أحدث وآخر رواية لنوال السعداوى تجاهل متعمد من الكهنوت النقدى الرسمى وغير الرسمى


منى نوال حلمى
2021 / 6 / 13 - 23:36     


أحدث وآخر رواية لنوال السعداوى
تجاهل متعمد من الكهنوت النقدى الرسمى وغير الرسمى
------------------------------------------------------------------

نوال السعداوي ، منذ الخمسينات من القرن العشرين ، دفعت ثمنا باهظا من حياتها وسمعتها الأدبية ، بسبب ثورتها و تمردها الدائم علي القيم الموروثة القاهرة ، المستبدة ، والتي ما تزال تتحكم في حياة أغلب النساء والرجال ، والفقراء ، وحتى يوم رحيلها فى 21 مارس 2021 ، وما بعد أيضا رحيلها .
اشتغلت نوال السعداوي بالجراحة والطب ، وأصبح القلم في يدها مثل المشرط ، تستأصل الجزء المريض من الجسد دون أن يطرف لها جفن ، كما تستأصل بؤر الفساد والعادات الضارة في المجتمع والأسرة .
تحكى أحدث وآخر روايتها بعنوان " إنه الدم " ، الصادرة من دار المطبوعات في بيروت ، كيف رأت ثورة يناير المصرية 25 يناير 2011 ، بترصد شخصيات من مختلف الفئات والطبقات والاتجاهات الفكرية ، جمعتهم خيمة واحدة في ميدان التحرير بالقاهرة .
وكالمعتاد مع ابداعات نوال السعداوى ، تم تجاهل الرواية ، من الكهنوت النقدى الرسمى ، وغير الرسمى ، فى مصر .
ولكن ، وكالمعتاد أيضا ، يتوارى الكهنوت النقدى ، يختفى من أوراق التاريخ ، ولا يبقى الا " نوال " المتشبثة بارادة ورؤية
ومزاج قلمها ، تشبث الآلهة بطاعة البشر .
كالمعتاد ، تُمنح الجوائز لمنْ رضى عنهم أوصياء الأدب ، كما تُمنح الجنة لمنْ رضى عنهم أوصياء الدين .
وأتذكر هنا واحدا من أبدع مقالات نوال ، بعنوان " جائزة الاستغناء عن الجوائز ".
لا تسير الرواية من البداية الي النهاية في خط مستقيم ، بل تتقطع وتنفصل الأحداث والشخصيات بعضها عن بعض ، الا أنها تتجمع دراميا ، وانسانيا ، تحت الخيمة .
يلعب " الدم " المراق علي الأسفلت دورا بارزا في الرواية ، سواء كان دم الشباب فوق الأسفلت في ميدان التحرير أثناء الثورة المصرية ، أو الثورات الأخري فى البلاد العربية ، أو فى العالم ، فى أماكن متباينة . الدم هو الدم ، فوق أسفلت الشوارع و داخل البيوت ، دم الخادمة العذراء فوق الملاءة الحريرية لسيدها البيه ، والدم في عيادة الطبيب أثناء عملية الاجهاض ، ودم الشغالة القاتلة لزوجها ودم الكاتبة الثائرة ضد النظام ، ينزفان معا فوق الأسفلت ، أثناء الولادة داخل السجن .

تجسد الرواية تفاصيل صغيرة قليلة لا تلحظها العيون ، لكنها كاشفة لحقائق مخيفة ، وأسرار دفينة لا يطلع عليها الا عين الأمن الساهرة في الدولة على الأرض ، وعين الله الساهرة فى السماء .
تذوب رقابة الأرض في رقابة السماء ، كما تذوب سلطة الله في سلطة الرئيس ، ينمو الشارب و اللحية البيضاء للرئيس الجديد ، بعد سقوط الرئيس القديم ، ذي الشعر الأسود المصبوغ ، والذقن المحلوق .
ترصد نوال السعداوي أخطر الحوادث بعين عفوية ، لم تفقد طفولتها ونظرتها الكلية للكون ، مما يكسب روايتها تناسقا وتماسكا ووضوحا ، مدهشا .

لا تتبع رواية نوال السعداوي أي مدرسة أدبية أو فلسفية ، تنتهج طريقا مستقلا خاصا بها وحدها ، لا تسير وراء الموضة تحت اسم الحداثة وما بعد الحداثة ، تأتي أحيانا عباراتها علمية تقريرية دقيقة مثل تقرير طبي من المشرحة ، وأحيانا أخري شاعرية خيالية شبه مستحيلة أو غريبة ، الا أن الواقع قد يكون أحيانا أغرب من الخيال .
النبض الحقيقي للرواية خافت متواضع . لا تستعرض نوال السعداوي عضلاتها الأدبية أو اللغوية ، تريد تسجيل اسمها في سجل يخصها كأنما تكتب لنفسها ، سردها متقطع لاهث أحيانا ، ويتوقف ، وأحيانا متواصل ،
لا شئ يثنيه عن الحركة المتناغمة المنتظمة .

العدل هو الخيط الحريري لفلسفة نوال السعداوي في روايتها ، لا تفصل بين العدل في الدولة ، والحزب السياسي ، عن العدل في الفراش والبيت ، لا فاصل بين العام والخاص أو الذات والآخر ، أو الله والانسان ، الكل يذوب في الكل ، ليس عندها حياة سرية ، لا يشغلها الخلود و دخول الجنة ، ولا الحصول علي جوائز الدولة ، أو مديح النقاد .
التحدي هو ما يميز أبطال الرواية وبطلاتها ، المقاومة اللانهائية حتي آخر قطرة دم .
جائزتها الوحيدها هي " هنا والآن " في هذه اللحظة الحاضرة ، وهي تكتب ما يدور في عقلها الواعي واللاواعي ، يتحول اللاوعي الي وعي وهي تكتب ، تكتشف نفسها وتدرك الواقع والحقيقة أكثر وأكثر ،
الواقع هو منبع الفن في رواية نوال السعداوي ، واقع الدم واللحم والألم والنزف المستمر ،
واقع القبح والخيانة والكذب والفضيحة .
ترفع الرواية الغطاء عن القيح في الجرح ، وتكشف الحجاب عن الكذب و الندالة ، تحت النبل والرقى .
تغوص الرواية في طين الأزقة والقبور والفقر ، وطوابير البشر المطحونة أمام حنفية ماء في العشوائيات ، نشم رائحة العرق والتعب ، والحزن .
تكشف الرواية نفاق الصحافة والكتابة والنخبة المميزة ، والتجارة بالمثاليات في السياسة والدين والجنس والحب والزواج ، تنتهك الستائر والمحرمات وتقتحم المجهول وما وراء السحب ، تكشف الخرافات بتلقائية الأطفال ، لم تستطع المدارس والمقدسات الأكاديمية أو الدينية تقليم أظافرها الأدبية ، أو تحجيم شطحاتها أو شططها كما يقول عنها نقادها التقليديون .
ربما لأنها فقدت الخوف من النار ، أصبحت قادرة علي التحديق في الموت ، أو في عين عزرائيل ، أو ربما فى عين الشيطان .
لم تنجح وسائل القمع في قمع بطلاتها المتمردات ، يخترن دائما الطريق الصعب ، مع أن هناك طرقا سهلة للحصول علي المال والمنصب والشرف .
.لكن الشرف عندهن هو مقاومة الزيف حتي النهاية
وهي تردد دائما هذه المقولة :
احترمت نفسي حين خيرتها بين السهل والصعب فاختارت الصعب " . "
تتوزع مكونات المؤلفة علي الشخصيات في الرواية ، سواء الكاتبة العنيدة العاشقة لنفسها وفنها ، أو الخادمة الفقيرة المطحونة المتحدية للقضاء والقدر .
لا فاصل بين المؤلفة وبطلاتها .
لا فاصل في الرواية بين الشكل والمضمون ، اللفظ والمعني كيان واحد ، تقص الروائية ما تشاء من الحدث كمنْ يركب بساط الريح ، دون فقدان الحدث الواحد ، أو ما يسمونه الخيط المشدود ، أو الموسيقي الخفية بين السطور وما هو غير مكتوب ، قد يظهر المسكوت عنه لحظة الصمت ، وقد تتخفي الحقيقة وراء الكلمات الزاعقة .
روايتها مغايرة للمألوف ، قطيعتها للموروث ، ومفارقتها حتي لأعمالها السابقة ، أو الأجزاء الماضية من الرواية ذاتها ، تعود فيها الي الماضي بتفاصيل حية كأنها الحاضر ، قطع ووصل ، دون فقدان وحدة العمل ، تعبر بالكلمة والصورة والصوت والحركة ، وان نظرة عابرة خاطفة لا تلحظها عين
لا تفصل بين الرواية والسيرة الذاتية ، كل شيء ينبع من الذات ، ويعود الي الذات بعد الذوبان في الآخر .
لا تكتب نوال السعداوي أدبا نسائيا أو رجاليا ، لا تفصل الجسد عن العقل ، ولا النساء عن
الرجال ، المأساة وان اختلفت واحدة .
يلعب الحوار دورا بارزا في الرواية ، قد يكون حوارا قصيرا في نصف دقيقة ، بين اثنين . لكنه يكشف حياتهما الخفية منذ ألف عام .
يحرك الحوار الأحداث ، وينقل الرواية من زمن الي زمن ، ومن مكان الي مكان ، وقد يلغى الزمان والمكان .
ربما ننتهى من القراءة بسرعة ، أو علي مهل . لكن حين ننتهى منها ، لا تنتهي . تبقي منها نظرة خاطفة ، أو كلمة عابرة غير مكتملة ، لكنها تبقي .