الفيلسوف كيركجارد: القلقُ يكشفُ عن عظمة الإنْسانِ


محمد الهلالي
2021 / 6 / 22 - 08:59     

لا يعتبرُ سورينْ كِيرْكِجَارْدْ Soren Kierkegaard (1813-1855) نفسَه فيلسوفا وإنما يصنفُ نفسه كشاعر ديني. تمحور فكره حول "الشخص الإنساني" وحول "قضاياه الوجودية". يهتم بالإشكاليات التي تساهم في تغيير حياة الإنسان. ويعتقد أن الحقيقة ليست مفهوما مجردا وإنما هي ما ينبغي أن يتجسد في وجود الإنسان. فالإفراط في المعرفة يقود الإنسان إلى نسيان وجوده. كما أن السؤال الذي يهمّ كيركجارد ليس هو معرفة العالم والله والدين، وإنما هو: كيف يجعل الإنسانُ من حياته تعبيرا عن الحقيقة؟
فلكي يصبح الخطاب كلاما حقيقيا، ينبغي أن يتجسد داخل الوجود وليس أن يتمحور حول الوجود. فهدف الفكر ليس هو العقلانية المجردة وإنما هو أن يُعاش داخل الوجود. وبهذا المعنى يعتبر كيركجارد من أبرز الفلاسفة المعارضين والرافضين لفلسفة هيجل.
هو مفكر ديني، واحد رواد الفلسفة الوجودية، صاغ فلسفة يمكن نعتها بأنها فلسفة الاختيار. ومن الفلاسفة الأوائل الذي دافع على أن الحقيقة ذاتية. كما اهتمت فلسفته اهتماما كبيرا بالتعبير عن المشاعر الداخلية. كما أن مسيحيته هي مسيحية بدون وساطة وبدون مؤسسات وتكاد تكون بدون كنيسة. كما وصف الحياة الداخلية للإنسان باعتبارها وعيا ممزقا بين الشك والخطيئة الدائمة ومأساة الاختيار.
إن القلق، حسب كيركجارد، هو شعور ملازم للوضع البشري. لذلك توخى توضيح بعده العام، أي عدم النظر للقلق باعتباره يقتصر على موضوع محدد، وإنما النظر إليه كتجربة يعيشها الإنسان في مواجهته للحياة: القلق هو ما يشعر به الإنسان وهو يواجه الحياة.
تطور معنى القلق منذ اليونان القديمة. كان معناه عندهم هو "الاختناق" و"التضييق". كان يشير لأعراض جسدية تدل على حالة قلق ناتجة عن العلاقة مع العالم ولم يكن يدل على الحالة نفسها. وتطور معناه بعد ذلك عبر التاريخ. لم يكن العالم بالنسبة لليونانيين مصدرا للقلق لأنهم كنوا يتصورونه ثابتا. لذلك يرى كيركجارد أن المسيحية هي أصل القلق، أي أنها هي التي تسببت في أن يصير العالم مصدرا للقلق. ويشرح ذلك من خلال مسألة "الخطيئة الأصلية": فهو يرفض التأويل السائد تاريخيا للفعل المنسوب لآدم، والذي يعتبره المسيحيون "خطيئة أصلية".
يفسر كيركجارد فعل آدم تفسيرا نفسيا، يحرره من التأويلات الوثوقية (الدوغمائية) السائدة. يرى أنه من الخطأ اعتبار أن الحياة الإنسانية هي مجرد تكرار لتجربة فرد استثنائي. فآدم، حسب كيركجارد، لم يُدخِل الخطيئة للعالم، لأن الخطيئة سمة ملازمة للطبيعة البشرية. ويؤكد أن كل الناس غير مرتبطين "بالإنسان الأول" عن طريق الخطيئة، وإنما هم مرتبطون به من خلال الفكر. هذا الفكر الذي يجعل الإنسان يعيش حياته كفرد له خصوصيته، وكعضو في النوع الإنساني.
إن القلق يكشف عن عظمة الإنسان حسب كيركجارد. فهو خاصية من خصائص الفكر الذي يميز الإنسان ويفصله عن الحيوان. لقد أصيب الإنسان بالقلق إبان طفرته الأصلية. ففي البداية، لم يكن الإنسان يملك خاصية الفكر امتلاكا فعليا، وإنما كان يملكها بالإمكان (بالقوة). وفي هذه الحالة، حالة عدم التمييز بين الجسد والفكر (الروح)، كان الإنسان يعيش حالة جهل مُسبّبة للبلبلة والاضطراب. والسبب في ذلك هو أنه كان "لا يَعرف أنه لا يعرفُ". هنا ظهر القلق عن الالتباس الذي تملّك الإنسان الأول. تملّك القلق آدم وهو لا يميز بعد بين الخير والشر: فمنحه القلق إمكانية الحرية.
كيف منح القلق إمكانية الحرية لآدم؟ إذا كانت جميع الظروف التي تجعله يرتكب الخطيئة قد اجتمعت، فلقد كان بإمكانه عدم ارتكابها. فالروح الإنسانية هي الوحيدة القادرة على الانتقال من الفكرة إلى الفعل.
إن خاصية القلق هذه جعلت كيركجارد يعتقد أن هذا الأخير يمكنه ان يقود الإنسان إلى الإيمان. فالقلق هو قبل كل شيء مانعٌ يمنع الإنسان من ارتكاب الخطيئة. فهو يظهر في حياة الفرد وفق العلاقات التي ينسجها مع الخطيئة. ويتسبب له في عدة أصناف من العذاب الأخلاقي. ويبقيه في علاقة وهمية بالوجود. ويمنعه من التفكير في الغاية من حياته وفي نتائج الخطيئة الأصلية، وهو بذلك يشكل عائقا يعرقل مساره، لكنه عائق يقوده للإيمان.
يقترح كيركجارد كمخرج من هذا المأزق أن يقومَ الإنسانُ بالسيطرة على القلق عوض الخضوع له، وهو الأمر الذي سيجعله يقبل علاقته الضرورية مع الله. وهذه العملية ممكنة لأن الإنسان هو عبارة عن كلٍّ يتكون من جانب ملائكي وآخر حيواني: إنه عبارة عن تركيب، وبما أنه كذلك فبإمكانه اخْتبَار تجربة القلق.
إن القلق مفهوم مركزي في فكر كيركجارد. استعمله للإشارة إلى ما يشعر به الإنسان لما يعي وضعه في العالم. لن يتمكن الإنسان من بلوغ الحقيقة المطلقة، ولن يتأكد من أي شيء. فهو مجبر على أن يختار دون بلوغ اليقين بأن اختياره صحيح. لذلك فاللجوء للإيمان هو الحل. الإيمان يقين ذاتي. فالأمر يتعلق بمعرفة الحقيقة بالنسبة للذات، وليس بمعرفة الحقيقة في ذاتها. القلق شعور بدون موضوع محدد. ويوجد القلق في علاقة الإنسان بضرورة اختياره لاختيارٍ معين ضمن عدة إمكانيات خاصة بوضعه. فالقلق هو التعبير عن تجربة الحرية التي يختبرُها الإنسان كدُوَار (دوخة). لذلك من الضروري دراسة القلق نفسيا باعتباره شعورا عوض دراسته فلسفيا كمفهوم.