ضيف على الروزنامة: عالم عباس حِيْنَ يَقْدِلُ الوَرَلُ!‎


كمال الجزولي
2021 / 6 / 29 - 10:34     

الإثنين
اختار له اسم «المستنير»، ولعل قليلين يعرفون أنه ترجمة لاسم «بوذا»! فأيامئذ كان بركة مولعاً بالثقافات الفارسية والهندية والصينية، يطالع زرادشت، ويقرأ لبيدبا، ويتأمَّل الشاهنامة! احتفت الأسرة بالاسم، جرساً ومعنى. وحين ولد أخوه بعـده بسنتين أسماه «المهاتمـا»، واعتاد الناس، أيضاً، على الاسـم!
وإذن كان المستنير هو البِكر، وتقاليدنا تلقي العبء على كاهله، وتعدُّه لتحمُّل المسؤوليات. أعانه طبعه الهادئ، وصمته البليغ، وصوته الخفيض، وما جُبل عليه من رحابة. كانت أمهما، وهي تخوض معركتها الأخيرة، ببسالة، مع سرطان الثدي، تعدُّهما لمواجهة الحياة بعد رحيلها الوشيك. وكانت توصي المستنير، الأكثر التصاقاً بها، خيراً بالمهاتما.
لم تستطع كل محبة العمات والخالات الجارفة تخفيف مرارة فقدها في نفسيهما. ثم عاشا ظروف الوالد القاسية، وهو يقاتل بقلمه مكايد الانقاذ، ملاحقة، وتشريداً، واعتقالاً، ومصادرة، حتى خرجوا إلى المنفى. لم تكن النمسا جنتهم، لكنهم يحفظون لها جميل إيوائها لهم كوطن بديل. ومع تفوق الصَّبيَّين في الدروس، والرياضة، والموسيقى، حذقا اللغة، وفاز المهاتما في مسابقات التزلج على الجليد! وأجاد المستنير الألمانية بعـدة لهجات، ليؤكدا المثل الذي كان يردده جدهما لأمهمـا «الفيهو نار بيوقد»!
كان المستنير، في مرضه الأخير، نَزّاعاً للحضور إلى السودان، وكنا ووالده نحاول إقناعه بانتظار الجواز الذي لم يبق له من استحقاقه غير عام واحد، فسفره، قبل ذلك، يفقده فرصة العودة لأوربا! ويا طالما احتدم النقاش بينه والمهاتما حول الأمر! ولكن .. يا للأحزان!
كان النبأ الصاعق قاسياً، ذلك العشرين من يونيو2021م. الآن أشاهد الألم الحق، ليس الذي يعتصرني والأسرة، هنا، وحسب، ولكن الذي يسحق بركة والمهاتما، هناك، في غربتهما الموحشة، حيث لا أهل يحتضنونهما، ولا أكتاف يذرفان عليها دموعهما! مع ذلك ستمضي الحياة، وسيتجاوزان المحنة حتماً! أما المستنير الحبيب، ففي رحاب رب كريم غفور رحيم، وهو وحده من بيده الأمان، ورحمته وسعت كل شيء. إنا لله وإنا إليه راجعون.

الثلاثاء
في ذاكرتي تاريخ ناصع للمجلس القومي للثقافة والفنون، وأعلام تركوا فيه بصمات خالدة، جمال، المجذوب، المغربي، قيلي، شبرين، عبد العال، فراج، ومبدعون كثر، ومكتبة عامرة متوارثة منذ أن أهداها ثيوبولد لدار الثقافة في ثلاثينات القرن الماضي. كما كنت أعلم أن «الإنقاذ» عداؤها تقليدي مع كل إرث تالد له قيمة في وجدان السودانيين، وجعلت شعارها إعادة صياغة الإنسان السوداني، فلا بد لها من تحطيم «الأصنام» التي تعيق هذا المشروع! جامعة الخرطوم، المدارس الثانوية، الداخليات، مجانية التعليم، المناهج، اتحاد الكتاب، الموسيقى، المسرح، السينما، الدراما، وعد ما شئت! وكنت متأكداً أن المجلس لن يكون استثناءً، ولن ينجو من هجوم التتار، ولكن بحكم بنيته الصلبة، وأساسه الراسخ، فقد لا يكون جسيماً بالقدر الذي لا يتمكن إرث المجلس من مقاومته وإصلاحه، وسينهض مجدَّداً! لكنني فجعت بحجم الكارثة! فلو كان إهمالاً، ولو مقصوداً، لكان يمكن تصوره، أما هدماً، وتحطيماً، وتخريباً، كمن يتفشى في ذي غبينة، وموجدة، وحقد دفين، فذلك ما كدت لا أصدِّقه، وأنا ألحظ اختفاء المكتبة برمتها، وأنها أهديت إلى إحدى الولايات، ورأيت اللوحات النادرة التي كانت ملك المجلس من ابداع الصلحي، وشبرين، وعبد العال، وعمر خيري، وغيرهم، مهملة في العراء، نهباً للشمس، والأمطار، والأرضة، والنمل، والغبار، و .. لن أستطرد في بشاعة ما رأيت، يكفي أن المبنى كله ملجَّن منذ 2017م!
ليس لدينا، حتَّى الآن، خطاب ثقافي، ولا اتفاق على استراتيجية تحدد وجهتنا الثقافية خلال هذه الفترة الانتقالية. ومع علمنا بظروف البلد، وتزاحم أولوياتها، وأن بعضنا يعتقد أن للثقافة صبر أيوب، فيمكنها الانتظار، إلا أنني أرى أن على المجلس خلال هذه الفترة، مد الجسور، وتعميق العلاقة مع منظمات المجتمع المدني الثقافية. وأعلم أن النظام البائد صنع كيانات موازية ملَّكها أمر الثقافة والفنون، فيجب إعادة الأمر على قاعدة حرية، سلام وعدالة. ويقيننا إن الحكومة لا تصنع ثقافة، ولكن ترعاها، تنميها، وتعين عليها، وقبل هذا وذاك، يجب إدارة حوار مستمر، وإشراك كيانات الثقافة ورموزها في ما ينبغي أن يكون عليه شأنها، والاسترشاد بهذه الآراء في بلورة الخطط، في بلد متعدد الثقافات والإثنيات، زاخر بالتنوع والابداع، يعاني من فصام، وتشظٍ، وغبن، وحساسيات متراكمة، وأدواء لا سبيل لعلاجها إلا عبر الثقافة والفنون. بدأنا هذا الحوار منذ أول التحاقي بالمجلس، سواء عبر بعض الجمعيات، أو بدعوة الشباب للقاءات، أو بالتشاور مع شخصيات إبداعية مؤثرة، وما زال هذا الجهد مستمراً، وإن بوتيرة أبطأ، وحماس أقلّ، للأسف، نفعل ذلك، ونعلم أنها تجارب ثرية ينبغي أن نواصلها من أي موقع، ليطلع أهل الثقافة على الوضع، فيرفدوه بالنقد والأفكار، ويسهموا في التخطيط والتنفيذ، ويخرجوا به من القيود الديوانية. فإذا استطعنا تسليم إدارة النشاط الثقافي إلى أهلها، وتركنا الحكومة لما يليها من بنيات أساسية، كالمجلس نفسه، والمسارح، وصالات الفنون، وصياغة القانون، وإعداد الهيكل الوظيفي للنهوض بهذه المهام الجليلة، فإن هذا هو جل ما نطمح إليه في هذه المرحلة.

الأربعاء
في الفاشر، أواخر خمسينات القرن الماضي، كان الماء يُجلب إلى البيوت بحمير تحمل على ظهورها أخراج تتسع لخمس صفائح، أي حوالي مائة لتر، والصفيحة بقرش. بعض هذه الأخراج كان من المشمع السميك الذي تصنع منه الزمزميات، وهي قِرَب يحملها الجنود وسائقو اللواري في السفر، وألوانها الغالبة الخاكي والأبيض الباهت. أخراج المشمع حكومية يُنقل بها الماء إلى مكاتب وبيوت الحكومة، أما أخراج الجلد فللأهالي! أصحاب هذه المهنة، قليلون منهم يملكون هذه الحمر، وأغلبهم أجراء يعملون عليها بالاتفاق، ولكن في الغالب يدفعون، يومياً، خمسة قروش لصاحب الحمار والخرج، إضافة إلى خرج ماء آخر اليوم. ما يبيع من ماء فهو له، وفي الغالب لا يتعدى خمسة أدوار أو «وردات»، حسب القُرب أو البُعد من المورد (البئر أو الدونكي). مراكز الماء معروفة في المدينة، قبل دخول المواسير البيوت. آبار «حجر قدو» الشهيرة في وسط المدينة تقريباً، أبيار الحكومة جنوب شرق قصر السلطان علي دينار، أبيار بقر في الوادي شمال غرب الفولة، بير عوض بلال، وبير ينِّي، وبعض الآبار المنتثرة فيما بعد بأسماء أصحابها، وبمذاقاتها المختلفة، فببعضها بعض المرارة، وبعضها فائق العذوبة. وأنشأت الحكومة محطات مياه سُمِّيت دوانكي (جمع دونكي). سألت عن سر التسمية، فقيل لي إن دونكي هو اسم الخواجة المهندس الذي أدخل هذه التقنية، وأول دونكي كان أيام دخول الإنجليز عام 1916م، وحُفِر بقرية الطويشة، شرق دارفور. والدونكي بئر ارتوازية تعمل بالبخار، وتضخ الماء إلى صهاريج عالية تتفرع منها مواسير وخراطيم يستقي منها الناس وماشيتهم وقطعانهم، ويملؤون مواعينهم وقربهم وأخراجهم. وشاهدنا في دونكي البوليس بالفاشر كيف تدخل الحمير في «الكر»، بأخراجها الخاوية في صف طويل، واحداً خلف الآخر، إلى أن يصل إلى كاتب الدونكي فيقطع تذكرة بمليم أو مليمين، لأصحاب البرام والأواني الصغيرة، أو تعريفة واحدة، (خمسة مليمات) للخرج. يقف الحمار تحت ماسورة بارتفاع مترين تقريباً يمتد منها خرطوم قصير يدخله في أعلا فتحة الخرج ذي الجانبين، فيملأه قليلاً في هذا الجانب، ثم الجانب الآخر، في توازن حتى يمتلئ الخُرج فيخرج ويأتي من يليه، ولربما اتسع الأمر لعشرة حمر في وقت واحد. كان عددها آنئذ قليلاً، ولكنها تكفي، رغم صعوبة أيام الصيف، أشهرها دونكي البوليس قرب المدرسة المزدوجة جنوباً، ثم دونكي آدم رجال غرب منازل موظفي الحكومة عند التل الصاعد إلى حي أولاد الريف، وذلك قبل إنشاء دونكي الرديف غرباً، وصهريج حلة الزيادية شمالاً، وصهريج حلة الجوامعة شرقاً. كانت هذه الدوانكي تتبع لوزارة الأشغال قبل أن تنتقل إلى هيئة توفير المياه، وتم حفر العديد منها حول الفاشر، عند مساقط وتجمعات المياه (بشارية، لوابد، ماريقا، الكومة، طويشة، وغيرها). كانت محطات عظيمة لسقيا الثروة الحيوانية الهائلة التي يتمتع بها الاقليم. والمحظوظون من كُتّاب الدوانكي هم الذين يُنقلون لإدارة هذه المحطات، ثم انتقلت إدارتها إلى هيئة توفير المياه، ثم إلى وإلى ...
نعود إلى أهلنا «الخرَّاجة» وقد خرجوا من الدونكي أو الآبار، أخراجهم ممتلئة، يطرقون على الصفائح يمتدحون بضاعتهم، يصيح واحدهم مترنماً: «موية بير عوض بلال، خُرُجْ دبلان، حمار طيار، صفيح بريال»! وطرقتين على الصفيح، ريثما تصيح من خلف الباب إحداهن: «يا سيد الموية تعال كُبْ لينا صفيحتين»!
هنالك أيضاً سقاءون آخرون يحملون زوجاً من الصفيح معلق على حبل أو جنزير رقيق، يثبت على عصا غليظة، بطول متر تقريباً. تملأ الصفيحتان، ويحملهما الرجل على كتفه متجولاً بين الأحياء يبيع «الجوز» بقرشين، وهو سريع الحركة يعتمد على عضلاته. وأصل هذا العمل كان يقوم به المساجين لتزويد بيوت الحكومة بالماء أثناء مدة عقوبتهم، وبخاصة المحكوم عليهم بالأعمال الشاقة! ثم امتهنها بعض هؤلاء ممن أفرج عنهم وغيرهم كوسيلة لكسب الرزق، واشتهرت المهنة باسم الـ «كَرَنْقَلي»! وصاروا ينادونهم بـ «سيد الكرنقلي» أو «بتاع الكرنقلي»، وأحياناً بتاع «جوز الموية»، وينشط الإقبال عليهم في أيام الصيف القاسية لسهولة حركتهم، وهمتهم، وبالطبع ترتفع الأسعار في زمن الندرة فقد يصل سعر الصفيحة لقرشين!

الخميس
حسنٌ إلغاء الدولار الجمركي. ولكن، حسب الفريق بشير الطاهر، مدير الجمارك، لا بد من خفض الرسوم الجمركية، والقيمة المضافة، وضريبة أرباح الأعمال، للسلع الضرورية، إلى فئة صفرية. بدون ذلك سيرتفع التضخم، ولن تنخفض الأسعار!

الجُّمعة
استنفدنا كل الوسائل. اتصلنا بالمسؤولين في أعلا المستويات. توسلنا إلى عمال المياه عند صهريج الجريف الأسمنتي الكالح (مُتَبَطّحين على الكنيف كأنهم/ يبكون حول جنازة لم ترفع)! جمعنا الأموال، قبل أكثر من خمسة أعوام، في حملة لتغيير الخطوط الناقلة بحيّ الطائف جنوب. البعض رفضوا المساهمة، بحجَّة أن توصيل الماء مسؤولية الهيئة. وهكذا بدأ العمل بما جُمع، ثم توقف ليضحك مَن لم يساهموا على مَن ساهموا: الأمر كله كذب وغش؟! وهكذا شربنا المقلب، ولا ماء!
في الأشهر الأولى للثورة استقر الماء. ليس كل اليوم، على الأقل في الليل أو الصباح. لكن الأمر عاد يتفاقم. سرت شائعات بأن المخربين كيزان وكتائب ظل أغلقوا الخطوط بكتل أسمنتية، وأن نافذين حولوا الماء إلى منشئاتهم، يدفعون للعمال والفنيين! ولا توجد خرط للإمدادات، لذا تجد في الشارع الواحد عشرات الخطوط، وفي المنزل الواحد أكثر من خط، تمت بعلم الفنيين! ومع الأزمة المستفحلة ترى عجباً! أنابيب بلاستيك، وبوليثين، وإسبستوس متهالكة، متلاصقة، تعمل، أو، بالأصح، لا تعمل، على أعماق مختلفة! وفي هذه الفوضى جارك لديه ماء، بينما ماسورتك لا تمدك إلا بالشخير! وقد يتقطر الصنبور عندك، بينما جارك تتمسك ماسورته بالصيام! أما جارك المقابل فيشكو من أنه لا ينعم بماء إلا من خرطوش ممتد إليه من جاره، إذا حلبت ماسورته! ويشتعل سباق الأحصنة والموتورات، فالموتور نصف الحصان لا يكفي، فموتور جارك حصان كامل يسحب القطرات القليلة الموجودة، فعليك بموتور أكبر! وصار السباكون بأهمية عمداء كليات الهندسة، و«البلد الما فيه تمساح يقدل فيه الورل»! الشوارع مكتظة بحفر ينبجس منها الماء المهدر، فشل في الوصول إلى البيوت فانبطح يروي ظمأ الأسفلت المتهالك! وكلٌّ يحفر قبالة منزله بحثاً عن قطرات كأن الشوارع بيوت نمل! وصار الجميع كالأعشى ومحبوبته: «عُلقّتهُا عَرَضاً، وعُلّقَتْ رجلاً غيري/ وعُلّق أخرى غيرها الرجلُ. وعُلّقتني أُخَيْرى ما تلائمُني/ فاجتمع الحُبُّ حُبٌّ كله وهل»! المسؤولون يسرفون في الوعود، ويتفننون في الأعذار، من سوء الإمداد الكهربائي، ومن القطوعات المتعددة، وقطع الغيار المعدومة، ولجان الأحياء التي تتدخل في شغلهم بلا معرفة، والحكومة التي لا تمول مشاريع الهيئة لأن الماء ليس من أولويات الصرف! ويبشرونكم بأن الأزمة ستنتهي خلال أسبوع! ويقترحون، إذا أردتم حلاً جذرياً، شراء مولد كهربائي لتأمين استمرار عمل الآبار حينما ينقطع التيار!
بعض الأحياء تشرب من آبار ملوثة في الميادين، وتختلط أحياناً بمياه السايفونات، ولكن من يكترث مع العطش؟! تشتري الكهرباء فيستقطعون منك فاتورة المياه، رسماً ثابتاً بلغ الملايين الآن! فإن لم تدفع فاتورة الماء فلا كهرباء، فتدفع صاغراً، ولا ماء، ورحم الله عدادات الإدارة المركزية، حيث تدفع قيمة ما تستهلك بالعدل والقسطاس!
يا لله!! هذه الخرطوم المتمددة على ستة شواطئ، لثلاثة أنهر من أعذب أنهار الأرض، تشكو الظمأ المزمن، أو كما قال تاج السر الحسن، طيب الله ثراه: «فإن سمعتم وأنتم برحلة في الخلاء/ بأن قوما عطاشاً بالقرب من شط ماء/ ماتوا ولم يستطيعوا ري النفوس الظماء/ فلتضحكوا إن سمعتم بمثل هذا الهراء»!
أيها «الخرطوميون»، بتعبير تعبان لوليونق، هل أصبحتم «كالعيس يقتلها الظمأ/ والماء فوق ظهورها محمول»! وهل أنتم، كما قال مصريٌّ منتقداً بعض مواقف السودان من سد النهضة: «السودان مجرد معبر للنيل، لا أكثر»! أو كما قال الهمباتي: «شايلة السُّقا وعطشانة»! أو لعلها صرخة صامويل كولردج في «الملاح العتيق»: «الماء الماء في كل مكان/ والسفينة ممعنة في الغرق/ الماء الماء في كل مكان/ ولا من قطرة تبل الرمق»! هل أتاكم نبأ قناة المصريين التي أوصلت النيل إلى سيناء، والمليارات العشرة من الأمتار المكعبة، من نصيب السودان (وفق اتفاقية مياه النيل) التي تذهب إلى مصر سنوياً، وكان الأجدر أن تروى بها بورتسودان وكردفان ودارفور، بل أن تشرب الخرطوم نفسها التي تيبست عروقها من العطش؟!

السَّبت
في «عيد الإنقاذ» نتذكر كيف عشنا عهد «المليم». ورأينا في طفولتنا «نصف المليم»، واسمها «بريزة» (ليست المصرية التي قيمتها عشرة قروش)، وهي قطعة نحاسية قطرها نحو سنتمتر، وكانت عملة متداولة نشتري بها التسالي، والفول، والنبق، والقرقدان، والسقيط، والحلوى. ثم «المليم»، أكبر قليلاً، ثم «المليمان» قطعة واحدة كانوا يسمونها «العشراية»، ثم «التعريفة»، وتساوي «خمسة مليمات»، مدورة مثقوبة، فضية، أو نحاسية مصمتة ومنحوتة الأطراف في شكل زهرة، عليها كتاباتها البارزة تحدد فئتها، و«القرش» ومقداره «عشر مليمات»، وحجمه أكبر قليلاً من «التعريفة»، فضي أو نحاسي، ومصمت أو مثقوب، ثم «أبو قرشين»، قطعة واحدة من فئة «القرشين»، كان قطعة فضية سداسية مرسوماً على أحد وجهيها الملك فاروق، ملك مصر، أو الملك فؤاد الأول، ومكتوباً على الآخر قرشان صاغ، ثم تغيرت بعد الاستقلال إلى فضية مدورة، بقطر سنتمتر ونصف تقريباً، واشتهر بلفظ «الفريني»، وهي عملة ذات سطوة تساوي «عشرين مليماً»، وللعلم حبة الزلابية بـ «مليم»، ومصروفنا اليومي «تعريفة» تكفي لشراء خمس حبات عليها فتافيت السكر من الخالة حواء أم جرايد! ثم فئة «الخمسة قروش»، وكانت جداتنا يسمينها «الربع»، أي «ربع الريال» المجيدي، من ميراث الاحتلال التركي! ثم فئة «العشرة قروش»، وكانت تساوي «نصف الريال ابو عشرين»، أو «الريال المجيدي» الذي اختفى، لتنفرد بلفظ «الريال»، بعدئذ، قطعة «العشرة قروش» من الفضة الخالصة. وكان لتلك العملات المعدنية رنين حقيقي، وليس مجازاً، وكانت لحبوباتنا مفاحض «محافظ» ممتلئة بتلك العملات ذات الرنين المحبب! مثلما كانت لبعضنا «آذان تسمع رنة قرش في المريخ!» حسب ود المكي في «قطار الغرب»!
أما العملات الورقية، فأصغرها كانت فئة «الخمسة والعشرين قرشاً»، واشتهرت بلفظ «الطرادة»، تليها «الخمسين قرشاً»، ثم «المائة قرش» وهي «الجنيه»، واسم دلعه «الأهيف»! ولم تظهر فئة «الخمسة» و«العشرة» جنيهات إلا مؤخراً جدَّاً!
ونتذكر، ربما للتندر ورثاء الذات، أن «الجنيه» كان، حتى العام 1980م، يساوي ثلاثة «دولارات» واربعة وثلاثين «سنتا»! ويساوي، أيضاً، أثني عشر «ريالاً» سعودياً! لكنه أخذ يتدهور، منذ أيام النميري، حتى بلغ منحدراً حرجاً بعد الانتفاضة، وخلال الديمقراطية المغدورة، قصيرة العمر، حتى أن انقلابيي الإنقاذ جعلوا من تدهوره ذريعة لثورتهم، إذ أن قيمة «الدولار» بلغت «عشرة جنيهات»، فزعموا أنها، لولا «ثورتهم»، لصارت «عشرين جنيهاً»!
بقي أن نعرف أنهم بعدئذ جمعوا كل «عشرة جنيهات» وأسموها «ديناراً»، وبشروا بأن ذلك فتح في الاقتصاد عظيم! ثم ما لبث الوضع أن تردّى، خلال تقلباتهم الحربائية تلك، فجعلوا «الدينار» يساوي «قرشاً»، ثم أسموا كل مائة منها «جنيهاً»، فصار «الجنيه»، في حقيقته، ألفاً مما يعدون، وهكذا حدس ما حدس! اختفت العملة المعدنية تماما، واختفى من الفئات الورقية، «الجنيه» و«الاثنان»، و«الخمسة»، والآن «العشرة» بسبيلها للاندثار، لتسود «الخمسين»، الأقل من «المليم» عملياً، ثمَّ «المائة» و«المائتين» و«الخمسمائة» من «الجنيهات»! والطريف أن الأرقام المكتوبة على العملة «مائة جنيه» مثلا، يحتفظ الناس بتاريخ قيمتها الحقيقية في ذاكرتهم، فيقولون «مائة ألف جنيه»! والمثير للسخرية أن النظام البائد نفسه ظل يذكرنا، عندما يحسب بالمليارات، أنها بالقديم تارة، وتارة بالجديد! فانظر إلى أين أوصلنا أولئك «العباقرة»!

الأحد
«عمَّا قريبْ/ الهَمْبَريبْ/ يفتحْ شبابيكْ الحبيبْ/ والجَّوْ يطيبْ!» (محجوب شريف)

***