتها المجتمعات البشرية.
تتطابق نهاية التاريخ مع انتصار الليبرالية الاقتصادية. فتقدمُ العلوم الفيزيائية أفضى إلى تحرير النشاط الاقتصادي، وأدى دمجُ الاختراعات العلمية في الاقتصاد إلى تحقيق فعالية اقتصادية. يرى فوكوياما أن المِلكية الخاصة هي أهم رافعة للفعالية الاقتصادية، لذلك برهنت الرأسمالية على أنها هي أفضل نظام مَكن الشعوب من الاستفادة من التقدم العلمي. وهذا ما جعل النظام الرأسمالي ينتشر في جميع أنحاء العالم. وتعزز "المعجزة الاقتصادية الآسيوية" هذه الملاحظة. فما حققته البلدان الآسيوية من تقدم اقتصادي في وقت وجيز نسبيا يشهد، حسب فوكوياما، على أن الرأسمالية هي الطريق الفعال نحو التقدم الاقتصادي لجميع البلدان.
وإذا كان التخلف ليس عائقا لا يُقهر، وإذا كانت الدول المتقدمة لا يمكنها منع البلدان المتخلفة من التقدم، فهذا يوضح قدرة الرأسمالية على الانتشار بفضل المبادئ الليبرالية التي من أهمها:
- الملكية الخاصة
- قوانين السوق.
ومن الناحية العملية، شكل "انهيار" الشيوعية، وتراجع الدول الكليانية (التوتاليتارية) في أوروبا، و"تراجع" الديكتاتوريات في أمريكا اللاتينية، وتحول الصين إلى اقتصاد السوق، شكل كل ذلك، في نظر فوكوياما، انتصارات مُدوّية لليبرالية الاقتصادية. وهو ما جعل الرأسمالية تظهر باعتبارها "التنظيم العقلاني الوحيد" للإنتاج والاستهلاك.
إن نهاية التاريخ تقود لنشر الليبرالية السياسية. كما أن الحاجة للاعتراف، التي هي محرك الفعل البشري حسب فوكوياما بناء على هيجل، وجدت في الديمقراطية نظاما سياسيا قادرا على تلبية متطلباتها (أي متطلبات الحاجة للاعتراف). كما أن نجاح الديمقراطية في وضع حدّ لسلطة الأسياد (الأرستقراطيون والمستبدون) وفي إعلان المساواة بين الجميع، مكن كلّ فرد من إشباع رغبته في الاعتراف به.
وأدى اقتران الديمقراطية بالرأسمالية إلى تمكن الديمقراطية من توفير مخرج للأفراد المتمتعين بحاجة قوية للاعتراف. ولقد وفر التنوع في الأنشطة الاقتصادية وعدم محدوديتها حقلا للتحقق العملي للحاجة للاعتراف.
لما تقوم الليبرالية الاقتصادية، حسب فوكوياما، بإبعاد الأشخاص الخطرين جدا عن الحقل السياسي، فإنها تجعل الديمقراطية الليبرالية ممكنة التحقق، أي تجعل إقامة نظام قار يضمن الحريات الفردية أمرا قابلا للإنجاز.
والأمر الآخر الناتج عن أطروحة نهاية التاريخ هو أن هذه النهاية تؤدي إلى مقدم الإنسان الأخير. يرتكز فوكوياما في هذه النقطة على نيتشه. فالإنسان الديمقراطي (بالنسبة لنيتشه من منظور فوكوياما) مكونٌ من الرغبة والعقل معا. وهو ماهرٌ في إيجاد حِيل جديدة لإشباع عدة رغبات صغيرة. لكنه لا يحقق إلا سعادة حقيرة. ويعجز عن الشعور بأدنى خجل بسبب عجزه عن أن يسمو بنفسه فوق غرائزه. لذلك، فالإنسان الأخير هو إنسان ضعيفٌ ومُخفقٌ. ولكنه مع ذلك هو الكائن الضروري الذي لا مفر له، هو الكائن الوحيد الممكن لنهاية التاريخ.