الموضوعي و الذاتي


احمد المغربي
2021 / 6 / 18 - 08:58     

لقد كانت و لا زالت العلاقة بين الذاتي و الموضوعي من بين أهم المسائل المرتبطة بسؤال “الإصلاح أو الثورة ؟” و قضايا الاستراتيجية و التكتيك في السياسة كما كانت من بين أهم الأسئلة التي تطرقت لها الفلسفة لاتصالها الشديد بمواضيع لا إجابة عنها خارج إطار أُمّ العلوم كالعلاقة بين الفكر و الوجود و فلسفة التاريخ و العلوم الانسانية الأخرى

و بشكل عام يتبنى الاصلاحيون باختلاف أشكالهم القدرية و يستبعدون أي فعالية للذاتي فيجدون نفسهم في خندق الكهنة الذين يروجون لعدم جدوى عناد و تحدي ما يعتبرونه قدراً إلاهيا محتوما

لكن ما هي العلاقة الحقيقية بين الموضوعي و الذاتي؟ و هل للإنسان قدرة على تغيير ظروفه ؟

عند نشوء مشكلة تشكل ظرفا موضوعيا معينا فالأفراد المعنيون بإيجاد حل له يقومون بنشاط ذاتي انطلاقا من قدراتهم و امكاناتهم الموضوعية لكن هاتين الأخيرتين بحكم طبيعتهما لهما قابلية التطور و التوسع تحت تأثير التفاعل الديالكتيكي بين الظرف و النشاط فالحاجة تحفز البحث لانجاب و ابتكار الاختراع و كذلك المشكلة تقوم بنفس العملية لإيجاد حلها و خلال العمليتين نلاحظ أن ما لم يكن يبدوا ممكنا في نقطة البداية يصبح واقعا حقيقيا و الظرف الموضوعي الذي كان يبدو غير قابل للتجاوز يغدو ماضيا متجاوزا

قد تختلف المدة الضرورية و النشاط الذاتي اللازم لتغيير ظرف ما لكن التخلي عن النشاط الذاتي و الاختباء وراء متاريس التبريرات الانهزامية و المحافظة مجرد جبن رجعي لم يكن بإمكان البشر التقدم أو حتى الحفاظ على استمرارهم لو اعتمدوا عليه فتاريخ هذه الكائنات منذ وجودها في الكون يفند مزاعم العجزيين

و قدم مؤسس الجيش الأحمر و قائده في الحرب الأهلية مثالا جيدا عن العلاقة بين الموضوعي و الذاتي انطلاقا من تجربة الثورة الروسية فقال في سرده لذكريات الحرب : “هناك على مقربة من قازان على هذه الرقعة المحدودة من الأرض كان بإمكان المرء أن يرى تنوعا ثريا من العوامل في التاريخ البشري و كان بإمكان المرء أن يخوض الجدالات ضد القدرية التاريخية الجبانة التي تختبئ في كل القضايا الملموسة خلف سلبية قانون العلة و المعلول متجاهلة أهم العوامل ألا و هو الإنسان الفاعل النشط . هل كانت هناك حاجة للمزيد من أجل الاطاحة بالثورة ؟ كانت رقعة الثورة تتقلص حتى وصلت فقط إلى حدود إمارة موسكو القديمة و لم يكن لها جيش بينما أحاطها الأعداء من كل جانب و بعد قازان كان ليأتي الدور على نيجني نوفوجورد التي منها ينفتح الطريق دون عائق إلى موسكو كان مصير الثورة نفسه يتوقف على سفيياجسك و هناك في اللحظات الأكثر حسما كان هذا المصير يتوقف على مفرزة واحدة على فرقة واحدة على بسالة مفوض واحد”(تروتسكي – حياتي)

يمكن و يجب أن نؤكد صحة أن للعالم قوانين موضوعية ليست خاضعة للإرادة كما طرح شوبنهاور لكن إنكار دور الإرادة الواعية بتلك القوانين و فعليتها في الحياة كمحفز وطاقة للعمل و كقوة مؤثرة حقيقية يعني الترويج لأفيون الاستسلامية و السلبية و يعني كذلك لعب دور الجسر المؤَدي للمبدأ الرجعي المسمى بعدم مقاومة الشر و قد سبق لقائد الثورة الكوبية أن قدم جوابا رائعا لأمثال هؤلاء العجزيين المحافظين فقال : “ستكون هناك دائما الكثير من الأعذار في جميع الأوقات و الظروف من أجل عدم خوض القتال و هذا يعني أننا لن نتمكن أبدا من تحقيق الحرية”(فيديل كاسترو – مقدمة ضرورية لمذكرات بوليفيا) و كذلك مقارنة تجربة الثورة الكوبية مع التشيلية كفيلة بكشف الدور الكبير الذي يلعبه العامل الذاتي

و في شرحه لعلاقة الانسان بالظروف الموضوعية وضح الفيلسوف الثوري كارل ماركس بنهج مادي ديالكتيكي بعيد عن القدرية أو الميكانيكية أن “الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم لكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم إنهم لا يصنعونها في ظل ظروف يختارونها بأنفسهم بل في ظل ظروف قائمة بالفعل ظروف ورثوها و نقلوها من الماضي”(كارل ماركس – الثامن عشر من برومير “لويس بونابارت”) وهذه الفكرة التي تلخص العلاقة الجدلية بين الموضوعي و الذاتي لا تنحصر فقط في أحداث عظيمة كالثورات بل تتجسد كقانون حي في كل جوانب حياة البشر فإذا تطرقنا مثلا موضوع احتمالات الإثراء فمن الواضح أنه :

كقانون موضوعي ف “لا أحد أصبح غنيا بالعمل من الثامنة صباحا حتى الخامسة مساء”(بابلو اسكوبار) أي أن الاثراء عن طريق العمل المأجور مستحيل كما وضح ماركس
يمكن لشخص فقير أن يصبح ثريا لكن الطريق التي سيجب عليه السير فيها و الوسائل التي سيُفرض عليه استعمالها لبلوغ غايته ستكون مختلفة جذريا عن طريق و وسائل شخص ميسور ورث نصيبه من الثروة العائلية
أما الجانب الآخر الذي يتغاضى عنه أنصار العجز و الانتظار في تعاملهم مع العلاقة بين الموضوعي و الذاتي فهو درس “ما بعد الحرب العالمية الثانية” الذي قدمته البلدان المتخلفة التي اختارت الطريق الاشتراكي فقد كانت الظروف التي كان على البلدان المتخلفة أن تبني في ظلها “اشتراكيتها” مثل الظروف التي كان على الفقير أن يكافح في ظلها ليتجاوزها و يصبح ثريا و رغم عجز تلك البلدان عن بناء الاشتراكية مثلما يعجز أغلب الفقراء عن التحول لأثرياء فالمهم هو أنهم في طريق كفاحهم تجاوزوا نقطة التخلف و الفقر و ساروا بعيدا عنها في حين أن العجزيين و الانتظاريين في الدول المتقدمة التي كانت فيها الطروف جد ملائمة لبناء الاشتراكية كانوا مثل الميسور المقامر الذي لا يعجز فقط عن تطوير ثروته الموروثة بل كذلك يفقدها و يعجز عن الحفاظ عليها لينتهي به المطاف للإفلاس