ليس ثمة مايدعو للبهجة...


محمد فرحات
2021 / 6 / 15 - 00:51     

مثل لوحة سريالية...تتابع خطوطها المتداخلة...إلا أنك وفي لحظة ما تتورط بالولوج لخطوطها لتصير تفصيلة جديدة من تفاصيلها...ولكنك وبالرغم من وعيك الحاد تصير ذرة في حشد لايبالي أين وكيف ومتى تورط بمأساة لافكاك منها...تصير بطلا ينتظر نمو كبده ليلتقمه مخلب طائر مسلط من قبل قوة غيبية لاترحم…،هكذا كان انطباعي المترسخ حال اندهاشي بتلك المجموعة القصصية "ليس ثمة مايدعو للبهجة" إصدار دار الأدهم 2021...تلك المجموعة القصصية الفذة التي لم أطلع على مثلها من عشرات السنين. وتذكرك بأعمال خالدة لجوجول، وتشيكوف، وديستوفيسكي وغيرهم من عمالقة القصة القصيرة.
من أين نبدأ إذن، لعل أول مايلفتك هي تلك اللغة الرصينة القوية، وما تملكه من انسيابية أخاذه، ووقع رشيق لا تخطئه الأذن حال ترديد بعض مقاطعها جهرا.
مع ظاهرة ملفتة وهي النحت التوليدي لبعض الأفعال فتوحي باستخدام جديد "انقشعت حقيقة الزعيم، بلا سحرة تخصف على سوءاته أوراق التوت اليابسة…" "ولجت الصحيفة وأنا أحبه مؤمنا بشعاراته، وجشأت منها أكرهه، وأعرفه كطاغية…" "سطوا على البلاد، وأوقفوا تطورها، بما رفعه من أهازيج النصر، وتحليم الطبقات المهمشة، والذي لم يكن سوى وسيلة للتغييب، وقطع السبيل على تداول السلطة…".
لغة منضبطة لأقصى حد تذكرك بحسرة حين كان التدقيق تدقيقا حقيقيا، علامات ترقيم صارمة، كضابط مرور يمرر أفكارك وتصوراتك بنقطة أو علامة استفهام، أو فاصلة منقوطة تشرح ما قبلها، وتعجب يبين التعجب، ويزيدك عجبا فوق عجبك…
أما عن الاقتباسات الفلسفية والأدبية من مشاهير الفلاسفة والأدباء فبحر متلاطم زاخر، أكثر من خمسين اقتباسا، ما يمثل كتلة تناصية متينة، كلها يساعد على تطور الأحداث، وتكثيف المعنى بأقل مبنى ممكن، ينبأ عن ثقافة الكاتب وتبحره بالإنسانيات، فكاتبنا قد حصل على الماسترز بالفلسفة اليونانية عام 2002...ماعلينا الآن بعد الإطالة في ذلك التقديم إلا أن نغوص بالنص ولنبدأ بالعتبات النصية المتنوعة من غلاف معبر، إلى إهداء، لاقتباس، لتحذير، لتفسير للوحة الغلاف، ومنها إلى ثمان عناوين مكثفة لثمان قصص قصيرة...عنوان المجموعة كان واحدا من عناوين القصص الثمان؛ فيه حكما مسبقا على ماينبغي أن يخرج به المتلقي من انطباع وأثر تفرضه الذات المبدعة على المتلقي، تتضافر غيرها من عتبات متوالية تفرض ذات التوجه على المتلقي من إهداء جنائزي حزين عن موت الأم والأب وبينهما مسافة زمنية لم تتراوح الخمسة عشر يوما، ثم تنويه يشبه ما يتكلفه معلم مستبد يوجهه توجيها أحاديا أيضا فمن يبحث عن تسلية ما بين دفتي هذا الكتاب فلن يجدها، فهو لن يجد غير الفاجعة...فتوجيه انطباعات المتلقي من قبل المبدع يمثل نوعا من فرض الوصاية على النص والمتلقي معا. ولا يعطي المتلقي براحا للتأويل أو حتى تفاعلا حرا يؤدي في النهاية لتوالد النصوص الذهنية المتوازية مع النص الأصلي.
القصة الأولى "هنا...وشغل السيما" فالبطل لا يملك يقينا بقضية ما إلا حبه للسينما! "هذا هو اليقين الوحيد، أو قل الأوحد، الذي حصلته بعد رحلة عسيرة مع الشك…" فالبطل أربعيني يأس من تحصيل أي يقين، فانزوى بأحد قرى شمال الدلتا النائية متوحدا مع نفسه، مجترا لذكرياته، منغمسا في عادات يومية لا يحيد عنها كالوساوس القهرية، وكانت السينما عشقه وديدنه المنتظم" ربما أثر تعلقي الزائد بالسينما، في بناء عزلة اجتماعية، تكونت شيئا فشيئا، وانتهت بي إلى غياب شبه تام عن المجتمع وقضايا…"...هل حبه للسينما يمثل معادلا موضوعيا لتعلقه الواضح بقضايا الميتافيزيقا التي يجترها من الحين للآخر في صورة تناصية مطردة، أم أن السينما هي عالم المثال الذي توحد به مزدريا الواقع، وكل تفاصيلة المكررة المملة...ولكن هذه الحالة الذهنية المنفصلة لم تمثل له أي مشكلة بالعكس كانت سر سعادته، وحافز بقائه الوحيد" فأنا سعيد بعزلتي الطوعية، على غرار تلك التي تحرك لها الأنبياء، وعظماء التاريخ مثل النبي محمد في غار حراء، والسيدة مريم العذراء، التي نأت بنفسها عن أهلها مكانا قصيا…"
هو يتفلسف بعرض ما بين نيتشه وهيجل وسارتر من نقاط اختلاف وتلاقي…ومن فيلم "الخروج" و"جين الحافي"، وصولا "بشفيقة ومتولي"، ومشاهد إبادة البشر بين شظايا القنبلة النووية بهيروشيما، إلى إبادة البشر بالجوع والتعب والظمأ والتشرد والإهمال أثناء حفرهم لقناة السويس ...الملاحظ أن اقتباسات النص الفلسفية أو الفيلمية تنتهي لنهايات واحدة دائما تنحاز للاجدوى الوجود المكتظ بكل هذا العبث، شعور بعبث هو نتيجة حتمية لكل طبقات الوعي المتراكم في ذهن البطل. لينتهي لحالة تصور له أنه دائما مراقب بكاميرا لا تنفك عن متابعته ومراقبة حركاته وسكناته بالضبط كحالة البطل بفيلم "The true man show" لينتصر بنهاية القصة لجبربة تشبه جبربة ديفيد هيوم، وأنه يسير بحياته حسب سيناريو معد سلفا لا مهرب منه، ولا تعديل لتفاصيله، ينتهي بحالة استسلام مخملية لعزلة شعورية عن الواقع المحيط. صورة المثقف العضوي والذي يمثل وعيه العميق مأساته المتجددة على الدوام، خسر كل قضاياه ومعاركه فاستسلم في أحد أركان العالم المنعزله.
لا يخرج بطلنا من حالته الراكدة غير الحب، يلتقي بفتاة على الفضاء العنكبوتي، وحينما يتفقان على موعد بالواقع يخطفها الموت " كأن كاتب السيناريو أرهقه أن نكون جزءا من فيلم رومانسي، فقرر أن يستبدله تراجيديا سوداء…" وبعدما جاد عليه الواقع ضن عليه، فعاد بطلنا نحو العزلة والسينما والصمت، وكأنه قد تورط بدور ما، وإلى ما لانهاية بفيلم طويل لاينفك عن المآسي.
"اعترافات الروائية سميحة توفيق"
سميحة توفيق روائية، ومثقفة من وسط "نصف البلد"، مثقفي ال eight o clock، والبستان والجريون… الاستكتاب فيه مقابل نصف كيلو كباب، وكفتة وزجاجة بيرة منقوع براطيش!، تبدأ سميحة توفيق القصة بأجواء طقسية اعترافية ليس أمام كاهن، وإنما أمام جمهور متخيل تطلب باعترافها التطهر من كل خطاياها وآثامها، سميحة توفيق رئيس تحرير أحد الدوريات الثقافية الرسمية، على وشك إتمام عقدها الخامس، تختار بكامل رغبتها وبدون أي ضغط كتابة تقارير لجهة أمنية ما ضد زملائها ولداتها "أعداء الوطن طبعا".
تبوح سميحة توفيق بكل التفاصيل في منولوج طويل حتى عن دقائق جسدها عن الضغط والسكر وآلام العظام، أردافها المتهدلة، وأثدائها الجافة، خلوها من الأسنان، ونتن فمها الذي يحرمها من التمتع بقبلة شبقة في أحد مكاتب المجلة المهجورة، عن سواد ما بين فخذيها الذي يمنعها من المواعدة، وممارسة طقوس نهمها الجسدي الذي لا يكف عن النباح، عن وحدتها ويأسها حيال نبذ مستديم من كافة المؤسسات المعترف بها. ولكن يبدو أن طقس الاعتراف غير كاف هذه المرة للتطهر...وإنما كان خلاصها بما بشر به المسيح بإنجيل مرقس..."انْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ! بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ." (مر 4: 24).
فبعد أن تشي برفيقة ترسل لها بريدا تحكي فيه عن خيانة السنهوري لنفسه في سبيل الانتقام من عدوه اللدود الوفد، فيطوع القوانين، ويتحول من ذلك الفقيه الدستوري العلم لمجرد ترزي قوانين مبتذل، فلم يطالبه عسكر ذلك الزمان النكد بتلك المهمة بل قد تطوع مجانا بذلك، ذات التطوع الذي تطوعت به أديبتنا كاتبة التقارير الأمنية، حتما كان ذلك التناص التاريخي مثيرا لها وكاشفا لمقدار خطيئها، ربما كان ذلك محفزا وراء تسرعها في الإبلاغ عنها، والتنكيل بها في أحد السجون، ولكن لعنة ذلك النص التاريخي، يرتد على كاتبة التقارير ذاتها، فكما كان جزاء السنهوري الضرب بالحذاء على رأسه من قبل أحد الغوغاء الذي استأجرهم رجل الدبابة والنكسات المتتالية، كان جزاء كاتبة التقارير جزاء البائس سنمار، فبعد أن يتم المهندس البائس سنمار قصره للنعمان بن المنذر يكون جزاءه إلقائه من شاهق القصر، ويبدو أن كل تقرب من السلاطين تكون نهايته كنهاية السنهوري وكاتبة التقارير المتخفية في صورة روائية مثقفة، فبعد أن تكتب تقريرها تقع في فك كمين شرطي غاشم…
"استوقفني أمين الشرطة بعد أن ارتاب في أمري، واقترب مني بطريقة وقحة فجة يسألني عن اسمي:
-اسمك إيه يابنت؟
-أنا مش بنت، أنا الكاتبة والروائية سميحة توفيق.
-بتقولي إيه؟!
كنت على ثقة أن أمين الشرطة لايفهم معنى كاتبة.
فرفعت صوتي أكثر، أحاول أن أبعد يده عن حقيبة يدي(...)
- هاتي الحقيبة هذه، أريد فحص تليفونك المحمول.
-لماذا تفحص الهاتف؟
-إجراءات أمن أنا أشك فيك!
جذب النقاش بيننا انتباه ضابط الكمين، الذي اقترب يسأل بصوت خشن وتأفف.
-فيه إيه يا أمين؟
-أبدا يا افندم أريد تفتيش هاتف هذه السيدة، التي يبدو من مظهرها أنها مشاركة في المظاهرات، لكنها ترفض وتقول إنها روائية!
ينهي الأمين حديثه المفعم بالانضباط والعسكرية بضحكة متقطعة، الضابط في لهجة صارمة، كأنه يلج معركة على وشك البدء…
-خلاص هاتها نتسلى عليها، اشحنها في عربة الترحيلات!
يقودونها نحو السيارة...وفي هذه الأثناء لم أكف عن الصراخ، أحاول أن أفلت نفسي من هذه الأيدي الكثيرة الشبقة تتفحص أثدائي وأردافي وأسفل بطني تحت السوة…
لم أنزعج فقد أشعرني ذلك أني مازلت امرأة مرغوبة! وإن كان العبث بجسدي تم بطريقة خشنة تفتقر للرقة…"
تم ترحيل الروائية سميحة توفيق للحجز الضيق للتتراص بها أجساد النسوة، وتختلط رائحة العرق بالبرفيوم وبالميك أب الرخيص بالبول والخراء لصاحبات الدعارة والنشل والتسول...وحينما تسأل صويحبات الحجز سميحة عن تهمتها ترد في تسامي باهت
-قضية سياسية…
لتمط إحدى السجينات شفتيها…
- دعارة يعني؟!
ربما قد أصابت كبد الحقيقة بهذا اللبس الغير مقصود فلا فرق واضح بين ارتكاب الدعارة والسياسة في بلادنا، وإن كان فعل الدعارة يمتلأ باللذة والترفيه والتاريخية العبقة الشبقة الصادقة بخلاف السياسة في بلادنا البائسة.
ليصدق يسوع المخلص" انْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ! بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ."
ردت الآية الصفعة لسميحة توفيق بالضبط كما كان صوت الحذاء المنقض على رأس السنهوري باشا في قلعته مجلس الدولة.
ولكن هل دفع النبذ، والوحدة سميحة توفيق للوشاية المجانية لتحظى بالتحصين ككيان محمي من قبل المؤسسة الأمنية، وأملا بالانتماء العضوي لها، فهي مثقف عضوي أيضا في مبدأه ومآله ربما دفعت بعد أن رفضتها مؤسسة الأنوثة، ومؤسسة الثقافة الجادة التي كانت يوما قبل تأميمها، لتندمج مؤسسات الأمن والثقافة بمصير لا يمكن الفصل بينه، فسيان أن ينتمي المثقف العضوي إلى أحد المؤسسات الأمنية، ببطاقة انتمائه المسبقة لأحد مؤسسات الثقافة المؤممة.
هل كان هذا الخلط المفاهيمي الصارخ لما هو أمني، وما هو ثقافي هو السر في سقطة بطلتنا التراجيدية الروائية سميحة توفيق، لتتخلق كبطلة تراجيدية.
سميحة توفيق تمثل الوجه الثاني من عملة أحد وجهيها بطل القصة الأولى
"هنا...وشغل السيما" كلاهما يجسد بطولة تراجيدية بسقطة تراجيدية ما، الأول يتقوقع حول ذاته، والثانية تنتمي بمجانية صرفة لمؤسسة أمنية لاترحم حتى أبنائها وذوي رحمها.
لينتهي بها طقس التطهر بغمس إصبعها في دم الحيض المتدفق من فرجها كالحبر، تكتب به على حائط الزنزانة التي استندت إليه بخط كبير وواضح"اعترف!"
"نقشتها بجهد كبير. حتى نال مني التعب، فتوقفت عن رسم أي كلمة بعدها…". لينهي أبوحسين قصته كما بدأها ...الاعتراف كان البدء وكان الخاتمة، تبحث به الذات المعذبة عن خلاصها المنشود.
نهاية تشي بما قررته لنفسها من مصير، ربما سيكون اجترار الذكريات ديدنها، دون الانخراط بتيار الحياة المهزومة، كما كان مآل بطل القصة الأولى"هنا..وشغل السيما" كلاهما يمثل بطلا تراجيديا نموذجا كما ذكر أرسطو ب"فن الشعر".
البحث عن خطأ تراجيدي!
"المستشار ياسر جلال...العصافير لا تغني فوق الأشجار الاصطناعية"
بلغة شعرية متدفقة أسيانة يبدأ القاص مصطفى أبوحسين تلك القصة، بذلك العنوان الطويل كعادة عناوينه…"كان الطقس بليلا إلى حد ما، مشبعا بلزوجة مفرطة أكثر توترا، وأقل كثافة، من تلك التي تميز الصموغ المختبئة داخل تجاويف أشجار السنط في المناطق الحارة، حيث تستقر العصافير مطمئنة فوق أغصانها الجارحة، أقف وحيدا بالشرفة، أكلم نفسي، بصوت خفي؛ يسمع ولا يفهم، كأنه عتاب قاس إلى الله، أشبه بالأنبياء حين مسهم ضعف إنساني، أخفقوا في السيطرة عليه، وأهملوا ضوابط الله، عندما تعارضت مع نزواتهم…".
كان ياسر الطفل في أول مهمة لشراء جريدة الأهرام لأبيه، ليلتقط ربما المانشيت الأول "السادات يعد ببناء مصر الحديثة…" ايماءة لزمن بدء تكون وعي البطل. يبدأ القاص قصته من بدايات الطفولة الأولى لبطلنا، فقد نشأ ياسر بأوساط أبوية صارمة، تختصر كل نواهيها وزواجرها برحلة شراء للجرنال، لا مهرب من تتبع دقيق لمسار تفاصيل يمليها عليه الأب الصارم عن اسم الجرنال، فرشة الجرائد، ثمنه بلا زيادة أو نقصان، عدم فتح الجرنال لقرائته، فأبوه يقدس بكارة جرناله فلا أحد سيفض بكارته غيره، تدريب قاس لكيفية الانصياع الكامل لكل تفاصيل الأوامر الفوقية التي ستتنزل عليه لاحقا، حين يكبر الطفل ياسر ليصير معالي المستشار ياسر جلال. يسمع فيطيع فينفذ بلا أي محاولة للتمرد أو حتى الفهم.
تمرد ياسر مرة واحدة حيال أوامر والده، فقد كان الوالد يرى الجهل مشكلة البلاد فأصر على التحاق ولده بكلية المعلمين البائسة ليصير معلما للغة العربية، وكان تحقيق العدل قضية البلاد المركزية بوجهة نظر الابن فأراد ياسر أن يكون أحد فرسانها، لكن هذا ظاهر المسألة، وكانت رغبة ياسر الحقيقية الالتحاق برجال السلطة، والخطو بركابهم، وهذا مافهمه الأب الحاذق فسلم الأمور مكرها لولده قائلا:
"خلص الكلام، أفعل ما تشاء، لكن عليك تحمل تبعات قربك من السلطة، التي تسعى لأن تكون جزء منها، ياحبيبي رجال السلطة وخدامها ناس غيرنا خالص، لا قيم ولا أخلاق ولا تاريخ آباء يحكم مسار حياتهم...عموما أنت حر…".
والحقيقة أن ياسر جلال كان بين خيارين كلاهما مر أن يكون مفعولا به ظاهرا كمعلم هو روث الحكومة وخرائها في بلادنا الجميلة، أو مفعولا به باطنا قاضيا يطفو على وش الدنيا مقابل عدم رد أوامر السلطة، هذا هو الخيار الذي لم يفطن إليه الأب، وفطن إليه الابن، وهو عين تطور وتحول الفهم بين الأجيال وبعضها. فالفهم انعكاس فوقي للبناء التحتي المجتمعي الاقتصادي المادي، مجرد بنية من لبنات البناء الفوقي المجتمعي.
سيظل سماع صوت العصافير علامة ملازمة دالة على نقاء ياسر النوعي طوال القصة، معادلا لحضور الضمير والأنا العليا.
"أنا ترس صغير في آلة جهنمية، لا يعرف لها بداية من نهاية، ولا مركز من أطراف…" هو تمهيد وتبرير وتوطئة لما سوف يحدث من خطايا.
أسندت إليه قضية قام بها أحد ضباط الداخلية بإلقاء قنبلة غاز، داخل عربة ترحيلات مغلقة، بعد أن استشعر الموقوفون نفاد الأوكسجين، طرقوا على الأبواب الحديدية المغلقة طلبا للماء واستغاثة من الاختناق جراء الازدحام والقيظ الشديد ليحترق أكثر من أربعين موقوفا.
" في هذا الصباح تلقيت مكالمة على هاتفي النقال من رقم غير معروف -أهلا سيادة المستشار.
-أهلا مين حضرتك؟
-أنا اللوا…
-أهلا بحضرتك.
-لنا طلب بسيط عندك.
-اتفضل.
إنت قدامك قضية، متهم فيها ضابط شرطة، والده حبيبنا، وقدم خدمات جليلة للحفاظ على هيبة الجمهورية. ياريت تأخذ بعين الاعتبار حب الضابط الشديد لمصر، وأن ما فعله كان بهدف الحفاظ على هيبة الدولة، ومنعها من السقوط...هذه واحدة، أما الثانية فالضابط لديه زوجة وأطفال صغار ينتظرون في لهفة عودته…"
وفي صباح اليوم التالي لم يعد يسمع صوت العصافير. ليكشف المبدع للمتلقي كيف سيحكم ياسر جلال، وبالفعل يحكم على الضابط بسنة مع إيقاف التنفيذ، وبعودته لعمله، وغض النظر عن مقتل أربعين موقوفا قتلوا مع سبق العمد والترصد، فداء لشسع نعل الضابط وهيبة الجمهورية ولأسر الضحايا، وصغارهم والذين كانوا هم أيضا في انتظار لعودة أبائهم.
ينقطع صوت العصافير، ثم لم يعد في مكنته رؤيتهم. دلالة على ما تردى إليه بطلنا من دركات غياب الضمير.
يجتر البطل الذنب طوال ما تبقى من نص. يموت أبو البطل ويدفنه ياسر على غير رغبته في مقابر السادة.
وعلى قبر أبيه المدفون فيه على غير رغبته، يعود لسماع زقزقة العصافير،
وبعد أن يندم على عدم التحاقة بكلية المعلمين، وعلى دفن أبيه بمقبرة السادة على غير رغبته.
وسؤالي هل كان مجرد شعوره بالذنب سببا في تطهره من خطيئة الحكم زورا تنفيذا لرغبة السادة.
حدد أرسطو أن الخطأ التراجيدي يرتكبه البطل التراجيدي بدون وعي، نتيجة لخطأ في التقدير أرتكبه عن غير سوء نية أو خبث في الطوية، فهل توفر ذلك في شخصية بطلنا، قد حكم وهو يعلم مقدار خبثه، بل كان انعدام سماعه لصوت العصافير فور تلقيه مكالمة المسؤول، وقبيل نطقه بالحكم إنذارا بعثه الضمير، لكنه تجاهله عن عمد واضح.
والأب قبل ذلك حظره من مغبة الالتحاق بدرب السلطة.
وإن كان صوت العصافير يحمل دلالة خاصة جدا للبطل، ومدى صفائه، فهل كان سماعه في نهاية القصة فقدانه لتلك الخاصية والعلامة الدالة، واشتراكه مع بقية الخلق في التقاط الأذن الصحيحة للصوت كمجرد ظاهرة فيزيقية عادية، لا تحمل أي دلالات خاصة في أن الصوت هو تردد آلي، أو موجة قادرة على التحرك في وسط مادي مثل الهواء، والأجسام الصلبة، السوائل، والغازات، ولا تنتشر في الفراغ.
ولايبقى إلا أن أشير كما أشار كاتبنا في أول القصة" أن القصة من خيال المؤلف، ولاعلاقة لها بالواقع، وأي تشابه بالأحداث أو الشخصيات هو من قبيل المصادفة، التي لا تعني شيئا." .
كان هذا تطوافا لأبرز القصص في رأيي، لييثبت القاص مصطفى أبو حسين أن قدراته القصية في تطور مبهر من أولى مجموعاته القصصية والتي صدرت عام 2012 وكانت بعنوان "مذكرات الفتى الليلي"، ثم مجموعة "دعه يمر" عن دار"نوستالجا" عام 2015، ومجموعة"ذقن أبي الهول، وفيلم وردة، وأوهام بيكون" عن دار "الأدهم" عام 2019، والمجموعة القصصية الأخيرة"ليس ثمة شئ يدعو للبهجة" عام 2021 عن دار "الأدهم".
ليثبت مصطفى أبو حسين صدق بنوته للمدرسة الروسية المغرقة في التفاصيل الصغيرة، و المنهمكة الأقصى بأغوار النفس البشرية، والباحثة بدأب عن أسباب اغترابها ومأساتها.