الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل: ما هو الدين من الناحية السوسيولوجية والفلسفية؟


محمد الهلالي
2021 / 6 / 26 - 08:54     

"إن تصورَ الدين هو تصورٌ شاسع جدا، ويضمّ عناصر متنوعة تنوعا كبيرا، وهو ما يجعل من الصعب تقديم تعريف مُرضٍ عنه. فما هي العناصر المشتركة بين الشامانية (مذهب يقوم على ممارسة الوساطة بين البشر والأرواح، وتلقي أخبار العالم الآخر، ومعالجة تقليدية لبعض المشاكل النفسية) والبوذية، بين الإحيائية واليهودية، بين الطاوية والإسلام، بين الكونفوشيوسية والمسيحية؟
ربما من الخطأ استعمال نفس الكلمة، أي كلمة "دين"، للدلالة على كل هذه المذاهب؟ يبدو لي أن العديد من هذه المعتقدات، وبالخصوص المعتقدات الشرقية، تشكل مزيجا روحيا وأخلاقيا وفلسفيا، أكثر مما تشكل دينا، بالمعنى الذي يُقدّمُ عادة لكلمة "دين" في الغرب. إن اهتمام تلك المعتقدات ينصبّ على الإنسان والعالَم أكثر مما ينصبّ على الله. إنها ممارسات للتأمل أكثر مما هي ممارسات للإيمان، إنها تمارين ومُتطلبات أكثر مما هي طقوس. كما أن أتباع هذه الممارسات يشكلون مدارس تُعلّم معنى الحياة أو معنى الحكمة أكثر مما يشكلون كنائس (معابد). وهذا التّوصيف ينطبق بالخصوص على البوذية والطاوية والكونفوشيوسية، على الأقل فيما يخص شكلها الخالص أو الذي تم تطهيره وتنقيته، وهذا بصرف النظر عن الخرافات التي تُضاف إلى أسس العقيدة، في جميع البلدان، وتجعل التعرف عليها أمرا صعبا. لقد تم الحديث بخصوص تلك المعتقدات عن ديانة ملحدة أو ديانة لا أدرية.
إن عبارة ديانة ملحدة أو لا أدرية هي عبارة تبدو متناقضة، اي هي عبارة عن مفارفة، لكنها وجيهة مع ذلك. فبوذا، ولاو-تسو، وكونفوشيوس ليسوا آلهة، ولا يستدعون آلهة أو وحيا أو إلها خاصا أو إلها متعاليا. إنهم مجرد أشخاص أحرار أو مُحرّرين: إنهم مجرد حكماء أو معلمين روحيين.
لستُ إثنولوجيا ولا مؤرخ أديان. إنني أتساءل كفيلسوف حول إمكانية أن يعيش المرء مُستغنيا عن الدين؟ والجواب على هذا السؤال رهين بمعرفة ما نتحدث عنه. نحتاج لتعريف الدين، حتى وإن كان تعريفا تقريبيا ومؤقتا، للجواب على هذا السؤال.
نذكرُ في أغلب الأحيان التعريف الذي قدّمه إميل دوركايم للدين في الفصل الأول من كتابه "Formes élémentaires de la vie religieuse"، (والذي ترجم إلى العربية تحت عنوان: "الأشكال الأولية للحياة الدينية"، ترجمة رندة بعث، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2019)، وهو كما يلي: "الدين منظومة معتقدات وممارسات مترابطة فيما بينها تتعلق بأمور مقدسة، بناء على التفرقة بين الدنيوي والمقدس، معتقدات وممارسات تُوحّد كل الذين يؤمنون بها داخل جماعة أخلاقية تُدعى كنيسة". يمكن أن نجادل إميل دوركايم في بعض نقط تعريفه للدين (المقدس ليس فقط محرما ومميزا عن الدنيوي، إنه أيضا هش، كما أن جماعة المؤمنين لا تشكل بالضرورة كنيسة...) لكن لا يمكن مجادلته في التوجه العام لتعريفه. سنلاحظ عدم التطرق بصراحة لإله واحد أو لعدة آلهة.
يلاحظ إميل دوركايم أن تقديس الله ليست خاصية جميع الأديان، وهذا ما يؤكده مثال الديانة الجايْنِية (Jainisme)، التي هي ديانة ملحدة، ومثال البوذية والتي هي أخلاق بدون إله، وإلحاد بدون طبيعة. إن كل مذهب تأليهي هو مذهب ديني، لكن ليس كل دين مذهبا تأليهيا.
إن تعريف إميل دوركايم للدين المتمركز حول تصورات المقدس والجماعة (التي يشترك أفرادها في خصائص معينة) يقدم المعنى العام السوسيولوجي أو الإثنولوجي لكلمة "دين"، وبما أنني أفكر داخل عالم التوحيد وفقا لتاريخي الشخصي، وخصوصا داخل حقل الفلسفة الغربية، سأقترح تعريفا للدين أقل عمومية وإثنولوجية، وأكثر تيولوجية وميتافيزيقية، تعريفا يحدد الدين كمجموعة صغرى ضمن التعريف العام لدوركايم الذي يحدد الدين كمجموعة كبرى: "الدين في بلداننا هو الإيمان بإله واحد أو بعدة آلهة. وإذا أردنا الجمع بين المعنيين دون أن نخلط بينهما فإننا سنحصل على التعريف التالي الذي ينطلق من تعريف إميل دوركايم ويطوره: أقصد بالدين مجموعة معتقدات وطقوس منظمة مَوضوعُها هو أمور مقدسة فوق طبيعية ومفارقة للطبيعة (هذا هو المعنى العام لكلمة دين)، لكن موضوعها الأساسي على وجه الخصوص هو إله أو عدة آلهة (هذا المعنى الحصري للدين)، معتقدات وطقوس توحّد من يؤمنون بها أو يمارسونها داخل نفس الجماعة الأخلاقية أو الروحية".
هل يمكن اعتبار البوذية الأصلية دينا بهذا المعنى؟ لست متأكدا من ذلك. فبوذا لم ينصّ على وجود أي إله. ومن غير المؤكد أن كلمات مثل "مقدس"، "فوق طبيعي"، "مفارق للطبيعة"، كانت ستلائم واقعا معينا لبوذا أو لأنصاره الأكثر عقلانية. لكن من الواضح أن البوذية التاريخية، بمختلف تياراتها، تحوّلت إلى دين، بمعابده ومعتقداته وطقوسه وصلواته ومواضيعه المقدسة أو التي يدّعون أنها فوق طبيعية. ويمكن قول نفس الشيء، تقريبا، عن الطاوية أو الكونفوشيوسية. كانت الحكمة هي أصل هذه المذاهب، ثم تحولت إلى خرافات عبر العصور. إن الرغبة في الإيمان تنتصر دوما تقريبا على الرغبة في الحرية.
إن أقل ما يمكن قوله في هذا الصدد هو أن الغرب لم يفلت من هذا المصير. فكانت له هو أيضا مدارسه التي تقوم على الحكمة، والتي سوف يواريها التدين، الذي ادّعت تلك المدارس، في وقت، ما إبعاده. يتعايش الإيمان مع العقل. اقتاتا على التعالي طيلة قرون. تشكلت الحضارة منهما. فكيف لا نظل متأثرين بذلك؟ انقرض المذهب الإحيائي في بلداننا. انقرض الشّرك أيضا. ولا أحن لهما إطلاقا. كان انقراضهما خطوة أولى، كما وضح ذلك ماكس فيبر، نحو عقلنة الواقع. بدت الطبيعة وكأنها خالية من الآلهة. بقي فقط فراغُ الصحراء. قال ألان Alain في هذا السياق: "الغياب الرائع هو حضور في كل مكان". وها هي الطبيعة لازالت حية دوما.
إن اليهودية والمسيحية والإسلام ديانات بالمعنى الذي عرفنا به الدين. وهي قبل كل شيء، بالنسبة لبلداننا، الديانات التوحيدية المهمة." (ترجمة محمد الهلالي)
● المرجع:
- André Comte Sponville, L Esprit de l athéisme: Introduction à une spiritualité, éditions Albin Michel, 2006