فكر متأمل وآخر مرتجل


حسن مدن
2021 / 6 / 28 - 18:22     

يقول "لورانس داريل" في "جوستين"، أحد أجزاء رباعيته عن الإسكندرية التي تعكس أجواء المدينة في الثلاثينات من القرن الماضي، إنه يحس بالرغبة في أن يكون لما يكتب صدى التأكد واليقين، لكنه لا يرغب في أن يتم ذلك عن طريق المصطلحات الفلسفية الكبيرة، إنما في المنحى الذي تعبر فيه الكتابة عن سلوكات المحبين الصامتة . إنه يعني بذلك أن يقول للقارئ إن العالم قائم على الإدراك والفهم البسيط كتصرف يتسم بالرقة، الرقة البسيطة، يقول داريل: "إني أحب التفكير في عملي كأنه في بساطة مهد طفل تهدهد فيه الفلسفة نفسها لتنام وإبهامها في فمها" .
ليس كل الكتاب يبلغون هذا المبلغ الراقي في الكتابة التي تنسل الأفكار في ثناياها بالرقة البسيطة التي عناها داريل . إن الواقع لفرط فجاجته وقسوته غالباً ما يفسد مساحة الحلم ويتطاول عليها . والكاتب ليس حراً دائماً في أن ينأى بنفسه عن الواقع . إنه متورط في هذا الواقع حتى النخاع، وهو معني بأن يقول كلمته في اللحظة التي يتحين فيها قول هذه الكلمة من دون أن يكون له دائماً المتسع من الوقت لاستيفاء شروط الكتابة التي عناها داريل .
ثمة اعتقاد شائع لدى الكثيرين فحواه أن ما ينشر في الصحف من مقالات وآراء هو قرين السطحية والمباشرة وعدم العمق، وأن العمق والجدية والأصالة قرينة ما هو بين دفتي كتاب، وعن هذا الاعتقاد تشكلت انطباعات خاطئة عند تصنيف مستوى الكتابة أو جديتها أو عمقها، فيقول القائل حين يريد التقليل من أهمية كتابة ما: إنها كتابة صحفية، كأنه بذلك اختزل القول في إعطاء تقييم أدنى لهذه الكتابة بالمقارنة مع ما سواها، أي مع ما هو ليس كتابة صحفية .
هذه التهمة في بعض أوجهها تهمة جائرة، ففي الكتب، كما في الصحف، يوجد الغث ويوجد السمين، يوجد العميق ويوجد السطحي، وبالتالي، فإن معيار جودة المادة لا يتوقف على الوعاء الذي يحملها، كتاباً كان أو دورية ثقافية، أو حتى صحيفة يومية سيارة .
المفكر اللبناني الشهيد مهدي عامل ألف كتاباً أسماه "نقد الفكر اليومي"، لم يكن الكاتب في هذا الكتاب ينتقد الكتابة الصحفية ذاتها، وإنما ينتقد الفكر المرتجل، الآني، الفوري الأشبه بردة الفعل منه إلى التحليل المتأني، ولأن ردة الفعل هي بطبعها انفعالية فإنها غالباً ما تكون وقتية وسريعة الزوال تحت تأثير فعل جديد .