فؤاد مرسي الاقتصادي المبدع


فهد المضحكي
2021 / 6 / 26 - 11:11     

لا يمكن الحديث عن رموز مصر الفكرية والسياسية دون التوقف عند المفكر فؤاد مرسي الذي يصفه محمود أمين العالم بالرجل الضمير، الذي يختبر عنده المواقف وتمتحن الحقائق وهو معيار الذهب الإنساني الذي تقاس به قيم الصدق والأمانة الفكرية وشرف القصد.

ولد الدكتور فؤاد مرسي في الإسكندرية عام 1925، وفي عام 1945 حصل على لسانس الحقوق من جامعة الإسكندرية، وفي عام 1949 حصل على الدكتوراه من جامعة السربون في الاقتصاد السياسي.

تحدث العالم عن فؤاد مرسي القائد السياسي الذي يمتلك الرؤية الحضارية الشاملة، وعن المناضل السياسي والعالم الاقتصادي المبدع، الذي فيما هو سياسي عنده ليس شطحة فكر، أو معرفة أو نزعة إرادة، بل هو بنية مؤسسة على معرفة وعلم، على أن العلم عنده ليس العلم المتخصص آحادي الارتكاز كالاقتصاد مثلا الذي هو تخصصه وإنما هو العلم الشامل الذي تترابط فيه مختلف الإبداعات المعرفية ويتفاعل فيه الموضوعي والذاتي، الاقتصادي والثقافي، المادي والروي، الفكري الأخلاقي ليصب في النهاية في تحديد المهام والواجبات العملية.

لم يكن محرضا سياسيا في الحركة السياسية المصرية بل كان همه الأكبر هو الكشف عن قوانين الحركة الاجتماعية في وحدتها الموضوعية والذاتية، المادية والمعنوية على السواء، مؤسسا نضاله السياسي وحياته الفكرية على هذا الكشف المعرفي.

وعلى هذه الرؤية المنهجية العلمية الحضارية وبهذه الروح النقدية التجديدية المنهجية تقوم مختلف دراساته وتحليلاته ومواقفه وتوجهاته، بهذه الرؤية المنهجية استطاع في دراسة مبكرة أن يحدد الطبيعة المزدوجة للثورة المصرية قواها الاجتماعية وتحالفاتها ومراحلها المختلفة وكانت في الحق محاولة مبادرة في التطبيق الخلاق للماركسية على الواقع المصري، وبهذا النهج الشامل أدرك الرابطة التاريخية الموضوعية الحميمية بين الواقع المصري والواقع العربي عامة والقضية الفلسطينية بوجه خاص داخل أركان النضال الموحد ضد الاستعمال والامبريالية وداخل إطار ضرورات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة الموحدة.

كانت اجتهاداته العميقة لتفهم الوحدة القومية العربية تفهما يخرج بها من الحدود القومية الشوفينية والاستعلائية الضيقة، مكتشفا حقيقة العلاقة الجدلية بين ما هو قطري وبين ما هو قومي مبرزا ما بينهما من اختلاف ووحدة في آن واحد.

وبهذا النهج يعالج العلاقة المعقدة بين الهوية والتراث من ناحية والتشكيلة الاقتصادية والاجتماعية من ناحية أخرى، مؤكدا أن الهوية والتراث ليسا بالأقانيم النهائية الجاهزة المطلقة بل يرتبطان بهذه التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية ويتجددان ويتطوران بتجددها وتطورها، واستطاع أن يحدد طبيعة أزمة الاقتصاد العربي في اندماجه التابع للرأسمالية العالمية وفي طابعه الطفيلي الريعي، وأن يقدم طريقا لتنمية تكاملية استقلالية عربية شاملة تراعي ملابسات الواقع العربي وخصوصياته المختلفة.

وعلى الصعيد المصري تنبأ فؤاد مرسي وحذر من المبادرات الفاضحة لحقيقة الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس أنور السادات باعتباره تقويضا للمشروع الناصري التقدمي ذي الأفق الاستقلالي والاشتراكي وتحويل اقتصاد مصر القومي إلى اقتصاد تابع للرأسمالية العالمية يكرس التخلف والتمزق القومي والتبعية الثقافية، وبهذا النهج رصد كيف تحول القطاع العام الذي كان قاعدة للتنمية الاقتصادية الاجتماعية المستقلة فأصبح قاعدة لتطوير الرأسمالية الطفيلية البيروقراطية، بل تطوير وتكريس الرأسمالية الأجنبية في مصر.

لم يكن يكتفي فؤاد مرسي برصد الظواهر وكشف قوانينها بل كان يجتهد لتقديم الحلول المختلفة لأزمة الواقع المصري لأزمة الواقع العربي لمنهج التصدي للعدوانية الامبريالية والصهيونية ولمنهج تنمية وتعميق ثقافتنا القومية ولمنهج المشاركة في النضال البشري عامة من أجل الاشتراكية والديمقراطية وتأمين حقوق الإنسان وحماية البيئة الطبيعية والإنسانية ودعم النضال من بين شعوب الأرض وتوطيد السلام العالمي.

ألف العديد من الكتب والدراسات في الاقتصاد السياسي من بينها «مسيرة الوطن العربي من القبيلة إلى الاشتراكية» و«المفهوم المادي للتنمية الاقتصادية» و«تطوير الرأسمالية وكفاح الطبقات في مصر» الذي ذكر فيه «إن العالم المتخلف الذي يعي تماما أن من حقائق الأوضاع ومن أسباب تخلفه وفقره، هو أن القبضة الرأسمالية العالمية تتحكم وتحكم الحصار على الأرض، ولذا فإن بصيص الأمل لديه هو التعلق بفكرة الاشتراكية مهما تنكر لها كثيرون».

كان آخر ما كتب هو «الرأسمالية تجدد نفسها» صدرت طبعته الأولى في سلسلة عالم المعرفة الكويتية الواسعة الانتشار في الوطن العربي في مارس 1990، إذ أثار الكتاب عند صدوره ضجة في صفوف أهل اليسار واليمين معا، وقد نفذت نسخ الكتاب، وشاء القدر أن يموت فؤاد مرسي في سبتمبر 1990 بحادث انقلاب سيارته على الطريق الصحراوي بين الإسكندرية والقاهرة بعد صدور الكتاب بشهور قليلة.

يذكر الكاتب السوري اللامع عبدالرزاق دحنون يسأل فؤاد مرسي في مقدمة الكتاب: «ونحن نودع القرن العشرين أين تقف الرأسمالية المعاصرة؟ وأين يقف العالم المعاصر؟»، كلمة معاصرة في سؤال الدكتور فؤاد مرسي تحمل دلالات مهمة أراد بما يملك من خبرة هائلة في عالم المال والأعمال أن يجيب إجابة موضوعية ومعاصرة عما لحق الرأسمالية من تطورات وهي تدخل القرن الواحد والعشرين، يقول: «لقد كان القرن العشرون حافلا بالأحداث الفاصلة التي بدا بعضها متناقضا، فالرأسمالية تبدو الآن في نهاية القرن العشرين أقدر على البقاء مما كانت في بدايته، إنها في تغير مستمر وتحول لا ينقطع، لقد استطاعت الرأسمالية أن تجدد قواها، وبفضل الثورة العلمية والتكنولوجية الراهنة استطاعت أن تتكيف مع الأوضاع الجديدة في العالم، وهي أوضاع شهدت تقلص قاعدتها الإنتاجية وحرمتها من الخامات الطبيعية الرخيصة التي اعتمدت عليها في الماضي، وأصبحت معامل البحث والتطوير هي المستودع السحري الذي لا ينفذ للخامات والمنتجات على السواء».

فإذا كان كما يقول العالم كتاب الرأسمالية تجدد نفسها إدراكا موضوعيا أمينا لحقيقة موضوعية، فإنه كان يؤكد في الوقت نفسه أن الرأسمالية مع ذلك لم تتغير طبيعتها الاستغلالية والعدوانية وإنها ليست نهاية التاريخ وليست الحل لأمراض وأشواق المسيرة الإنسانية المجاهدة.

هذا هو بعض فؤاد مرسي مفكرا عقلانيا امتدادا خلاقا مبدعا لكوكبة المفكرين التنويرين الذين يفخر بهم تاريخنا العربي الحديث.