رجلٌ خارج المألوف: علي أكبر محتشمي ومصير النظام الإيراني


جلبير الأشقر
2021 / 6 / 23 - 09:36     


إن كان أحد يشكّ في أهمية الدور التاريخي الذي لعبه علي أكبر محتشمي (محتشمي بور) الذي توفي في السابع من هذا الشهر من جراء إصابته بمرض كوفيد، فإن اختلاف أنواع النعي التي صدرت عنه كفيل بلفت الانتباه إلى أنه كان رجلاً خارجاً عن المألوف. والحال أن محتشمي نعم برثاء وثناء عليه من طرف «المرشد الأعلى» الإيراني و«حزب الله» اللبناني، وكذلك من أوساط المعارضة الإيرانية والمتعاطفين معها وصولاً إلى صفحات صحيفة «فايننشال تايمس» اللندنية. فلنتوقف عند ما يمكن حصده مما صدر عن مسيرة هذا الرجل السياسية الاستثنائية.
كان علي أكبر محتشمي، وهو من مواليد عام 1947، من أول أنصار مؤسس «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» آية الله روح الله الخميني، وقد التقاه وتبع مرجعيته خلال دراسته في النجف، حيث عاش الخميني منفياً بين سنتي 1965 و1978. وقد اختصّ محتشمي بالعلاقة بأوساط المقاومة الفلسطينية في سوريا ولبنان خلال السبعينيات. ثم رافق الخميني إلى منفاه الفرنسي، بعد أن طرده صدّام حسين من العراق بضغط من شاه إيران، ومن فرنسا إلى إيران التي عاد إليها الخميني قائداً للثورة على الشاه في عام 1979.
ولم يكن من الصدفة أن يجري تعيين محتشمي سفيراً لبلاده في دمشق في عام 1982، على خلفية الاجتياح الصهيوني للبنان، وقد بقي في ذلك المنصب لمدة ثلاث سنوات كان له خلالها الدور الرئيسي في تأسيس «حزب الله» اللبناني بصهر الجماعات اللبنانية الشيعية (لاسيما «أمل الإسلامية» المنشقة عن حركة «أمل») التي التقت على نصرة «الجمهورية الإسلامية» ونهج مؤسسها. ويُروى أن محتشمي، بالتعاون مع «فيلق حرس الثورة الإسلامية» أشرف على العمليات التي طالت القوات الأمريكية والفرنسية في لبنان في عام 1983 والسفارة الأمريكية في العام التالي. وقد استهدفته في ذاك العام 1984 محاولة اغتيال دبّرها الموساد الإسرائيلي بواسطة طرد ملغوم عندما كان لا يزال سفيراً في دمشق. وقد نجا منها محتشمي، لكنها تركت آثاراً خطيرة «في يديه ووجهه وصدره» نوّه بها بيان النعي الذي أصدره «حزب الله» يوم وفاته.
عاد محتشمي إلى إيران حيث جرى تعيينه وزيراً للداخلية سنة 1985 وقد بقي في هذا المنصب حتى سنة 1989. هذا وخلال سنواته سفيراً ومن ثم وزيراً، كان محتشمي مقرّباً من مير حسين موسوي الذي كان رئيساً للوزراء بين سنتي 1981 و1989، وقد أزيح من منصبه بعد وفاة الخميني بقليل. وقد خلف هذا الأخير في تولي صلاحيات «المرشد الأعلى» رئيس الجمهورية حتى ذلك الحين، علي خامنئي، وقد كان محتشمي وموسوي من غير الراضين عن خلافته، منسجمين مع بعض أبرز أعضاء المرجعية الإيرانية الذين شكّكوا في امتلاك خامنئي للمستوى الفقهي المنوط بذلك الدور الجامع بين السلطتين السياسية والدينية.


ومن المعلوم أن علي أكبر رفسنجاني كان له دور بارز في إيصال خامنئي إلى المنصب الأعلى في «الجمهورية الإسلامية» وقد تولّى خلافته في رئاسة الجمهورية وألغيا منصب رئاسة الوزراء تركيزاً للسلطات وإبعاداً لموسوي الذي جرى إسقاطه إلى منصب المستشار السياسي العادي، كما رفض رفسنجاني إبقاء محتشمي في وزارة الداخلية.
هذا ويروي موقع «إيران إنترنشنال» المعارض لطهران أن محتشمي، الذي كان نائباً في «مجلس الشورى الإسلامي» بعد انتخابه في أوائل 1989 قبل وفاة الخميني، كان قد دعا إلى دعم العراق في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها سنة 1990، و«المشاركة في الجهاد المقدّس ضد الولايات المتحدة» واصفاً العراق بأنه أصبح آنذاك «الساتر الأول في مواجهة عالم الكفر». وقد تناقض هذا الموقف تناقضاً صارخاً مع موقف إيران الرسمي والفعلي، ناهيكم من موقف حليف إيران الإقليمي، الرئيس السوري حافظ الأسد، الذي شارك في الحرب الأمريكية على العراق.
وبعد انتهاء ولايته النيابية في عام 1992 بقي محتشمي خارج مجلس الشورى حتى أعيد انتخابه في أول انتخابات نيابية جرت في عهد محمد خاتمي، الذي أصبح رئيساً للجمهورية في عام 1997 إثر احتدام الصراع بين جناحي الحكم الإيراني المحافظ والإصلاحي. وقد فاز الإصلاحي خاتمي في معركة انتخابية حامية تميّزت بمشاركة قياسية بلغت ثمانين بالمئة من الناخبين، أدلى سبعون بالمئة منهم بأصواتهم لصالحه في الدورة الأولى. وإذ انتمى محتشمي وموسوي هما أيضاً إلى الإصلاحيين، عيّن خاتمي رئيس الوزراء السابق مستشاراً كبيراً له وبقي موسوي يقوم بهذا الدور حتى انتهاء ولاية خاتمي الثانية في عام 2005.
في الانتخابات الرئاسية لذلك العام، فاز محمود أحمدي نجاد، مرشّح المحافظين المدعومين من خامنئي ومن «حرس الثورة» في الدورة الثانية، بعد حصوله على أقل من عشرين بالمئة من الأصوات في الدورة الأولى. وقد حاز على ما يزيد قليلاً عن ستين بالمئة من الأصوات في الدورة الثانية في مواجهة رفسنجاني، الذي كانت علاقته بالجناح المحافظ قد انحطت، فجنّد المحافظون كافة أجهزة الحكم والمؤسسة الدينية لضمان فوز مرشحهم. وعند الانتخابات الرئاسية القادمة في عام 2009، دبّ الخلاف المعروف على تزويرها لإبقاء أحمدي نجاد في الرئاسة لولاية ثانية وقطع الطريق أمام موسوي الذي ترشّح ضدّه. وقد شهدت إيران إثر تلك الانتخابات حركة احتجاج شعبية واسعة جرى قمعها بقسوة من قبل الحكم و«حرس الثورة». عندها قرّر محتشمي مغادرة إيران لامتعاضه مما جرى، فانتقل إلى العراق حيث مكث في النجف حتى إصابته بالمرض.
وإذا كانت من عبرة تُستخلص من هذه السيرة الاستثنائية وما عاصره محتشمي من تقلبات سياسية، فهي أن النظام الإيراني تميّز بتعدّدية حقيقية خلال عقود، وإن كانت محدودة بالتأكيد إذ انحصرت في إطار الولاء للنظام ومبدأ «ولاية الفقيه». وقد أراد الحكم ومرشده هذه المرّة تفادي المجازفة والاضطرار إلى خلق ظروف مماثلة لتلك التي شهدها عام 2009، فقطعوا الطريق أمام الإصلاحيين برفض «مجلس صيانة الدستور» ترشيح ممثّلهم الأبرز، علي لاريجاني. وقد جاءت النتيجة مطابقة للتوقعات إذ بلغ الامتناع عن التصويت مستوىً قياسياً، فلم يشارك في الانتخابات سوى أقل من نصف الناخبين بحيث فاز مرشّح المحافظين، إبراهيم رئيسي، بأدنى شرعية انتخابية عرفها رئيس للجمهورية الإيرانية منذ أحمدي نجاد، وكافة الدلائل تشير إلى أن خامنئي، الذي بلغ الثانية والثمانين من العمر، يعدّه لخلافته مثلما خلف هو الخميني بعد أن كان رئيساً للجمهورية.