المرجعية الأخلاقية للاديني.


عبدالله محمد ابو شحاتة
2021 / 6 / 20 - 21:51     

السؤال عن المرجعية الأخلاقية بالنسبة للمؤمن هو السؤال الذهبي الذي يظن أنه بإمكانه أن يُحرج به اللاديني بأن يجعل مواقفه النقدية غير مبررة. وهو رغم شيوع استخدامه فهو اعتراض سفسطائي ليس له أي معنى من عدة وجوه. الوجه الأول أن المواقف النقدية التي يتبناها اللاديني اتجاه شرائع الأديان هي مبنية في الغالب على التناقض الذاتي بين منظومة الدين الأخلاقية والتشريعية ، أي أنه من منظومتك أدينك وليس من خارجها.
الوجه الثاني أن السائل عن المنظومة الأخلاقية غالباً ما يكون جاهل أصلاً بماهية الأخلاق، فهو يسأل فقط من باب الجدال الفارغ وإحداث تشتيت وتشويش لا أكثر، دون أن يستند سؤاله على أساس علمي أو بحث جاد. ولذلك فالسائل عن المرجعية الأخلاقية يجب أن نطلب منه أولاً أن يعطينا مفهوم واضح عن ماهية الأخلاق، وإذا ما فشل في ضبط المفاهيم فلا يصبح نقاشه وقتها إلا مجرد سفسطة فارغة وجدال طفولي لا يُلتفت إليه.
وفي هذه المقالة سنحاول أن نضبط مفهوم الأخلاق ونخلص من ذلك إلى أقرب إجابة منطقية عن سؤال المرجعية الأخلاقية.

من الأخطاء الشائعة عند الحديث عن الأخلاق هو تقديمها باعتبارها ذات طبيعة ذاتية، أي أنها تنبع أساساً من الفرد، وهذه بالطبع سفسطة ميتافيزيقية قديمة؛ فلا معنى للحديث عن روبنسون كروزو الفاضل و الأخلاقي في جزيرته المعزولة، فالأخلاق في أساسها تفترض الاجتماع، ولا أخلاق بدون اجتماع ولا اجتماع بدون أخلاق. ففي حالة الحرية الأولى لا وجود لما يمكن أن ندعوه منظومات أخلاقية، ففي حالة الحرية الأولى كل شيء مباح.
ثم مع بدأ تحول الإنسانية إلى حالة الاجتماع يضطر الإنسان للتخلي عن حريته الطبيعة وتقديم تنازلات مشاركاً في عقد اجتماعي كما شرح روسو. فلا يمكن أن يصبح الإنسان عضواً في جماعة مع احتفاظه بحريته الطبيعية كاملة؛ بل يجب عليه تقديم تنازلات متساوية هو وكافة أعضاء الجماعة وتلك التنازلات هي ما ندعوها نحن الأخلاق. والجماعة تظل مطالبة دوماً بالحفاظ على الميثاق الأخلاقي المشترك ومنع خرقة بكافة الوسائل المتاحة، من بداية التلقين الأخلاقي للنشأ وحتى إيقاع العقاب والجزاءات على المخالفين لكون وجود الجماعة ذاته لا يقوم إلا على بقاء هذا الميثاق، وزواله يعني زوالها.
ولكون الأخلاق في أساسها لا تبنى إلا على وجود الجماعة ستجد أن الأخلاقيات القديمة والبدائية لم تكن في الواقع إلا محلية الطابع، أي تختص بأفراد الجماعة فقط ولا تحوي أي معنى لتضمين أخلاقي متجاوز للجماعة كما وضح نيتشه في جينيالوجيا الأخلاق، فالإنسان البدائي لم يكن ليجد مانع أخلاقي زي وزن في سلب ممتلكات الجماعات الأخرى أو قتلها أو استعبادها، بل لربما اعتبرت تلك الأمور من أفعال البطولة التي يتفاخر بها الفرد بين جماعته. ولذلك لن تجد حتى عهد قريب منظومة أخلاقية كونية الطابع، أي تشمل بمظلتها كافة البشر وتساوي بينهم في الحكم الأخلاقي. فالأديان الإبراهيمية الثلاثة على سبيل المثال لم تكن إلا منظومات أخلاقية محلية بالرغم من اتساع نطاق تأثيرها، ولا داعي لسرد الكثير من الأمثلة على ذلك فهي أوضح من أن تسرد، فالتشريع الإسلامي على سبيل المثال يقول أن المسلم لا يُقتل بدم الكافر وأن الكافر ديته نصف دية المسلم، وكذلك اليهودية تختص شعبها الذي تسميه المختار بأحكام أخلاقية خاصة ولا تساويه بالأمم الأخرى وهكذا المسيحية. وهو ما جعل من تلك المنظومات الأخلاقية عبأ على العالم الحديث الذي بدأ كنتيجة للعولمة واختلاط الثقافات والمصالح الإنسانية في تبني تصور أخلاقي كوني عابر للثقافات كبديل عن المنظومات المحلية القديمة، فالتحولات الاجتماعية والتكنولوجيا والثقافية التي رافقت الحداثة وما بعد الحداثة اقتضت نشأة منظومة أخلاقية شاملة مع تحييد المنظومات المحلية والدينية وإعطاء ذات الحقوق للجميع دون تمييز تحت ستار دولة علمانية مبنية على مفهوم المواطنة والمصلحة الجمعية. وهذا هو مكمن الصراع بين التقليدية والحداثة وبين العلمانية والدين، فتلك الصراعات في باطنها تعبيرات عن صراع المحلية والموهبة، عن صراع الأخلاق المختصة والأخلاق الشاملة.
وأظن أنه بعد التأصيل السابق أصبحت الاجابة على سؤال المرجعية الأخلاقية واضحة، فالمرجعية الأخلاقية لأي إنسان ما هي إلا العقد الاجتماعي الذي يحفظ كيان جماعته وبقائها وبالتالي يحفظ بقاءه كإنسان. والتناقضات بين أخلاق البشر في أساسها نابعة من السؤال المحوري عن حجم الفئة التي يعتبرها الإنسان جماعته؟ فكلما ضاقت تلك الفئة كان الإنسان أحط أخلاقاً، وكلما اتسعت ارتفع هذا الإنسان في شعوره الأخلاقية. فشتان بين سلوك من تقف حدود جماعته عند العشيرة والدين وبين من يتسع مفهوم الجماعة لديه ليشمل الإنسانية جمعاء.