متى يوجد العرق..كيف؟/5


عبدالامير الركابي
2021 / 6 / 15 - 17:39     

يوجد العراق مع صيرورة العقل "مجتمعيا"، أي ارتقائه لمستوى الظاهرة التي يبدا بالتصير ضمنها، مع تبلورها الأول، يوم يكون العقل مايزال عقل طور"اللقاط والصيد"،الذي غادره توا ليدخل من يومها حالة من الترقي وصولا للإحاطة بالظاهرة التي تظل تتجاوزقدرته الاعقالية على مدى يستمر لالاف السنين من تاريخ بدايات تبلور المجتمعية، وصولا لمنتصف القرن التاسع عشر الميلادي، يوم تبدا وقتها البشائروالاشارات الابتدائية الدالة على اقتراب العقل من عتبة المجتمعية والاحاطة بمضمرها.
وقتها فقط يجوز القول باننا امام عقل يتجه لوعي ذاته، وادارك كينونته باعتباره غرض الطبيعة والياتها، وان الوجود الحى كائن ومسخر لضمان صيرورته مافوق الجسدية الارضوية، مايجعل الظاهرة المجتمعية وسيلة وموضوعا غير منطو على هدف لذاته وغاية، بل لهدف متعد له، وتصيرمنتم لمستوى من الخلقية اعلى، حالّة فيه، ومتصيرة ضمنه مؤقتا وللضرورة.
وليس لمثل هذا النوع من الاعقال ان يحدث من دون اشتراطات تفاعليه شاملة على مستوى المعمورة، واساسا داخل الموضع المقصود، مايوجب المرور بثلاث دورات تاريخيه رافدينية: أولى هي السومرية البابلية الابراهيمه، وثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، وثالثة هي دورة ،النطقية المؤجلة. قبلها يكون العراق، او ارض مابين النهرين، ارض ماقبل النطقية، وقبل وعي الذات الحالة على العقل البشري، وعلى المجتمعات ابتداء، وخلال الزمن التصيري العقلي الضروري، يوم يكون العقل واقعا مايزال في المفارقة التي تحول بينه وبين ادراك ماهو متصير ضمنه، مع غلبة وشيوع البداهة المجتمعية، ومستوى الادراكية الذي يرى الى المجتمعات كهدف بذاتها، والكائن البشري "الانسايوان" ككائن مكتمل الكينونة، وموحد البنية جسدا ومحركات.
الفارق الهام الحاسم بين عموم المجتمعات، والحالة مابين النهرينيه لهذه الجهه، وابان قرون ماقبل النطقية والاعقال المدرك للمجتمعية ومنطوياتها، ان المجتمعات بعمومها تكون ارضوية، ومن طبيعة وبنيه غير منطوية على محركات واليات أساسية مافوق ارضوية، مايمنحها مع شيوعها على مستوى المعمورة، الغلبه والنموذجية، في الوقت الذي تكون فيه اقرب للانسجام مع ذاتها، ومع نمطيتها الأحادية التي هي عليها، الامر الذي يخالف حالة ارض مابين النهرين، ويضعها تحت وطاة ما ليس منها، ولاهو متلائم، فضلا عن مطابقة بنيتها ونمطيتها، مايفرض على هذا المكان حالة مستمرة من النظر للذات بعين الاخر، مع مخالفتها للحقيقة وللاليات، والسيرورة المتميزه بالدورات والانقطاعات التاريخيه، إضافة لماهوممكن، لابل ماهو لزوم من أنواع الاغفال والحرف المفهومي، والاقصاء لكل مايتصل بحقيقة هذا المكان، او ينم عنه ويدل على طبيعته، بالاخص ابان وخلال زمن الاشتراطات الاحادية الارضوية، وغلبتها الموضوعيه بما هي ضرورة تاريخيه.
اذن فالعراق هو الكيانيه اللاارضوية المجبرة على لبس ثوب الارضوية، دلاله على القصور العقلي الابتدائي، والتعذر التحولي الاني، ودالة على نوع الضرورة الاعقالية الواجبة المؤجلة، المنطوية على احتمالية، لابل على مستقبلية انقلابية معاكسة نوعا ومدى كوكبيا، فالعراق الذي يظل تحت وطاة منظور غيره، مستعيرا إياه، ومحكوما لوطاته، مايلبث في اخر المطاف، ومع بلوغه لحظة ادراكه ذاته ونطقيته البنيوية، ان يصير من وقتها، بديلا اعقاليا كوكبيا شاملا للمعمورة ومجتمعاتها، وعتبة عليا موافقة للحقيقة المجتمعية بعمومها.
وقتها يقارب العقل حقيقة الازدواج المجتمعي المناظر للازدواج التكويني البنيوي البشري العقلي الجسدي، الناشيء مع ظهور العقل الواعي في الجسد الحيواني، وانتهاء الزمن العقلي الحيواني، حيث الغلبة الكلية الجسدية لتحل محلها حالة الازدواج، ( عقل / جسد)، و يبدا زمن "الانسايوان"، الخطوة الأولى الانتقالية المفضية الى "الانسان" عبر المجتمعيه، اخر شكل من اشكال التصّير "الانسايواني"، ومقابل (عقل/جسد)، يدرك وقتها ازدواج ( المجتمعية اللاارضوية/ المجتمعية الارضوية) مع نوع توزعها، وخارطتها البنيوية النمطية على امتداد الكوكب، حيث "اللاارضوية" نقطة مفردة وحيدة ضمن الجسد البشري، في أعلاه، بينما اللاارضوية المابين نهرينيه، واحدة على مستوى المعمورة، بين مجتمعات هي بمثابة الجسد العضوي الأحادي الارضوي، الذي هو صفة المجتمعات كافة.
مع هذا ورغمه، ومع ماهو مكتوب لارض مابين النهرين من وقوع تحت وطاة نموذج ومفهوم الارضوية، ينطوي هذا الموضع بالذات ومن دون سواه من مواضع مجتمعية على الحقيقة المجتمعية الاعم الاشمل، المطابقة للغرضية والهدف الكامن في الظاهرة المجتمعية ككل، مايجعل مستقبله ومستقبل المجتمعات ككل، متوافقان وذاهبان الى الالتقاء بغض النظر عن طول فترة، او طور غلبة الارضوية الأحادية، وانعكاسها على ارض مابين النهرين، بما في ذلك اللحظة الأخطر والاهم، المتولدة عن صعود ظاهرة المجتمعية الأحادية الى اعلى وارقى اشكال تجليها وممكناتها، مع نهوض الغرب الحديث، ووصول موضع الانشطارية الديناميكية الطبقية، ذروة ومنتهى مايمكن ان يبلغه من صعود واكتمال نهائي، على مستويي المنظور والمنجز الشامل في المجالات المختلفة، كما على مستوى النموذج المعاش.
وقتها يغلب النموذج الحديث الغربي، بحكم كونه بالاصل جزءا من النموذج الارضوي الغالب كبنونة، مايؤدي في حالة العراق الى نشوء حالة من الاصطراعية الافنائية المباشرة، هي بالأحرى الشكل الجديد الأعلى من اشكال النظر للذات بعين الاخر، لن تلبث ان تتجلى ضمن اشتراطات ملائمه بصورة توهم، وبطريقة لاواعية، نازعه لحل مثل هذا الاشكال التاريخي البنيوي، فلا يلبث ان يتولد شعور متوهم بالتناغم مع الذات، قائم على محاولة ورغبة مضمرة بالقفز فوق المعضل التاريخي الأصل والابتداء، يعيش العراق بظلها ومعها حالة من الاستعارة كحل لمعضلة تصيرية تاريخيه، متعدية للارضوية، ولاعلى اشكالها الراهن كما هو متمثل بالغرب وحالته، واشتراطات صعوده الراهن.
فمالذي يمنع العراق وقتها، وابان تلك الفترة، من ان يخضع هذه المرة لما متوفر وماهو طاغ من اشكال التمثل والاستبدال النموذجي؟ ثمة عاملان لايجب نسيانهما هنا، او التغاضي عن مفعولهما، الأول هو البنية والنمطية الأعلى الرافدينيه بحكم كونها لاارضوية ابتداء وتاريخيا، الامر الذي لاينبغي اغفاله، او الوقوع تحت سطوة الظاهرة الغربية وماتوحي به وتدعيه من رفعة نموذجيه، برغم استمرار احاديتها، وانتمائها لنمطها الأحادي، ومن ناحية أخرى، لابد من النظر الى حقيقة مآلات الظاهرة الغربية من زاوية نظر اللاارضوية، لاجل وضعها ضمن السياق المتفق مع كينونتها ودورها، واذا كانت ياترى منطوية، او يمكن ان تكون منطوية على الحقيقة المجتمعية، او انها لحظة وظاهرة ضرورية ضمن السياق والصيرورة المجتمعية، لازمة كعتبة أخيرة ارضوية، مهيأة لتوفير المطلوب والضروري من اجل مابعدها مما هو مؤجل وباق في حالة انطواء واغفال للتعذر الابتدائي، وبسبب القصور ونقص أسباب التحولية انطلاقا.
يتقابل الغرب الحديث، كما في الماضي، وارض مابين النهرين، وبالأخص اليوم، ويتبادلان النفاعل الضروري، وصولا الى التحولية، وفي حين تتوفر للغرب اشتراطات الانتقال الى الالة، الامر المتعذر على البنية اللاارضوية، يوم تنشا وقتها وتصير راهنه، صراعية غير ظاهرة، بين الرؤية الارضوية الأحادية المواكبة للانقلاب الالي، وتلك اللاارضوية للحدث الانقلابي الفاصل، وبمقابل حالة الاصطراعية الافنائية النموذجية المفهومية المباشرة، التي تجري على ارض العراق ابتداء من عشرينات القرن العشرين، يتولد من وقتها نوع اصطراع غير منظور، دال على قصورية الغرب الأحادي بإزاء منجزه الالي، وحيث يرى هذا مايراه من تصورات انقلابية مادية إنتاجية تكثيرية، وعلى مستوى القوة والهيمنه، فان مسارات هذا الحدث تذهب فعليا نحو تكريس حتمية "التحولية" اللاارضوية، بينما يسير الغرب وظاهرته مطردا الى الانغلاق، وانسداد الأفق، لابل والعبور الى عالم وطور العيش المعمم على مستوى المعمورة، "على حافة الفناء"، وهو ماقد بدات نذره تتعاظم وتسير وبمتواليات متسارعه كحصيلة، ونتاج بديهي لحالة الاختلال في الأسس الإنتاجية المجتمعية، ومايتولد عن حلول الاله محل الوسائل اليدوية، وحالة التوافق الإنتاجي البيئي التي ابتدأت بها ومعها المجتمعات.
ليس "مابعد غرب"، ولم يعد من هنا فصاعدا مجرد مقوله، بقدر ماصار، وهو اليوم قد تحول الى مهمه تاريخيه عظمى انقلابيه تواجه الكائن البشري، مع انها تتركز بصورة خاصة وبالذات داخل موضع بعينه، يتهيا كينونة واشتراطات اليوم لكي يعيد بناء ابتدائيته المنتكسه، الأولى التي كان وضعها ابان أولى عتبات وخطى المجتمعية في ارض سومر، مع كل ماهو مفترض ومتوقع من اشكال انقلاب، ومتغيرات جوهرية مناسبة لتاريخ الدورات والانقطاعات التاريخيه والتفاعليه الكبرى على مستوى المعمورة، واشكال التجلي المؤقت واعظمها الابراهيمة، الرؤية اللاارضوية الأولى الحدسية النبوية، الموافقة لاشتراطات اللاتحول والانتكاس الأول، بظل القصورية الشاملة، وغلبة اللاارضوية.
يمكن تخيل كم هي هائلة المهمة التي تقع اليوم على عاتق ارض مابين النهرين، ووطن/ كونيتها، ماقد يلوح وكانه من عالم الاستحالة والمعجز، مايقتضي أولا تفنيد اهيم المصطلحات بتخليصا من وطاة اللاارضوية، فاللاارضوية هي عالم مايطلق عليه الارضويون "المعجز" بما هو عالم آخر مغاير كلية، له قوانينه واشكال تجليه، ونوع مستحيلاته المغايرة كليا لنظيرتها الارضوية.
ـ يتبع ـ