النظام الطائفي السياسي في لبنان منهج تاريخي متخلَّف تأصيل تاريخي، وواقع مرحلي، وآفاق مستقبلية (3/ 3)


حسن خليل غريب
2021 / 6 / 13 - 10:47     

ثالثاً: صراع ديوك سلطة النظام الطائفي السياسي في لبنان إلى أين؟
النتائج ترتبط دائماً بالمقدمات. فإذا ظلَّت المقدمات ثابتة ومتحجرة، ستكون النتائج على شاكلتها. وهكذا، ولأن النظام الطائفي السياسي في لبنان وليد منهج تجربة متصرفية لبنان التي مضى عليها مائة وخمسين عاماً، بأسسه ووسائله، لا نعتبر أن الأحزاب التي شاركت في السلطة منذ اتفاق الطائف في العام 1989، أحزاب شابة حتى ولو كانت جديدة بالشكل فهي تلبس عباءة نظام عمره قرن ونصف القرن من الزمن.
ومن أجل مقاربة واقع النظام في هذه المرحلة، نعتقد بأن هناك ثوابت لم تتغيَّر تظهر في ثوب حرص تلك الأحزاب على التمظهر بثوب ما اتفقوا على تسميته بـ(حكومات الوحدة الوطنية)، وبشكل خاص منذ اتفاق الطائف حتى أول انطلاقة انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول من العام 2019، حينما سقطت آخر حكومة لها برئاسة سعد الحريري، وعجزت من بعدها تلك الأحزاب عن تشكيل حكومة أخرى على مقاييس (حكومات الوحدة الوطنية)، التي كانت تخفي عيوب منهج النظام الطائفي السياسي، الذي تستفيد من خدماته كل الأحزاب المشاركة في السلطة. وهذا العجز أدّى إلى انكشاف الغطاء عن تلك الهشاشة. وهشاشتها أنها ليست بناء على اتفاقات سياسية داخلية تعمل فعلاً من أجل مصلحة لبنان، بل لأنها كانت مظهراً من مظاهر الصراع الدولي - الإقليمي على تقسيم الحصص في المنطقة، ويُعتبر لبنان أحد تقصيلاته.
كان منهج تشكيل حكومات الوحدة الوطنية شكلاً تحاصصياً داخلياً يُعبِّر عن جوهر التوافقات الدولية والإقليمية الخارجية. وإن كانت بعض تلك التوافقات قد اهتزَّت بخروج قوات الردع السورية في العام 2005 من لبنان، كأول نتيجة من نتائج اهتزاز العلاقات السورية – الأميركية، إلاَّ أنها لم تصل إلى حافة الانهيار. في حينها انقسم تحالف المحاصصات الطائفية إلى شقين عاموديين: فريق الرابع عشر من آذار الذي يأتمر بتوجيهات الجانب الأميركي وحلفاؤه. والثاني فريق الثامن آذار الذي يأتمر بتوجيهات النظام السوري وحلفائه.
لم يصل المشهد الانقسامي إلى حدود الطلاق، فاستمرت معادلة مسرحية حكومات الوحدة الوطنية، بل راهن كل من الراعيين على حسم الصراع بينهما بواسطة القوى الداخلية، تفرقهما القوى الداعمة دولياً وعربياً، ويجمعهما سقف المعادلة التقليدية. ولكن لم تصل الأمور بينهما إلى حدود الانقسام العامودي، عسكرياً وأمنياً، كما حصل في أحداث العم 1975، لأن الصراع الدولي – الإقليمي، لم يكن مؤهلاً للظهور بفعل توافقات أخرى أكثر أهمية من لبنان.
من أهم تلك التوافقات التي كانت تمنع الانزلاق إلى حرب أهلية في لبنان، أثنين، وهما:
-الأول: كان في العراق في عهد أوباما، الرئيس الأميركي السابق. وكان الأبرز فيها التحالف الأميركي – الإيراني، الذي وصل إلى حدود تلزيم ملف العراق إلى النظام الإيراني. في حينها أسهم ذلك التحالف في منع وصول الصراع الداخلي في لبنان إلى حدود الطلاق الفعلي، وذلك لحسابات أميركية كانت تأخذ مدى أهمية الخدمات التي يؤديها الالتزام الإيراني للساحة العراقية.
-الثاني: توافقات فرضتها ظروف انطلاقة مسرحية (الربيع العربي)، وتداخل الخنادق فيها، بحيث عرفت تلك المرحلة تحالفات شاذَّة في ظاهرها، وطبيعية في جوهرها. فقد كان التوافق من جهة والتعارك من جهة أخرى، يتمان على قواعد ضمان استمرار المصالح المشتركة في الملفات التي تتداخل فيها الخنادق بين الولايات المنحدة الأميركية وكل من النظامين الإيراني والتركي. إن أهم تلك المصالح، بالإضافة إلى الساحة العراقية، كانت التوافقات على أهداف مشروع الشرق الأوسط الجديد التي تضمن مصالح الطرفين، الأميركي والإقليمي، بتقسيم الوطن العربي إلى دويلات طائفية، تضمن لكل من النظامين الإقليميين حصته فيها، كما تضمن لأميركا وحليفته الصهيونية العالمية، استمرار الهيمنة على منطقة عربية تتلهى في صراعات داخلية غير آبهة بما ترتكبه أميركا من سرقات لثرواتها.
وبناء على ذلك، لم يكن الانقسام على الساحة اللبنانية يفسد بالود قضية بين القوى الدولية والإقليمية، وهذا ما انعكس على الساحة اللبنانية بشكل واضح. إذ كان التعارك يأخذ مسارات عسكرية في كل الساحات العربية، ولكنه في لبنان كان يأخذ شكل كسب الأوراق السياسية، إذ كانت العملية تجري تحت سقف ما تُسمى بـ(حكومات الوحدة الوطنية)، مراهنة من كل طرف دولي وإقليمي، على أن رسم مستقبل لبنان سيتحدد على ضوء ما سوف تؤول إليه نتائج حروب (الربيع العربي).

متغيرات الموقف الأميركي قادت إلى تغيير في قواعد اللعبة في لبنان:
بعد وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة لأميركية، بدأت الصراعات الأميركية - الإقليمية تأخذ مسارات أخرى، أراد منها الرئيس ترامب، أن يعيد تصحيح الخلل في قواعد المحاصصة بين أميركا وإيران في العراق بشكل خاص. وأخذت حدة تلك القواعد تتصاعد تدريجياً، على قاعدة احتواء الحليف الإيراني بالجلوس إلى طاولة المفاوضات والتنازل عن الفائض من الامتيازات التي كان يحصل عليها بعد تلزيمه الملف العراقي في عهد الرئيس أوباما.
ووصلت حدة الصراعات بينهما إلى استخدام كل منهما لأوراق القوى الداخلية على الساحات العربية. ولأن النظام الإيراني أحرز سقفاً عالياً من التمدد والتمكن من احتواء الحواضن الشعبية حيثما وطأت أقدام إمبراطوريته التي أعلن عنها، ومنها لبنان، أخذ الاتفاق السابق بينهما ينهار. ولهذا استغلَّت أميركا حواضنها السياسية في لبنان، كورقة قوة احتياطية لنزع الغطاء الوحدوي عن أية حكومة يشارك فيها حزب الله إذا لم يستجب لتنفيذ مصالح أميركا. وبدوره، ولأنه يعرف أهمية الغطاء الوحدوي اللبناني الشكلي من جهة، ولأنه يستمد القوة من الغطاء الإيراني خاصة بتحالفه مع النظام السوري من جهة أخرى، أصرَّ الحزب على اتخاذ جانب الدفاع عن مصلحة النظام الإيراني من جهة، والتضييق على مصالح أميركا من جهة أخرى. فأصرَّ، بداية بعد استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري، على إعادة تشكيل (حكومة وحدة وطنية) على أساس أن لا يخسر شيئاً من أوراق قوته، والمحافظة على أن تكون بحماية سلطوية لبنانية جامعة، أي كما زعمت أوساطه الإعلامية أنه عمل جاهداً على اعتماد القاعدة الشكلية التقليدية، أي التلطي تحت قبعة (حكومة الوحدة الوطنية). ولما كانت قواعد الاشتباك بين النظام الإيراني والولايات المتحدة الأميركية قد تغيَّرت في عهد ولاية دونالد ترامب، الرئيس الأميركي، وهي العمل على إضعاف أوراق النظام الإيراني على الساحة العربية، وبالأخص منها على الساحة اللبنانية عبر إضعاف أوراق حزب الله، راح فريق الرابع عشر من آذار يعمل على تنفيذ التعليمات الأميركية فرفض أطرافه الاستجابة لرغبة حزب الله، ولذلك شكَّل الحزب مع حلفائه من فريق الثامن من آذار، أول حكومة في لبنان لا تحمل خاتم الوحدة الوطنية الشكلي، تلك الحكومة التي كُلِّف الرئيس حسان ذياب بتشكيلها.

تشكيلة حكومة اللون الواحد مرحلية بانتظار إعادة تدوير اقتسام الحصص:
ولأن قرار قوى السلطة مرتبط بقرار دولي - إقليمي، ستراوح تكتيكات المرحلة مكانها، لكن على نار حامية إلى أن تنقشع الرؤية عما ستسفر عنه الصراعات الدولية والإقليمية. ويظهر فيه أن الضغط الأميركي راجح الكفة، ليس بما يملكه من حواضن شعبية أو قوى ملحقة بقراره، بل بما يملكه من عوامل الضغط المالي على الحكومة للبنانية بشكلها الحالي، سواءٌ أكان بإمساكه بالقرار المالي في المؤسسات الدولية، أم كان بإمساكه بقوة ضخ الدولار الذي يشكل العصب الوحيد للاقتصاد اللبناني، أم كان بإمساكه بقرار المساعدات العربية التي من المفترض أن تضخه الدول العربية الغنية. ولهذا السبب يتم التلاعب بمصير لقمة عيش اللبنانيين. لأن هذا المصير لا يشكل الهم عند من يعملون على تجويع كل فقراء العالم من أجل ضمان مصالحهم.

نتائج ورؤى في مستقبل نظام الطائفية السياسية في لبنان:
أصبح من الواضح أن هذا النظام في لبنان، كمنهج ووسائل، وليد لتجربة تأسست منذ قرن ونصف القرن من الزمن، وهو نظام المتصرفية الذي رعته السلطنة العثمانية بالتوافق مع الدول الأوروبية. وبرضى وخنوع من الطوائف اللبنانية التي كان هاجسها الخروج من ألسنة لهيب الحريق الطائفي الذي ذهب بأرواح عشرات الآلاف من المواطنين العرب، وبالأخص منهم من اللبنانيين.
فتأسيس هذا النظام كان حاجة مرحلية هانئة وسلمية بالنسبة لفقراء الطوائف. هؤلاء الفقراء كان من الأجدر للتعبير عن مصلحتهم أن يتم القضاء على المرض الطائفي الذي أصيبوا به، والذي بدلاً من ذلك، فقد عزَّزته المؤسسات الدينية على مختلف انتماءاتها. والذي استفادت منه النخب الإقطاعية في ذلك الزمن بحيث لم ينتقص من امتيازاتهم بل أمسكوا برقاب أتباعهم عندما حافظوا على مواقعهم في مقاعد المتصرفية يستخدمون الشعب عبيداً وأقناناً وفلاحين ورعاة يجزون صوفهم وجنى عمرهم ونتاج زنودهم. فأتخموا بحيازة الأراضي والأملاك، وظل الفقير كادحاً يخضع لسلطة الإقطاع وأزلامه الذين كانوا يستولون على المحاصيل ويمنُّون على الفلاحين بفتات لا يكاد يغنيهم عن جوع.
كان فريق الأقوياء يتألَّف من السلطنة العثمانية والإقطاع المحلي والدول الأجنبية الحاضنة شكلاً للطوائف في لبنان، هذا ناهيك عن المؤسسات الدينية التي تشكل الحارس الأمين لثلاثية الأقوياء. وكان الضعفاء فريقاً واحداً تتحكم برقابه تلك المنظومة، منقادون بعصا التعصب الطائفي الأعمى، يقدمون عصا الطاعة عن رضى وقبول تحت أخاديع حماتهم الطائفيين مما كانوا يزعمون أنه آت من الطوائف الأخرى.
ولهذا وعلى الرغم من أن منهج نظام المتصرفية الطائفي السياسي كان يشيخ ويتقدَّم بالشيخوخة، على الرغم من متغيرات العصر السياسية كانت تقفز قفزات كبيرة في تطوير مناهج الحكم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لكن المستفيدين منه كانوا يجددون الشباب السرابي فيه، تحت سمع الجهلة الطيبين من أبناء الشعب اللبناني من كل الطوائف.
ولهذه الأسباب فقد عرف لبنان أربع مراحل من حالات الاستقواء الطائفي بالخارج. كان يرتفع فيها نفوذ طائفة، وينخفض نفوذ أخرى. وفي نهاية كل مرحلة كان اللبنانيون يخوضون فيها حروباً عن الآخرين فتتغيَّر حضانة طائفة لبنانية بديلاً لحضانة طائفة سبقتها بالنفوذ. وفي كل مرحلة من المراحل كانت تظهر (أماً حنوناً) جديدة. وهكذا سيبقى زمن نظام الطائفية السياسية ينخر في عظام فقراء لبنان الذين يدفعون الثمن دائماً لحماية سراب فارغ من الماء الحقيقي إلا ما يسد عطش المؤسسات الأربع ويزيد عنها الشيء الكثير.
ولقد مرَّ لبنان بالتحولات التالية: السنية السياسية في عهد السلطنة العثمانية. والمارونية السياسية في عهد الانتداب الفرنسي، ووريثته الأميركية. والشيعية السياسية وحاضنتها السورية – الإيرانية. وإذا استمر الحال على هذا المنوال، نتساءل عن الهوية القادمة للبنان، وعن هوية الأم الحنون القادمة.
ولكي نوفِّر على اللبنانيين قيام فتنة داخلية في كل مرحلة زمنية من أجل الصراع حول إسقاط وصاية طائفية وإعلاء وصاية طائفية أخرى. أو من أجل استبدال أم حنون بأم حنون أخرى. واستناداً إلى تشخيص العلة، يمكننا تحديد نوعية العلاج على الصعيدين الداخلي والخارجي:
-على الصعيد الداخلي: إذا كانت أسباب العلة الداخلية ناتجة عن الفيروسات الطائفية، على قوى التغيير أن تقوم بكشف الغطاء عن مسؤولية كل المؤسسات المشاركة بضخ عوامل الحياة في جسم النظام الطائفي السياسي، من أحزاب طائفية وأمرائها السياسيين والمؤسسات الدينية التي تحميها.
-على الصعيد الخارجي: من أساسيات النظام الطائفي السياسي أن تعمل كل طائفة فيه لاكتساب عوامل القوة في مواجهة الخوف من الطوائف الأخرى، ولهذا تستدرج تلك العوامل ببناء علاقة مع قوة خارجية تحميها وتقدم لها الإمكانيات المالية والسياسية.
ولأن الاستقواء بالخارج لن يكون مجانياً، بل يقبض ثمناً مقابلاً، من أهمه مصادرة قرار الطائفة السيادي. ولأن جميع الطوائف ترهن قرارها إلى الخارج، يعني ذلك رهن القرار الوطني كله لأطراف خارجية لا تعمل سوى لمصالحها. ولأن تضارب المصالح الخارجية واقع لا محالة من حصول صدام بين أطرافه، ستتحول الساحة الوطنية اللبنانية، كما هو حاصل في هذه المرحلة، إلى ساحة صراع يدفع ثمنها فقراء الشعب اللبناني. وإذا حصلت تسويات بتقاسم الحصص بين الأطراف الدولية والإقليمية، سوف تنتج تسويات مماثلة بين أطراف السلطة، بحيث يتم إعادة إنتاج خدعة (حكومة الوحدة الوطنية)، لضمان حصول كل طرف منها على امتيازاته. ولن تنال شرائحها الشعبية سوى دفع الثمن من كرامتها السيادية وقوتها اليومي.
ولكل هذا، نستطيع أن نستشرف مستقبل لبنان بعد ما تشهده الساحة اللبنانية الآن من صراع بين ديوك السلطة. والمستقبل، في ظل هذا النظام الهرم، لن يكون مشرقاً، بل سيظلُّ معتماً كما كان منذ أكثر من قرن من الزمن. وإنما الحل، هو العمل على خلخلة ركائزه، بثورة ثقافية شبابية تتخلَّص من ثوابت الماضي بشكل تام وكامل. على أن يتم إنتاج نظام وطني يُعيد السلطة للشعب، ويستعيدها من سالبيها لأصحابها الحقيقيين.
ولن نكون رومانسيين إذا انصبت مراهناتنا على شابات لبنان وشبابه الذين انطلقوا في السابع عشر من تشرين الأول من العام 2019، خاصة أنهم مدعومين من قوى حزبية ووطنية ترفع أهداف الشعب بنيل حقوقه. وجميعهم محاطون بنخبة واسعة من المثقفين الثوريين الذين يمثلون شتى شرائحهم من صحافيين وسياسيين وحقوقيين وأساتذة جامعات وأكادميين في شتى العلوم الإنسانية والتكنولوجية.