فبركة عراق لم يوجد بعد؟/4


عبدالامير الركابي
2021 / 6 / 13 - 13:45     

يقول ماركس في واحدة من اشهر اطلاقاته الطبقوية :"ليس تاريخ المجتمعات سوى تاريخ صراع طبقات"، وهي مقولة جوهرية أساس في اجمالي رؤيته، تقابلها اليوم وتضعها في مكانها كاستخلاص ارضوي، خلاصة أخرى لا ارضوية مفادها: "ان تاريخ المجتمعية وتفاعلها التاريخي هو تاريخ تنازع اصطراعي بين الارضوية الأحادية واللاارضوية التحوليّة الاساس"، وان ظاهرة المجتمعية لاارضوية، وانها تبدا وتتبلور"لاارضويا"، الى ان تنتهي بكليتها "لاارضوية"، وهو مايقابل مقولة أخرى أساسية لماركس، ترى ان المجتمعات بدات ب "الشيوعيه البدائية"، وتنتهي ب "الشيوعية العليا"، بالمقابل واليوم ثمة "اللامجتمعية النبوية السماوية الأولى"، و "اللامجتمعية التحوليةّ المادية العليّة السببية"، مع مايترافق مع المنظورين المذكورين من حزمة اجماليه من المفاهيم والرؤية الشاملة، التاريخيه التصيرية، ابتداء من "الانسايوان"واشتراطات وجوده، وازدواجيتة التكوينيه البشرية ( عقل / جسد)، واليات تفاعلهما ضمن المجتمعية والطبيعه، وتوزع الأنماط المجتمعية ونوعها، وكيفيات عملها مابين، لاارضوية أولى منتكسه، تعقبها سيادة وغلبة اللاارضوية، وصولا الى انتهاء أسباب استمرار المجتمعية الارضوية جملة.
والمجتمعات تبدأ في ارض مابين النهرين، كحالة "عيش على حافة الفناء"، لن تلبث ان تتجلى مجسدة بصيغة سماوية، متفقة مع شروط انتكاسها الأول، وغلبة الارضوية البداهية عليها، فتتخذ شكل الابراهيمه الحدسية "النبوية"، ذاهبة نحو بناء هيكل "مملكة الله على الأرض"، التي لن تلبث ان تشمل المعمورة بمعظمها، دالة على المكنون والجوهر اللاارضوي للمجتمعات، والكائن البشري وكينونته، ومسارها، الامر الذي تحكمه تفاعليه وتوزعات جغرافية محيطة بالشرق متوسطية، موضع النبوية اللاارضوية المتلائمه مع مقتضيات حضور وفعل اللاارضوية الشامل، شرقا وغربا، مع تبلورالكيانات التمددية الإمبراطورية الارضوية الأحادية العبودية التكوين، وميلها البديهي للانصباب في البؤرة شرق المتوسطية، مامن شانه توليد مسببات دينامية داخل النبوية السماوية، ترتفع بها الى القراءات العملية الكبرى، الأولى "المسيحية" المهياة لاختراق الغرب الأوربي وامبراطوريته، روما، الثانيه الختامية المصممه لاختراق عالم الشرق واكمال الحاق المدى الموصول الى حدود الصين والهند، بالدائرة الابراهيمه اللاارضوية، ماينتج عنه احضار اللاارضوية في قلب البنى الأحادية، وبما يضفي على بناها تغيرا اقرب للبنيوي، مع تجسد الازدواجية في تكوينها، بدل الأحادية المصمته، التي تعمد الى طرد التجسد اللاارضوي، بتزوير نوعه ومصدره، عن طريق احالتة الى مايطلق عليه عالم "الدين"، بحكم استحالة تصورها لمجتمعية أخرى غيرماهي عليه كينونة.
برغم ان الإمبراطورية اللاارضوية بطبعتها النبوية الحدسية السماوية، تنجح باختراق غالبية المجتمعات على مستوى المعمورة، الا انها لاتكون مع ذلك، وبالرغم مما يتحقق لهافي حينه، واعية لاشتراطاتها إدراكا، وتسبيبا عليّا، فتبقى على مدى غلبه الأحادية الارضوية، حدسيه، تعتاش من منجز العبقرية الحدسية العظمى النبوية، الامر الذي تقع اثاره أولا وقبلا، على موئل انبثاقها وكينونتها الأولى في الموضع الذي وجدت فيه، فيعجز هذا عن ان يميط اللثام عيانا وبالملموس، عن منطويات ماهو كينونته، وحقيقته البنيوية على مدى تاريخه خلال دورتين، الأولى السومرية البابلية الابراهيمه، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، مايغلب ويتيح المجال لرجحان حالة من النطق عن الذات، والنظر اليها بعين الاخر، وصولا الى آخر وامضى صيغة من صيغ الاستيهامية باعلى اشكالها، كما تمثلت، وكان بديهيا ان تتجلى، مع بلوغ الأحادية الارضوية ذروة ومنتهى متجلياتها التاريخية، مع نهوض الغرب الحديث.
واهم مايميز التفاعليه المجتمعية، وقوانين تصيرها، انهامقدرة الى نهاية وانغلاق افق الارضوية منها، مثلما هي محكومة ابتداء بغلبتها، فالارضوية سائرة منتهى الى تعطل وفنائية هي مآلها الأخير، ومستقر صيرورتها المتولدة عن، والمترتب على الانتقال الى الاله على انقاض المنتجية اليدويه، فمع الانتقالية الانقلابيه، من اليدوية، تتوقف الارضوية، وتفقد صلاحيتها وقدرتها على الاستمرار، وتصير طبيعتها ونمطها، عامل تدمير للحياة، وتهديد للوجود البشري وللحياة على كوكب الأرض، مايتولد عنه تحفيز واستيلاد مطرد لاشتراطات، تجعل من اللاارضوية بمثابة العنصر المتحلي بالصلاحية، المترافقه مع التوفر على أسباب الانقاذية، مايجعل من اللاارضوية وقتها، هي "المجتمعية" الضرورة التي لامجتمعية ولاحياة من دونها، ومن دون حلولها على انقاض الأحادية الارضوية.
ومع الاله، ومن ثم التكنولوجيا، تتجسد وجهتان، ونوعي استعداد نابع من الكينونة، كما تتميز بهما الارضوية، حيث الالة عامل تكثير انتاجي، وتعظيم للقدرات المادية والحاجاتيه، محكوم لفعل الدافع الرئيس المتحكم بالكائن البشري ( الحاجات المادية والغريزية)، وبسلوكه ونوع توجهاته المرتهنة لها، مايفضي الى تحويل الاله الى سلاح غرضي دوني، حاجاتي طبيعة، الامر المناقض للحقيقة القابعة وراء، وفي خلفية الانقلابيه الالاتية الماوراء حاجاتيه، ووراء زيادة تكريس الطبيعة الجسدية الحيوانيه في الكائن البشري، ومن استعمال الاله لأغراض الانتاجوية، وضمان وتعزيز الهيمنه واشكال الغلبه والسلطة على مستوى المعمورة، الى قلب الاستراتيجيات الحياتيه نحو تحصين الكائن البشري ضد الحيوانيه الكامنه فيه، والسير نحو اضعافها بالتركيز على العقل ودوره، واعتماد أسباب تقليص حضورالجوانب الحيوانيه في الكائن الانسايوان.
تجد اللاارضوية ذاتها في مواجهة تفاقم الجانب الجسدي في الانسايوان، بدل تكريس القدرات المتوفرة حديثا آليا وتكنولوجيا، لغرض الانتقال لمجتمعية وحضارة "مغادرة الانسايوان"، ليس عن طريق ما يسمى ب "الطب"الارضوي، ضمن اشتراطات تتزايد وتتعاظم اثناءها، وفي غمرتها أسباب المرض، فتتفاقم بلا نهاية، وبمتواليات تصاعدية، بل بالانتقال الى معالجة الكينونة والتركيب العضوي البشري الحالي، بالتحول للتركيز على العقل عن طريق اضعاف حضور الحاجات المادية من ناحية، ومعالجة مسالة العمر، مع العلم انهما مسالتان متلازمان في الغالب، ضمن غرضية وهدف السعي البشري لزيادة نسبة حضور فعل العقل مكان سطوة الجسد، حبثما هما موجودان ظاهران ومتجليان، الامر الذي يستوجب ابتداء ولزوما، الاعتراف بالازدواج الجسدي العقلي ضمن البنية البشرية الحالية، كحصيلة لانبثاق العقل في الجسد الحيواني.
يوجب هذا التقديربشموله إعادة نظر في الرؤيثة المعتمدة انسايوانيا للوجود، وللحقيقة الغالبة والمحرك الأساس، فالانسايوان ينظر الى العقل كانبثاق متأخر، قاصدا بذلك مرحلة منه تاتي عند لحظة من لحظات النشوئية الحيوانيه، ينتقل عندها الكائن الحي من الغلبة الجسدية الأقرب للكلية/ الحيوانيه، الى "الازدواج"، وثنائية (العقل / الجسد) المتجهة الى غلبة العقل، بمعنى ان " العقل" لم ينبثق فجاة، بل كان موجودا بمستوياته الأولى الدنيا الخاضعه لوحدانيه الجسد الحيواني، وان النشوئية العقلية التي هي أساس ومحرك الوجود والحياة، محكومه ومصممه لاجل ان يرتقي الجانب العقلي في التكوين الحيواني، لدرجة الازدواج التي تنشا مع الكائن الحيواني المنتصب، الذي يستعمل يديه، مع اللبونات، ووقتها يحدث الانعطاف الانقلابي الحاسم، وتتغير مسارات الحياة العضوية الحيوانيه، ويظهر الانسايوان بما هو كيانيه الازدواج العقلي/ الجسدي.
ومع "المجتمعية" يدخل الوجود الحي حقبة انتقالية مابين الأحادية الحيوانية، عبر الازدواج المؤقت، وبين الارجحية العقلية وبدء ظهور (الانسان/العقل)، تظل الجسدية ابانها راجحه ضمن الازدواج، الامر الذي يماثله حال المجتمعيات وازدواجها المقابل، بين لاارضوية، وارضوية ترجح من بينها وتغلب ضمن الازدواج، ابتداء، الارضوية الجسدية الحيوانيه، بمايعني كون العقل هو غاية الطبيعة والوجود الأرضي الحي، وغرضها الذي اليه يحتكم ويخضع مجمل المسار الحي وصيرورته ومسار نشوئيته.
لاانسايوان ولا مجتمعية ارضوية ابدية، او باقية الى مالا نهاية، بل ظاهرة لزومية عابرة، لها مدة صلاجية تنتهي عندها، بعد تاديتها للمطلوب منها، والواجب، وهي خاضعه لفعل الأسباب المضمرة المودعه في الظاهرة الحية، مثل البدئية اليدوية، والانتهائية الالية، حين تبدا الارضوية المجتمعية تفقد أسباب الاستمرار، ولاتعود تتمتع بما يكرس الغلبه التي حازتها مع بداية المجتمعات وانتكاس اللاارضوية، مع عدم قدرتها على تأكيد غلبتها وتحوليتها موضوعيا، لافتقارها للعامل التحولي المادي، الى جانب البنيوي. ولا يحدث ذلك من دون، وقبل ان تبلغ الارضوية قمة، وذروة تغلبها وتجسد ارجحيتها، الامر الذي يلازم وينتج عن الانقلاب الالي ومايرافقه وينشا عنه من منجز شامل على الصعد كافة، هذا في الوقت الذي تكون فيه الالة قد احلت أسباب الانتقال الى بدئية ثانيه، بعد تلك التي كانت قد استهلت حالة اليدوية الإنتاجية، الامر غير الممكن توفره داخل الارضوية التي تبقى من حيث مستوى ادراكيتها لحالتها القصوى، الذروة، محدودة بحدود وسقف نوعها، مع العجز عن الإحاطة بالحقيقة الجديدة الناشئة، المنطوية على دخول المجتمعات مع الانقلاب الالي، طور مابعد الارضوية.
والبديهي في مثل هذه الحالة، ان تعجز الارضوية مع رفعتها الانية، عن الذهاب الى رؤية اشتراطات ولوازم تبدل الاستراتيجيات الوجودية الحياتيه، وانقلابها الموجب لتحورها بما يلائم ويعزز غلبة الحضور العقلي، وتعاظمه على حساب الجسدية، وصولا الى غلبة العقل وتحرره واستقلاله عن الجسد، وبدء طور الحياتيه المقصود من الوجود الحي على كوكب الأرض، والمتمثل في الانتقال الى الاكوان العليا.
ـ بتبع ـ