روزنامة الأسبوع فِي وَدَاعِ الأَمِير!


كمال الجزولي
2021 / 6 / 15 - 13:17     

يَوْمَ حَرَّرْنَا الخُرْطُومَ مِنْ .. سِجْنِ كُوبَر!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قد يفاجئنا، أحياناً، حدث جلل، فيضطرُّنا لتغيير شكل الرُّوزنامة القَوسقُزَحي. وصباح أمس السَّبت، بعد أن صارت روزنامة هذا الأسبوع المفترضة جاهزة، تقريباً، منذ ليلة الجُّمعة أوَّل البارحة، فجعنا بأن أخانا الحبيب الأمير نقد الله، كان قد رحل عن هذه الفانية، بمستشفى عالياء، في ذات التَّوقيت، فكان لا بُدَّ من التَّغيير. غير أن ضيق الوقت، وظرفنا الصِّحِّي القاهر، ألجآنا لاختيار مادَّة تذكاريَّة ذات صلة بسيرته العزيزة، وإن سبق نشرها، وقدِّمت، آخر مرَّة، في احتفال «صالون الإبداع» بذكرى «تحرير الخرطوم» في السَّادس والعشرين من يناير الماضي. ألا رحم الله الرَّاحل الغالي الذي لم يهُن إلا على ربِّه، وغفر له، وبوَّأه من الجِّنان مكانة الصِّدِّيقين والشُّهداء المقرَّبين إليه، المرضي عنهم منه، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
يناير 1975م. مجموعة معتقلين سياسيين كنَّا، مدنيِّين وعسكريِّين، ومن شتَّى الأجيال، والاتِّجاهات، والإثنيَّات، والمناطق، نقضي، بقسم «الشَّرقيَّات» بسجن كوبر، مدداً متفاوتة نعلم متى بدأت، لكننا، كالعادة، لا نعلم متى تنتهي!
كنَّا، إن لم تخنِّي الذَّاكرة، قرابة الخمسين، نزيد ولا ننقص، وفينا كان الشَّهيدان محمَّد نور سعد، وعبَّاس برشم، كما كان فينا الأحبَّاء عبد العزيز الرُّفاعي، وحافظ مدَّثر، وصدِّيق نمـر، ومصطفى أبو زيد، وعمـر الشَّهيد، والصَّادق بلة، والفاضل حمد، عليهم رحمة الله أجمعين، فضلاً عن الأمير نقـد الله الذي ترجَّل، هو الآخر، أوَّل البارحة، ونهدي هذه الكلمة المتواضعة إلى روحه الطاهرة، وذكراه العطرة، كما كان بيننا، أيضاً، كمال عبد الوهاب، وحسن الجزولي، ومحمَّد سليمان، ومحمَّد بخيت، والسِّر النَّجيب، ومنصور الجِّميعابي، وعبد المنعم الطاهر، وسيِّد هارون، وعبد الفتاح الرُّفاعي، وآخرون كُثرٌ .. كُثرْ.
إنتخبنا، كما التَّقليد المرعي، رئاسة تخاطب إدارة السِّجن في شأن مطالبنا، وأنشأنا لجنة تموينيَّة، وأخرى ثقافيَّة، وثالثة رياضيَّة، ورابعة ترفيهيَّة، وهلمَّجرَّا. وكانت في القسم عشرون زنزانة قائمة على صفَّين طويلين متقابلين بينهما حوش غير مسقوف، وحمَّامان قرب باب القسم، وأربع جرار ماء. وكان لكلٍّ منا برش وبطانيَّتان، نضعهم نهاراً في الزَّنازين، ونخرجهم ليلاً إلى الحوش؛ كما وكانت لكلِّ منَّا علبة معدنيَّة، أو ربَّما برطمانيَّة زجاجيَّة، لشرب شاي الصَّباح الأحمر يجتهد في أنسنته المرحوم صدِّيق نمر، مسؤول «كوميوننا ـ خزيننا الجَّماعي»، بما كان يجمع ويجفِّف، عقب كلٍّ من الوجبتين اليوميَّتين البائستين، من متبقي كِسرات الخبز يجعلها مثلثات صغيرة متساوية الأضلاع، ويحفظها في جوَّالات بلاستيكيَّة نظيفة، إلى جانب ما تأتي به زيارات الأهل من سكَّر وزيت وخلافه، مِمَّا قد تسمح الإدارة بإدخاله بعد تفتيش دقيق! ولمَّا لم تكن ثمَّة إنارة كهربائيَّة في القسم، فقد كنا نعوِّل على ضوء النَّهار في مطالعة المتاح من الكتب، وممارسة الألعاب الرِّياضيَّة، وكانت أكثرها «جماهيريَّة!» كرة الشُّرَّاب التي اصطنعناها مِمَّا بليَ من ثيابنا ورثَّ. أمَّا في المساءات فقد كنا نصمِّم برامج ثقافيَّة وترفيهيَّة تتلاءم وشدَّة الحلكة والدُموس!
وبينما نحن على تلك الحال، وفي ذلك المكان القفر الذي يخلو تماماً من أيِّ معين على أيِّ شكل من الاحتفالات، بالغاً ما بلغ من التَّواضع، اقتربت ذكرى تحرير الخرطوم في السَّادس والعشرين من ذلك الشَّهر؛ فاستشعرنا، ذات جمعيَّة عموميَّة مِمَّا كنا نعقد مرَّة كلَّ أسبوع، رغبة عارمة في إحياء تلك الذِّكرى بأيَّة وسيلة، وبأيِّ أسلوب، فلكأنَّ هاجساً كان يهجس لنا بأن في الاحتفال بتحرير الخرطوم من ربقة القهر الغردونيِّ، قبل تسعين سنة، تحريراً لنا، نحن أنفسنا، من أسر نظام النميريِّ وقتها!
هكذا اشتعلت لجنتنا الثَّقافيَّة حماسة، فوضعنا برنامجاً من جزئين: الأوَّل محاضرة تقرَّر أن يقدِّمها محمَّد نور سعد حول الخطة العسكريَّة التي صمَّمها الإمام عليه السَّلام لحصار المدينة واجتياحها؛ والآخر مسرحيَّة توثيقيَّة عن الحدث، وما سبقه من أحوال المدينة تحت الحصار توليت تأليفها وإخراجها، ما بين ليلة وضحاها، وإن كان على طريقة «تعلُّم الزِّيانة فوق رؤوس اليتامى»!

(2)
كان ذلك شيئاً أشبه بالمستحيل، لولا غلبة عنصر الشَّباب العاشق للإبداع وسط مجموعتنا تلك. فلقد عكفنا، يوم الاحتفال، منذ صباح الرَّحمن، على تخطيط وتنفيذ مجسَّم للمدينة وأطرافها، بمقياس رسم يتناسب ومساحة حوش القسم، مستعينين، في الأساس، بما توافر لدينا من مراجع تاريخيَّة شحيحة، فضلاً عن ذاكرة محمَّد نور العسكريَّة الفوتوغرافيَّة! حفرنا النِّيلين بتعرُّجاتهما، ودلقنا فيهما بعض «ظهرة» الغسيل المذابة، حتى عقدنا ملتقاهما عند المقرن، وأسلناهما نيلاً واحداً باتِّجاه الشَّمال. ثمَّ حفرنا الخندق الذي توهَّم غردون فيه حماية للمدينة، ولسلطته فيها، واصطنعنا من أغصان ووريقات النِّيم خضرة تحفُّ الشُّطآن، ومن الحجر الجِّيري الأبيض سراية الحاكم العام على شاطئ النِّيل الأزرق الجَّنوبي، ومن الحصى، ولباب الرَّغيف، ومِزق الهدوم القديمة، وجلُّ هدومنا، وقتها، كانت قديمة، زوارق الإسناد لطابور الصَّحراء الزَّاحف بالنَّجدة من نواحي مصر، تحت قيادة وولسلي، واستحكامات غردون بخيامها، ومدافعها، وبطارياتها الموزَّعة على مختلف المواقع، وكذا محاور قوَّات الإمام المختبئة تحدق بالمدينة من جميع الجِّهات. كما نصبنا، من قصدير علب التَّبغ، بوَّابات الاستحكامات الثَّلاث: بوَّابة بُري في مكان جسر النيل الأزرق الحالي، وبوَّابة المسلميَّة مكان كبري المسلميَّة الحالي، وبوَّابة الكلاكلة مكان كبري الحريَّة الحالي. وإلى ذلك اصطنعنا من الطين المضروب بقوالب علب الكبريت بيوت الخرطوم، ومبانيها الحكوميَّة، ومن قطع البروش، وكِسَر الأغصان الجافة، أكواخ أم درمان من فتيح إلى كرري، وشققنا الدُّروب، وأعلينا الجِّبال، والتِّلال، والهضاب، وهبطنا بالسُّفوح، والأودية، والخيران، حتَّى استقامت أمام أنظارنا خرطوم نهايات القرن التَّاسع عشر الكبرى Khartoum Greater كأبدع ما يكون!

(3)
أوَّل العصر استحممنا، كأنَّما نتطهَّر لأداء طقس ديني، وارتدينا أفضل ما كنَّا نملك من ملابس، وجلسنا القرفصاء على البروش، متحلِّقين، في دائرة واسعة من ثلاثة صفوف، حول جغرافيانا تلك التي ابدعها خيالنا، نحدِّق في ما اصطنعت أيدينا من مشهدٍ يأخذ الألباب، وشعر رؤوسنا يقفُّ، صوفة صوفة، ونحن نرهف السَّمع لمحمَّد نور، منتصب القامة في قميص بشكير أبيض، وبنطال عسكريٍّ خاكيِّ، وحذاءٍ رياضيٍّ بُني، وبيمناه مؤشِّر طويل جعلناه له من غصن نيم غليظ، يشرح أدقَّ تفاصيل العبقريَّة المدهشة في خطة الحصار والاجتياح العسكريَّة تلك، وطرف مؤشِّره يتنقل ما بين المواقع المختلفة، وسط صمت مطبق يكاد لا يُسمع فيه سوى إرزام أنفاسنا المبهورة، وقرار صوت محمَّد نور الهادئ العميق. مضى الرَّجل بنا إلى حيث عبر الإمام وخلفاؤه الثَّلاثة بحر ابيض، ونزلوا في منطقة «الشَّجرة» الحاليَّة، وشرح تعليمات الإمام الحاسمة بالتحوُّل من استراتيجيَّة الحصار إلى الهجوم، كون استخباراته أكدت مغادرة قوَّات وولسلي المتمَّة باتِّجاه الخرطوم لإنقاذ غردون. وإلى ذلك عرض محمَّد نور لتوجيهات الإمام بالمحافظة على حياة البعض في الخرطوم، وأوَّلهم غردون نفسه، وقيل، في روايات غير موثوقة، إنه كان ينوي أن يفتدي به عُرابي، زعيم الثَّورة في مصر؛ ثمَّ انتقل محمَّد نور بنا إلى جيش ودَّ النِّجومي، أمير الأمراء الذي كان يرابط، حسب الخطة، بثلاثة آلاف مقاتل في الموقع الحالي لمقابر فاروق، وكذلك إلى جيش الأمير أبو قرجة المكوَّن من خمسة عشر ألف مقاتل، وروى كيف أن رعاة يحملون عناقريب، وحزماً من القصب، قادوا، أمام هذين الجَّيشين، قطعان ثيران فجَّرت الألغام، فتمكنوا من بلوغ الخندق، ووضعوا عليه العناقريب، والقصب، لتسهيل عبور القوَّات؛ ثمَّ انتقل إلى محور الأمير ود نوباوي المختبئ في غابة الخرطوم بأربعين ألف مقاتل على مشارف الثَّغرة التي أحدثها انحسار بحر ابيض، وشرح كيف أن أولئك الثُّوَّار، عند رؤيتهم، في ذلك الفجر الباكر، قذيفة خضراء من جيش ودَّ النِّجومي، كناية متفقاً عليها عن ساعة الصِّفر، تقدَّموا، بصمت وانضباط مذهلين، فعبروا الثَّغرة إلى داخل مدينة التُّرك، حتى باتوا، مباشرة، وراء عسكر الحكومـة الذين بوغتوا بحالة من الرُّعـب والفزع الشَّديدين عندمـا انطلق، فجـأة، وسط ذلك الصَّمت الكثيف، تهليل الأربعـين ألفاً بزئير واحـد زلزل دويُّه الآفاق: «الله أكبر ولله الحمد»!

(4)
لم ننتبه، إلا بعد أن أرخى الظلام سدوله، وتعذرت الرُّؤية، إلى أن ما مضى من المحاضرة، التي كان مقدراً لها أن تستغرق ساعة واحدة، ننتقل بعدها لعرض المسرحيَّة التَّسجيليَّة، قد استغرق، في الواقع، أكثر من ثلاث ساعات، كان محمَّد نور واقفاً طوالها يصف، من الذَّاكرة، أدقَّ تفاصيل التَّفاصيل، بل يكاد يحصي كلَّ قذيفة انطلقت من كلِّ مدفع، ومن كلِّ بندقيَّة، على جميع الجَّبهات! لكنَّنا، من شدَّة انجذابنا لغزارة المعلومات، وسلاسة العرض، أصررنا على ضرورة المواصلة. فنهض محمَّد سليمان إلى بعض البطاطين ينزع فتلات من أطرافها، يضفرها، ويغمسها في ما توفَّر من زيت جادت لنا به أريحيَّة صديق نمر، فجعله في قعر برطمانيات زجاجيَّة، وأشعل أطراف الضَّفائر المنسلَّة من ثقوب اصطنعها في السَّدادات المعدنيَّة للبرطمانيَّات، ثمَّ قام بتوزيع «مصابيح الجِّنِّ» تلك على أنحاء المجسَّم، فإذا بظلالنا تتمايح على حوائط السِّجن الصَّخريَّة الشَّاهقة، مع تمايل الذؤابات، ليستكمل الشَّهيد محاضرته في ذلك الجوِّ الدراماتيكيِّ العجيب!
على نفس ذلك «الدِّيكور» عرضنا مسرحيَّتنا، تحت إلحاح الجَّميع بعدم تأجيلها إلى الغد، خصوصاً مع تأكيد محمَّد سليمان بأن مصابيحه سوف تصمد لساعتين أخريين! هكذا، وبعد استراحة قصيرة لصلاة المغرب، عاد «الرجال الغرباء» يصطفون لمشاهدة العرض الذي ظللنا نخفي بروفاته، طوال الأيَّام الماضية، من زنزانة لزنزانة، مستميتين في المحافظة على عنصر الإدهاش .. شايف كيف؟! وقد حاولنا، جهد خيالنا، وقراءاتنا السَّابقة، أن نستخدم تكنيك «المسرح الفقير»، و«هدم الحائط الرابع»، وحِيَل «مسرح بريخت الملحمي» الذي تلعب فيه مجاميع المنشدين دور الرَّاوي والمعلق على الأحداث. وانصبَّ جلُّ اهتمامنا، من حيث المضمون، على إبراز أثر الحصار الطويل في انعدام الأقوات داخل المدينة، وانتشار جيوش المتسوِّلين في أنحائها، وتساوي الأغنياء والفقراء في الفاقة والحرمان، وتأكيد أن قيمة الحياة لا تقاس بما يتكدَّس في يد الفرد من أموال، فقد تملك قناطير مقنطرة من الذَّهب والفضَّة، لكن لا تستطيع أن تحصل، مقابلها، على قطعة خبز واحدة!

(5)
ما زلنا، إلى يوم النَّاس هذا، نحن رفقة ذلك «الجُّب»، تتردَّد، في آذاننا، أصداء محاضرة محمَّد نور، كما ونستعيد، كلما التقينا، ذكرى بنائنا لذلك المجسَّم، وأحداث مسرحيَّتنا التي كشفت أن في داخل كلٍّ منا «فناناً» على نحو ما، تتكفَّل الأيَّام بإظهاره، كلما احتجنا إليه! وربَّما يستغرب الكثيرون إذا قلنا لهم أن صديقنا الحبيب الأمير نقد الله قد لعب في تلك المسرحيَّة عدة أدوار باهرة، أدَّاها جميعها ببراعة منقطعة النَّظير، ومن بينها دور الإمام الثَّائر عليه السَّلام، فما غادرت آذانَنا، قط، غُنَّةُ صوته الرَّخيم يلقي بتعاليمه النَّبيلة على جحافل أنصاره الأشاوس، وهم يجتاحون الشَّوارع المحـرَّرة بتهاليل نصرهـم المؤزَّر: «أكرموا عزيز قوم ذلَّ»! مثلما أدى، جنباً إلى جنب مع دور المهدي، دور قائد مجموعة المتسوِّلين في المدينة، فليس فينا من ينسى الأسلوب الكوميدي الذي لعب به ذلك الدَّور!
……………………….
……………………….
في المستوى الشَّخصي أكدت لي تلك التَّجربة الفريدة، بمبدعيها «الصُّدَفيين» أولئك، وعلى رأسهم الأمير، قناعة قديمة راسخة لديَّ بأن «الفنَّ»، مهما بدا، للوهلة الأولى، محض ترف ورفاه، إلا أنه يبقى احتياجاً ملحَّاً للناس، أينما كانوا، وكيفما كانت ظروفهم، لأنه، ببساطة، ضرورة وجوديَّة للصُّمود والتَّماسك الإنسانيَّين، وللحضِّ على استمرار الحياة وتطوُّرها، وأداة لا غنى عنها لرفع المتلقِّي، قولاً واحداً، إلى مرتبة .. الثَّوري!
……………………….
……………………….
سِرٌّ واحد فقط لم يتح، وقتها، لأيٍّ منا أن يفضَّ مغاليقه، مِمَّا اقتضانا عاماً ونصف العام، بعد ذلك التَّاريخ، كي نقف على جليَّته، من خلال ملابسات قيادة صديقنا الشَّـهيد محمَّـد نور، عليه رحمة الله ورضوانه، لعمليَّة اجتياح الخرطوم فجر الثاني من يوليو عام 1976م، وهو تعلقه الشَّديد، إلى ذلك الحدِّ، بسيرة العبقريَّة الفذَّة في خطة الإمام الثَّائر، عليه السَّلام، لحصار الخرطوم وتحريرها من ربقة القهر، صباح السَّادس والعشرين من يناير عام 1885م!
***