الصعود الحضاري للمجتمعات القديمة بين فاعل القيم مفعولية الفرد القائد


عباس علي العلي
2021 / 6 / 10 - 19:10     

الدارس التأريخي للحضارات المجتمعية القديمة ومنها الجديدة قد يجد أن للدور القيادي لأشخاص محددين وعبر ما يرسونه من أفكار عملية أو يستظهرون من قيم أجتماعية مؤسسة، كان لهم لفضل والدور الأكبر في بناء تلك الحضارات وتشييد أسسها في واقع صعب واحيانا مناهض لفكرة الحضارة، فقد أنشا رجلا عظماء نهضوا في مجتمعاتهم لسبب أو ظرف خاص واسسوا كما يفهم من روايات التاريخ إمبراطوريات عظيمة وحضارات بقيت شواهدها على مر العصور، لذا فقد تنسب تلك الحضارة أو البناء الحضاري لهذا الشخص أو ذاك، فمثلا تنسب الحضارة المصرية القديمة لفرعون أو مجموعة فراعنة، وكذلك قد لا ننسى مثلا حمورابي أو اشور بانبيال أو شلمنصر في الحضارات العراقية القديمة، كما لا ينسى كورش في الحضارة الفارسية، ومن تلك الحضارات الدينية التي بزغت في أدوار زمانية متعاقبة نذكر رموزها مثل النبي محمد وهارون الرشيد في الحضارة الإسلامية، السؤال هنا دوما يثار هل مفعولية القيادة هي من أسست وساهمت بشكل محورية في نشوء تلك الحضارة ؟ أم تلك القيم المحمولة والحاملة والكامنة بالذات المجتمعية هي التي تساهم بشكل جدي في إظهار قوة الحضارة ونشاطها.
لو تأملنا تأريخيا ومن خلال الجغرافية وعناصر المعرفة المتعلقة بمفاهيم الحضارة سنجد مؤشرات مشتركة وعوامل متشابها وظروف متماثلة تربط بين نشوء هذه الحضارات من حيث الجغرافية والبيئة والعنصر البشري فيها، فلا يمكن أن تكون هناك حضارات كبرى بمستوى ما يعرف بالحضارات المؤسسة وهي من الشرق للغرب، الحضارة الصينية والهندية والفارسية والرافدانية والمصرية وننتهي بالحضارتين الرومانية واليونانية، ويمكن ووفق المقياس نشير لحضارات ما بعد المحيط وهي حضارات القارة الأمريكية اللاتينية في المكسيك والبيرو، فهذه جميعا تشترك بثلاثة عناوين أساسية هي:.
• لم تبنى فيها حضارة واحدة بل كلما أنهارت في مكان تعود لتنمو في مكان أخر.
• أنها جميعا تعتمد على علاقة الإنسان بالأرض أولا وأنتهاء، فهي حضارات وجود أصلي لا وجود غزو أو أنتقال أو إنبات في غير محله.
• إنها ترجمت الحضارة إنعكاسا لشخصيتها حتى لو كانت هناك شخصية فاعلة أقوى منها ومسيطرة لكنها بالنتيجة تطوع تلك الشخصية لتصبغها بطابعها الخاص وتدجنها لمصلحتها.
هذه النقاط الثلاث تفرق بين الحضارات الكبرى أو الحضارات الأم وبين النشاط الحضاري لمجتمع ما في ظرف ما في مكان ما، فهناك لمحات تاريخية وأثار مادية تشهد بولادة نشاط حضاري في بقع وأماكن في الأرض أنتجتها مجتمعات وشعوب وقد تطول مدتها أو تقصر، لكنها في النهاية تضمحل وتتلاشى وتنتهي كقصة من قصص التاريخ، هذا النشاط الحضاري نشأ لسبب ولظرف أستثنائي ولعوامل قد لا تكون متأصلة في ذات المجتمع، فعندما ينشط المجتمع حضاريا ويؤسس له وجود مميز وخاص به، لا يعني أنه أسس حضارة بمعنى الأمتداد والتأثير والأصالة والتجدد، لأن الحضارة بمعناها القيمي التاريخي هي أمتداد روح الإنسان في الوجود وعطاءه الذي لا ينضب، وبما أنها هي محمول روحية الإنسان وقدرته العاقلة فهي لا تنقطع ولا تموت بل تشهد ولادات متكررة ونمو وضعف وشموخ وإنحدار تماما كما يعيشها الإنسان الحضاري بالطبع، وهنا أود أن أشير إلى نقطة غاية في الأهمية وهي أن الإنسان الذي يعيش في سلام مع الماء القابل لأن يمنحه الحياة وبدون أن يخشى غيابه أو طغيانه هو الإنسان الحضاري بالطبع والقادر على يتمدن سريعا ويبني سريعا ويعود للحياة سريعا، لأنه يثق أن الطبيعة تطاوعه وتمنحه مصدر القوة الأساسي.
فليس كل إنسان حضاري ليس لأنه لا يملك المؤهلات البدوية والحتمية، لكن لأن الواقع الجغرافي والبيئي ينعكس في تفاعلاته على تفاعلات العقل لديه، فينحصر همه بمحاولة الصراع الوجودي مع الطبيعة بدل من أن يكون صراعه من اجل الأرتقاء، أي أن الإنسان الغير حضاري عنصر وجوده الأساسي منشغل بالصراع من أجل البقاء، عكس الإنسان الحضاري الذي يثق بالطبيعة ويأتمن لها، فهو في صراع مع قيمه لأجل الأرتقاء ولأنه ضامن البقاء بوجود الأسباب الطبيعية ومنها مصدر الحياة الدائم الماء، فكل الحضارات العظمى هي حضارات أحواض الأنهر والمسطحات المائية العذبة التي توفر عنصرين أساسيين وهما القوت الدائم والأستقرار الدائم.
هنا ينبع دور الإنسان وأهميته في بناء الحضارة، الإنسان كمجتمع وقيم وطبائع وتفاعلات وظروف، إنسان فعل وأثر وروح جامعة وليس إنسان فرد إنسان السوبر الذي يجترح المعجزات ويأتي بما لم يستطيع المجتمع أن يتعامل معه ومع ذلك يجبره على التقيد والتعامل مع قضية اغترابيه وطارئة، فالإنسان الفرد القادر على أن يكون فاعلا حضاريا لا بد أن يكون هو نموذج للمجتمع نموذج إيجابي قادر على فهم الروح الجمعية ومتعرف على أسرارها ونقاط قوتها، وبذلك يمكنه السيطرة والتحريك وفق نظرة ورؤية متكاملة، فهو جزء من فعل والجزء الأكبر للمجتمع وما ترسب في ذاكرته الدائمة، المجتمعات الحضارية الفعلية لا تموت فيها روح الحضارة أبدا لأنها تتحول إلى مفردات جينية تصيغ بشكل أو بأخر فهمها لقوتها عبر المحاولة المستمرة للنهوض، لذا هي تبحث دوما عن محرك قادر على رفع روحيتها خاصة إذا كان هذا الرافع جمعي أو يستهدف الجميع دون تفرقة، ومن تلك الروافع الحضارية الدين بقوته المثالية التي يمكن أن تجمع الشتات وتشتت جمع مصادر القوة عند الأخر المختلف، هذا يفسر لنا ترافق الدين بشكل عام مع الحضارة وظهوره بمظهر القائد، والحقيقة أن الدين هنا ليس أكثر من واجهة توحيد لروح الأمة أو المجتمع الحضاري.
الدين وحده لا يصنع حضارة خاصة إذا كان لا يسعى لأن يكون سقفا عاما للمجتمع، كما أنه لا يمكن أن يكون حامل لحضارة دون أن يكون منفتحا في جانب منه على مادية واقعية وجودية، فالدين الطقوسي بالغالب والغيبي بمحموله لا يمكنه بأي حال أن يمنح المجتمع روح حضارية، ممكنه مثلا أن يمنحه قوة من خلال متبنياته لكنها قوة مادية جامدة لا تحرك العقلية الجمعية، كما أنه يمنح المجتمع نوع من الهوية القادرة على التعامل مع وهم القوة في حضورها، ولكن القوة بذاتها ولذاتها لا تملك قوة الأستمرار والتطور إذا انت منفصلة أصلا عن روح الإنسان ـ المجتمع، لذا فما يسمى بالحضارات الدينية هي ليست حضارة كاملة قادرة على أن تنهض خارج الشروط الثلاث السابقة، فالحضارة الإسلامية أو كما يزعم بوجودها هي ليست حضارة منفصلة عن قاعدتها وبيئتها وحاضنتها المجتمعات الحضارية التي غذتها بالتفوق وهي حضارة الهلال الخصيب اولا ومصر الثانية والفارسية ثالثا ثم توالت تأثيرات الحضارات الأخرى، فكانت بغداد والقاهرة والشام أبرز شواخصها الحاضرة، أما مكة ام الإسلام والمدينة مكان التكوين والأنطلاق لم تشهد بناء حضاري حقيقي لأنها لا تملك روح الحضارة وإنسانها إنسان غير حضاري بالمعنى الذي ذكرناه بالرغم من أن الإسلام بدأ من هناك وما زال هناك لكن دون فعل حضاري.