الواقع الطبقي في المجتمع العربي الفلسطيني 48 (3) - التكتلات الاجتماعية والطبقية


ارام كيوان
2021 / 6 / 17 - 21:00     

في مجتمعٍ رأسماليٍّ صافٍ، يوجد طبقتان رئيسيّتان تتصارعان: البروليتاريا والبرجوازيّة، ولا يكتمل التكوين الطبقيّ إلّا بوجودهما. ومهما شهد المجتمع من صراعاتٍ اقتصاديّةٍ أو نزاعاتٍ أخرى فإنّها لا ترقى لمنزلة صراعٍ طبقيٍّ. للتوضيح أكثر، نقتبس من كارل ماركس في "بؤس الفلسفة":

"وهو صراعٌ (بين البرجوازية والبروليتارية) يعبّر عن نفسه بادئ ذي بدءٍ - قبل أن يدرك ويقدّر ويفهم ويعرف ويعلن عاليًّا من كلا الجانبين بوقتٍ طويلٍ - بمجرد نزاعاتٍ جزئيّةٍ ومؤقتةٍ، في أعمال هدّامةٍ (ص184) ... وطالما لم تتطوّر البروليتاريا بعد حتّى تشكّل ذاتها كطبقةٍ. وبالتّالي، طالما أنّ صراع البروليتاريا مع البرجوازية ذاته لم يكتسب طابعًا سياسيًّا، وأنّ القوى الانتاجيّة لم تتطوّر بما يكفي في أحضان البرجوازية ذاتها، بحيث نتمكن من أن نتبيّن الظروف الماديّة اللّازمة لانعتاق البروليتاريا، ولتكوين مجتمعٍ جديدٍ (ص188)"
(هذه الفقرة المقتبسة من ماركس لا تعني أنّني أسقط ما كتبه على أيٍّ من المجتمع العربيّ أو المجتمع الاسرائيليّ. ما أريد أن أوضّحه ها هنا هو معنى "طبقات عصريّة"، وهي، كما يتّضح للجميع: عندما يأخذ شكل الصراع الطبقيّ طابعًا سياسيًّا، وتكتمل الشروط الماديّة لانعتاق طبقةٍ معيّنةٍ، وهذا ما لم يحدث داخل المجتمع العربيّ، بل ما حدث هو "نزاعاتٌ جزئيّةٌ مؤقتةٌ".)

ظروف المجتمع العربيّ أدّت إلى بروز كثيرٍ من الآفات والمآسي في الحياة اليوميّة: العنف، الفساد، غياب الحريّات الديمقراطيّة، تهميش المرأة، الابتعاد عن الحياة الحزبيّة بمفهومها العصريّ، غياب مشاريع التنمية، الافتقار إلى المرافق الخدماتيّة. كلّ هذه الظروف مجتمعةً، هيّأت البيئة الخصبة لتبلوّر فئةٍ (لا أملك تقديرًا لحجمها) قرّرت الهروب من همجيّة المجتمع والذهاب الى المدن المختلطة ليمارسوا نمط عيشٍ مختلفٍ ويبحثوا عن "الحقيقة" ويناضلوا على طريقتهم الخاصّة ويعيشوا في مجموعاتهم الدافئة الّتي يستطيعون من خلالها التعبير عن ذواتهم بشكلٍ مستقلٍّ عن المجتمع.

بعد كلّ ما ذكر أعلاه، لا نقصد أنّ المجتمع العربيّ بدون طبقاتٍ، بل لم يكتمل فيه تطوّر الطّبقات: حيثُ أنّها موجودةٌ ولكنّها لم تتحدّد حتّى الآن، ذلك أنّها تتغيّر على الدوام وتتبادل عناصرها، إلى جانب وسائل الإنتاج غير القادرة على احتواء كلّ اليد العاملة داخل المجتمع. وإذا أردنا أن نصف الأمور على نحوٍ أدقٍّ وأكثر شموليةٍ نقول أنّ المجتمع العربي فيه نمط انتاج ما قبل رأسماليٍّ متداخلٌ مع نمط إنتاج رأسماليٍّ ويتأثر به بشكلٍ ملحوظٍ ويعيش على هامشه ويخلق في داخله فئاتٍ وجاهاتٍ بقائها مرتبطٌ ببقاء الحال كما هو، أي ببقاء النظام الإسرائيلي على حاله. وفي تقسيم العمل الاجتماعيّ تشكّل الجغرافيا تعبيرًا عن هذا التقسيم فيشار لكلّ بلدةٍ وقريةٍ بمهنة غالبيّة سكانها.

عاش المجتمع العربيّ ركودًا طويلاً والّذي، لولا الظّرف الوطنيّ (والّذي سنأتي إليه)، لما شعر أحدٌ أنّ الزمن يتقدّم. ولكنْ، في السنوات الأخيرة، مع توغّل السّياسات النيوليبرالية بشكل متوحشٍ، فإنّنا نلمس تحلّلاً في بُنى المجتمع التقليديّ لا نعرف إلى أينَ سيفضي. مقاومة المجتمع التقليديّ للحفاظ على نفسه تنبع من المؤسسات المكوّنة للمجتمع، فمن المدرسة والعائلة والأعراف وباسم الدين يتمّ تعليم "قواعد" السلوك المناسب، أيْ المسموح والممنوع في ظلّ النمط القائم والتقسيم الاجتماعيّ الحاليّ. هذه القواعد الأخلاقيّة للوعيّ تعني احترام التقسيم الاجتماعي الحاليّ، وإبقاء ميزان علاقات القوة على حاله، والمنافسة على الترقي، ومقاومة الانحدار من داخله بدون المطالبة بتغييره (تغيير النظام القائم) جوهريًّا. بذكر المدرسة، ففي حالة منظومة التعليم العالي، فليس للتيّار الأكاديميّ توجهٌ، وإذا أردنا أن نلخّص الاختلاف بين التيار الأكاديميّ اليوم وبينه سابقًا، علينا التنويه أنّ تغييب السياسة عن المجتمع العربيّ يشمل أيضًا الأكاديميّين. فبعد أن كانوا يتلقون، في سبعينات القرن الماضي، تعليمهم العالي في دول شرق أوروبا، بمنح من الحزب الشيوعي، ويعودون حاملين لأفكارٍ تقدميّةٍ، أصبحوا اليوم، وبعد أن فُتِحَ التعليم العالي الاسرائيلي بوجه المجتمع العربيّ، لم يعد الأكاديميّون يعيرون الحزبيّة والمعنى الحقيقيّ للسياسة انتباهًا واتجه كثيرٌ منهم لبيع التفاهات. ونفر ليس بقليلٍ اصطفّ وراء العائلة والحمولة، ومنهم من قال بجهلٍ وصلافةٍ أنّ السياسة لا تعنيه وتحوّلوا إلى حثالاتٍ تحمل الشهادات.

بعد ما أسلفناه، نقول أنّ السياسات الاسرائيلية والظروف الّتي مرّ بها المجتمع العربيّ جعلت التركيبة الاجتماعيّة في المجتمع العربيّ داخل اسرائيل تمتاز بأمرين:
1. قوّة الانتماءات الفرعيّة، العائليّة والطائفية (تحويل العائلة أو الطائفة الى موقف سياسيٍّ واجتماعيٍّ).
2. قوّة رؤوس الأموال وأرباب العمل في المدن والمناطق التي عاشت بعض "الانفتاح".

وهنا، أعود إلى بحث الرفيق محمد خلايلة بعد انتخابات السلطات المحليّة الأخيرة حيث "حصلت الأحزاب السياسيّة قاطبةً على حوالي 110 مقعدًا في المجالس المحليّة من أصل 840 عضوًا في البلدات العربيّة وعلى 12 رئاسة سلطةٍ محليّةٍ من أصل 76 بلدةً جرت بها الانتخابات".

اما النتائج المستخلصة من نتائج الانتخابات، فاقسّمها أوّلًا إلى نتائج حول ماهية الكتل السياسيّة والتكتلات الطبقيّة الموجودة في البلدات والقرى العربيّة. وبعدها، مجموعةٌ من الاستنتاجات حول معالم الاقتصاد والسياسة ككلّ.

من هنا، نستطيع أن نقسم "المجموعات" الطبقية الى ثلاثٍ:
1. البرجوازيّة (مع التحفّظ) والّتي تتشكّل بالأساس من أرباب العمل، ويشكّل المقاولين وكبار التجار التكتّل الأكبر داخلها، وتحوي فئات أخرى هشّة التكوين كرأس المال الصناعيّ.
2. الفئات المتوسطة التي تتألف من صغار المنتجين والتجّار الصّغار وسائقي الأجرة والفنّانين والمحامين والأطّباء والمعلّمين والحرفيين والأكادميّين ورجال الدّين موظفي وزارة الأديان وكذلك الجهات والجاهات المرتبطة ببقاء النظام الإسرائيليّ.
3. العمّال والكادحون، فلا أسميها لا بروليتاريا ولا طبقة عاملة انما "الطبقات الشعبيّة" بسبب ترسّبات الحاضر والماضي الّتي تمنع طبقةً عاملةً حديثةً من النشوء والتطور.

هذه هي التقسيمة الطبقيّة الموجودة حتّى اللّحظة والّتي تتغيّر باستمرارٍ ولا تبقى عناصرها ثابتةَ. يهبط ويصعد ويتدحرج أفرادها على الدوام بين هذه المجموعات الثلاث، ولا تبدو الهُويّة الطبقيّة واضحةً لكلٍّ من الأفراد، ولا وعي الفرد بمكانه الطبقيّ والاجتماعيّ، ولا يتكتّل جميع أفراد هذه المجموعات في كيانٍ سياسيٍّ واحدٍ. وهذا نلاحظه بتتبع جغرافيا فلسطين، حيث نجد:
1. أماكنَ الصّراع فيها عائليًّا او طائفيًّا بحتًا (والملاحظ كذلك أنّه حتّى داخل العائلة والطائفة الّتي لا تشكل طبقةً، يقودها ويقف على رأسها شخص إمّا من الفئة الأولى أو الثانيّة غالبًا).
2. أماكنَ الصّراع فيها بين رؤوس الأموال وأرباب العامل (طبعًا مع أخذ التركيبة العائليّة بعين الاعتبار)، مثل: أم الفحم، الناصرة.
3. أماكن تمكّنت فيها الأحزاب من استعادة قوّتها (داخل الأحزاب أيضًا يوجد خليط بين الفئتين الأولى والثانية ولكن في الغالب ترجّح الكفّة للثانيّة).

نتائجٌ حول معالم الاقتصاد والسّياسة عند العرب:
1) ضعف الحركات والأحزاب السياسيّة، وظهور قوّة أرباب العمل في المناطق الّتي عاشت قليلاً من الانفتاح.
2) اقتصاد الفساد، أي قيام النافذين وأصحاب القرارات بعملياتٍ غير مشروعةٍ وتعييناتٍ غير قانونيةٍ وتجاوزاتٍ.
3) غياب المشاريع الانتاجيّة الكبيرة في قطاعي الصناعة والزراعة، وقلّة المرافق الخدماتيّة، وعدم فعاليّة المؤسسات، وانتشار المصالح الصغيرة والّتي تشكّل 95.8% من مجمل المصالح التجاريّة في الوسط العربي ويعمل فيها 66.7% من مجمل العاملين داخل الوسط العربي.
4) حرمان غالبيّة المواطنين من ملكيّة الأرض بسبب وضع الأراضي بيد الصندوق القوميّ اليهوديّ، أيْ ما نسمّيه مشكلة "الأرض والمسكن". وَفق تقرير مراقب الدولة الاخير فإنّ الوسط العربي يحتاج إلى 12-13 الف وحدةٍ سكنيّةٍ اضافيّةٍ كلّ عامٍ.
5) السلطات المحليّة هي المشغّل الأكبر في ظلّ انتشار المصالح الصغيرة.
6) شحّ الميزانيات المقدَّمة للسلطات المحليّة العربيّة يجبرها على الاستدانة من أصحاب المصالح المتوسطة والكبيرة، ما يعيق عمل السلطة المحليّة ويقيّدها.
7) لا وجود لإحصائياتٍ دقيقةٍ حول نشاطات المافيا عند العرب، مثل نسبة بيع السلاح والممنوعات، ولكنْ يُلاحظ في السنوات الأخيرة ارتفاع نسبة التجارة بالمخدرات والسلاح عند العرب: 30% من مجمل المدانين بتعاطي الممنوعات هم عرب عام 2011 بينما ارتفعت النسبة عام 2013 لتكون 35%.
8) خصخصة كلّ شيءٍ كنتيجةٍ طبيعيّةٍ للسياسات النيوليبرالية الإسرائيلية.

الحالة السائدة هي بالضبط حالة مجتمع غيرمعروف الى أين يتجه وما سيولد من أحشائه مستقبلا، تقدّمٌ أم ركودٌ أم تراجعٌ؟ إلّا أنّ انتماءَه الوطنيّ الفلسطينيّ الرّاسخ يزوّدنا، ببوارق أملٍ عظيمةٍ. انطلاقًا من هُنا، نراجعُ ونستعرضُ معًا الحياة الحزبيّة، في الدّاخل، في ظلّ هذا الواقع الاجتماعيّ البائس وامتزاجه مع الانتماء الفلسطينيّ.