في سياق التحوّل الذي أحدثه نصر غزة: كيف نستثمر بالفرح؟


خالد حدادة
2021 / 6 / 10 - 19:01     



بعد أكثر من أسبوعين على مظاهر الفرح بالصمود والانتصار، حان الوقت للتفكير بكيفيّة صيانة الفرحة، وتحويلها إلى برنامج يراكم النصر ويمنع القوى المضادّة من إجهاضه، خاصة أنّ تاريخنا مليء بالانتصارات، الّتي تحوّلت بالسياسة إلى هزائم.

كي لا ننسى، من الثورة الكبرى إلى حرب تشرين، إلى حدَ كبير حتى إقرار 1701 بعد صمود تموز، وأكثر من ذلك تجيير الصمود، بشكل أو بآخر، لتكريس النظام الطائفي وحمايته، وعمل القوى الرجعيّة العربيّة لحرف الصراع باتجاه خلق عدو «مفترض» ووحيد هو الخصم «الفارسي»، يشكّل بديلاً عن الصراع الرئيسي مع العدوّ الصهيوني.



ومع التفتيش عن بداية لهذا التقييم، استنجدت بالمقال الافتتاحي لصحيفة «لوموند» الفرنسيّة يوم السبت 22 أيّار: «إسرائيل - فلسطين، لنغيّر الباراديغم»، «مقاربة جديدة» يجب أن تبنى. «حقوق متساوية للشعبين».
في الشكل، الجديد للعنوان نجد «فلسطين» وليس «الفلسطينيّين»، لقد كان الإعلام الغربي يتعامل مع القضيّة كقضية إنسانية تطال مجموعة «لاجئين» و«مهجَّرين» وأطفال دون طعام ودواء، وبأحسن الأحوال المطالبة بحقوق الأسرى... وها هو يتحوّل إلى «شعب» وإلى «وطن» فلسطين، هذا التحوّل ليس فجأة، بل هو تراكم جسّده الشعب الفلسطيني بكلّ تضحياته السابقة وفي المعركة الأخيرة، وكرّسه انتصار فلسطين على آلة الحرب الصهيونيّة.
أمّا في المضمون، فيمكن استخلاص شعارات الغرب والنظام الرسمي العربي والولايات المتّحدة، في معركة «المفاوضات» التي بدأت، فتلخّص الصحيفة «اليمينيّة المعتدلة» كما تسمى: لتلافي الحرب الخامسة سلسلة عناوين: وقف مستدام لإطلاق النار، اتفاق حماس وفتح، مؤتمر دولي لإعاة الإعمار، حلّ قضيّة الأسرى «الإسرائيليّين» طبعاً وشعارات أخرى، مع التركيز على دور قوى «الاعتدال» العربي وتحديداً مصر...
وها نحن نشهد على التطبيل والتزمير، للتحوّل في السياسة الأميركيّة أي للإدارة الجديدة. لا ننكر حقيقة أنّ «صفقة العصر» تلفظ أنفاسها الأخيرة وهو توقّع اتّفق عليه كثيرون بعد سقوط «ترامب»، ولكن هل هذا يعني ويدلّ على تحوّل نوعيّ في الموقف؟ حكماً لا، الذي جرى ويجري موضوعياً، على مستوى الإدارة، إعادة الموقف إلى ما قبل ترامب، هو (أي ترامب) شدّ الموقف أكثر نحو اليمين ومصلحة «الصهاينة»، إدارة «بايدن» تحاول إعادة الموقف الطبيعي: تأييد مطلق لـ «إسرائيل»، وتعاون شكلي مع السلطة الفلسطينيّة والنظام الرسمي العربي على قاعدة مفهوم مبهم لحلّ «الدولتين». باختصار، «دعم القاتل بالمال والسلاح، وبعض الدموع على القتيل، هذه حدود السياسة الأميركية ما قبل ترامب وما بعد بايدن...
الآن، حان وقت الإجابة على سؤال: هو انتصار، حتماً، لكن من الّذي انتصر؟
إنّ الّذي انتصر هو الذي قاوم، ولكن من الذي قاوم؟ سيحاول البعض حصر الإجابة، بالجانب العسكري للمقاومة وسيقول «انتصار حماس» والبعض الآخر «حماس والجهاد» والقليل يقول «حماس والفصائل»، وسيردّ آخر بأنّ حماس قاومت وانتصرت بالعسكر، والسلطة انتصرت بالمفاوضات. وسيستنتج هؤلاء، بأنّ المفاوضات يجب أن تضمن دوراً «لحماس» و«للسلطة»، والأخطر أنها ستعيد مفهوم «الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة» إلى توافق «فتح وحماس» وتحاصصهما للمواقع وللسلطة برعاية رسميّة وعربيّة وموافقة أميركيّة غربيّة. ومجدّداً سيعود البحث حول وضع «غزّة» حصراً، بعيداً عن المفهوم الحقيقيّ والنوعيّ لهذا الانتصار.
من الّذي انتصر إذاً؟
حتماً حماس والجهاد والفصائل العسكريّة قد انتصرت وقدّمت أثماناً غالية لهذا الانتصار، ويجب أن يكون لها دور واضح في تقرير اتّجاه المعركة لاحقاً. لكن الّذي انتصر أوّلاً، هو شعب فلسطين، كلّ فلسطين، نساء «حيّ الجرّاح» وأطفاله ورجاله، القدس والضفّة ومقاوموها بالحجر وبالزنود السمر والوجوه الباسمة.
الّذي انتصر، هو فقراء غزّة وأطفالها رغم حصار الخمسة عشر عاماً وتقديمهم مئات الشهداء والجرحى، وهم مملوؤن بالفرح والأمل والثقة.
الّذي انتصر، هو شعب فلسطين في مناطق الاحتلال، من يافا وحيفا إلى أمّ الفحم والبيرة والناصرة... أعلنوا تمسّكهم بهويّة لم ينكروها يوماً، رغم كلّ الاضطهاد والفصل العنصري وقدّموا الشهداء والجرحى والأسرى...
إنّهم فلسطينيو «الشتات»، دفعوا قهراً واشتياقاً ليكونوا إلى جانب القدس وغزّة، واستطاعوا لعب دور تاريخي في تحوّل كبير في الرّأي العام العالمي، وأعمى من لا يرى، أنّه إذا كانت بداية القرن الماضي قد شهدت «وعد بلفور» المشؤوم، ها هي اليوم «غزّة» تنبت أملاً في قلب لندن «شارعاً» باسمها علّه يخفّف شيئاً من وجع «بلفور».
وها هم فنّانو ومثقّفو العالم، التقدّميّون واليساريّون وغيرهم، يتضامنون مع فلسطين ويؤثّرون على حكّام بلدانهم وفي مقدّمة الموكب اليسار العالمي من أوروبا وأميركا (الجنوب والشمال) وأفريقيا وآسيا، مواكب بمئات الآلاف دعماً لفلسطين وحقّ الفلسطينيّين بوطنهم.
وكي لا ننسى، الشعوب في البلدان العربيّة، حملة لواء ثورة الجزائر، وورثة المقاومة في لبنان والعراق والكويت والبحرين واليمن ومصر وسوريا والمغرب وتونس وموريتانيا والأردن، نعم الأردن...
كلّ هذا التنوّع، انتصر في فلسطين ومن أجل فلسطين... إذن، تبقى القضيّة لأهلها، ولكن لم تعد لهم فقط، أصبحت ملكاً لهذا التنوّع الجميل، تكويناً وأدوات.
سيحاول المهزوم وحلفاؤه، في العالم والأنظمة العربيّة فرط هذا التنوّع، بدءاً بواسطة العقد في فلسطين من أجل تحويل الانتصار إلى هزيمة.
تعرّضنا لهذا الاحتمال نفسه، بعد صمود تمّوز 2006، كلّ اللذين ذكرناهم سابقاً التفّوا حول المقاومة ولبنان وشعبه، انتصروا للمقاومة وانتصروا معها... ماذا كانت النتيجة؟
صمدت المقاومة والشعب ومن تضامن معهم في الخارج وحقّقوا الانتصار، إنما فاوض تحالف سلطوي على رأسه من كان ينظّر للهزيمة ويسعى لها ما أنتج القرار 1701.
قلنا سابقاً إنّ «الثغرة الأساسيّة» كانت، أنّه في ثنائيّة البنية والوظيفة انتصرت الوظيفة وفي المفاوضات تغلّبت البنية وانعكست ليس فقط في القرار 1701 بل في التعاطي مع نظام لبناني طائفي ما كان يوماً إلّا متآمراً على المقاومة، كلّ مقاومة.
حتماً سوف يقول بعض الرفاق والأصدقاء، إنّه «تعامل واقعي» لجأت له المقاومة حفاظاً على وحدة الشعب حولها. وإلى عدم الوقوع في أتون المواجهات الطائفيّة والمذهبيّة. هل حقّاً ذلك؟ ألا نرى أنّ حدّة الانقسامات قد زادت والشعب أو «بعضه» أصبح أقلّ التصاقاً بالمقاومة بنتيجة ما خلقه هذا النظام من جوع وفقر وتهجير؟ لنكن صريحين، علّ الصراحة تساعد في مراجعة جريئة، ضمن ثنائيّة البنية والوظيفة وخارج المواجهة المباشرة مع العدوّ، الأولويّة أعطيت للبنية وهذا ما أضعف وهج المقاومة والانتصار.
واليوم، من الّذي سيفاوض باسم المنتصرين؟ مع من؟ وعلى ماذا؟ باختصار، كيف نثمر هذا النصر ونضعه في التراكم الأكيد نحو الانتصار الكبير. المهمّة الأولى، هي كيف نستفيد من تجارب غزّة السابقة وتجربة لبنان وبالتالي كيف نتلافى الثغرات، خاصة وأنّ ما يلي المعركة، مواجهة صعبة مع التحالف المقابل. هذا التحالف الذي يستطيع الأميركي توجيهه بوجهة واحدة، ونعني بالتحالف الأميركي هنا، الأميركي نفسه والمفاوضين الردفاء من العرب والأوروبيّين، وبالطبع العدوّ الصهيوني وقوى وأنظمة التطبيع العربيّة.
سيمارس التحالف الأميركي ضغطه باتجاه تثبيت سقف مفاوضاته، من حيث حصرها بداية بالسلطة الفلسطينيّة مباشرة وبحماس بشكل غير مباشر «عبر الوسطاء»، المصري والقطري وربّما التركي. وبدأت بشائر هذا السقف بمحاولة حصر المشكلة بـ«غزّة»، تحت شعار فكّ الحصار وإعادة الإعمار مقابل إطلاق الأسرى من جيش العدو الصهيوني. وفي المقابل جعل قضيّة القدس خاصّة بالمفاوضات النهائية مع السلطة الفلسطينيّة على أساس «أوسلو»، وإهمال موضوع الاستيطان. والأخطر اعتبار قضيّة فلسطين المحتلّة وأبنائها قضيّة «إسرائيليّة داخليّة»، يبحثونها مع الحكومة الصهيونيّة المقبلة. هذا هو سقف مفاوضاتهم، ضغط سياسي وإغراءات ماليّة لغزّة، ودفع باتّجاه ترميم ثنائيّة (فتح - حماس)، كأساس في تكوين الإطار السياسي الفلسطيني.
في المقابل، هل تكون المواجهة تحت هذا السقف؟ أم أنّ الانتصار الّذي تحقّق، يدفعنا لخطّة هجوميّة تستكمل الصمود البطولي بانتصار سياسي- جماهيري، يعيد للقضيّة الفلسطينيّة جوهرها ونبضها ومفاهيمها ويضع شعبها المقاوم في مرحلة جديدة، يكون معها قادراً على مواجهة لاحقة آتية حتماً؟
القضيّة الأولى، إعادة الاعتبار لمفهوم «فلسطين»، فلسطين هي فلسطين كلَ فلسطين، وعاصمتها القدس كلَ القدس، والشعب الفلسطيني ليس شعوباً وقبائل، شعب غزّة وشعب الضفّة وشعب الداخل، بل هو الشعب الفلسطيني، قاوم بعضه بالسلاح والآخرون بالحجر والأغنية والمظاهرة، دائماً تحت منطق «الاشتباك» بما يتوفر من أدوات.
كلّ القوى التقدّميّة والديمقراطيّة الّتي دعمت القضيّة الفلسطينيّة وفرضت تغييرات حقيقيّة في الوعي العام، معنيّة بالبحث عن آليّة تنظيم ديمومة هذا الدعم واستعادة مفهومنا حول فلسطين

لا يمكن لغزّة والضفّة إلّا أن تكونا «فلسطين المحرّرة»، ولذلك المهمّة الأولى هي استكمال التحرير، إنّ البناء على الانتصار المحقّق يكون بإلغاء كلّ أشكال الاعتراف بالكيان الصهيوني، بمعنى آخر إلغاء «أوسلو». إن الكيان الصهيوني كيان يجب التعامل معه كاحتلال خارجي، تماماً كما فاوض الفييتناميّون الشماليّون، عندما اعتبروا «فييتنام الجنوبيّة» قسماً محتلّاً من فييتنام، واجب تحريره. معركة قد تطول وهي مكلفة، ولكنّها أصبحت اليوم ضرورة وممكنة التوجه.
ليس شعاراً طوباويّاً ولا مغامراً. لننظر إلى تنامي موجة «اليهود المعادين للصهيونيّة» في أوروبا وأميركا، والّذين تحرّكوا داخل فلسطين وخارجها، ليعيدوا التذكير بأنّ هذا الكيان ما هو إلّا احتلال قام به رأسماليّو أوروبا، بواسطة «العصابات الصهيونيّة».
إذن، هي فلسطين كلّ فلسطين، تواجه احتلالاً خارجيّاً من قِبل عصابات. المهمّة الأولى هي إعادة الاعتبار لهذا الفهم.
القضيّة الثانية، هي أداة هذا الموقف، وهنا إعادة تحديد مفهوم «الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة»، هل هي وحدة فصائل أساسها وحدة فتح وحماس؟ هي تحالف سلطتين في الضفّة والقطاع؟
المعركة الأخيرة أعادت بلورة مفهوم «الوحدة» بأنّه «وحدة شعبيّة فلسطينيّة»، مارسها الشعب الفلسطيني في كلّ فلسطين ومن أجل كلّ فلسطين. هذا لا يعني إهمال الفصائل فهي أطر المقاومة التي أنتجها هذا الشعب، وتوحّدها ضرورة لتكريس الوحدة الشعبيّة.
وفي هذا المجال تقع على الفصائل والقوى السياسيّة في فلسطين، مهمة البحث عن إنتاج الإطار السياسي الممثّل لهذه «الوحدة الشعبيّة»، وسواء بالتمثيل النيابي أو بأشكال تمثيل أخرى، أو بهدف إعادة تكوين أطر منظّمة التحرير الفلسطينية. بكل الحالات الاختيار والانتخاب يجب أن يُشارك فيه كلّ «المنتصرين» من الشعب الفلسطيني، كلّ الّذين قاوموا، ولذلك فإنّ هذا التمثيل مهما كان شكله، يجب أن يشمل كلّ فلسطيني في غزّة والضفّة والقدس وفي الداخل الفلسطيني المحتلّ وكذلك في الشتات. وللمناسبة إنّ الشعب الّذي استطاع الانتصار يستطيع الانتخاب والاختيار ولا ينتظر موافقة سلطة الاحتلال أو إذناً منها. هكذا نبعد الوحدة الوطنيّة عن مفهوم التحاصص والتوافق الفوقي، باتّجاه «وحدة شعبيّة» قادرة على استكمال المواجهة، هكذا تنتصر وظيفة المقاومة على بنية أو بنى فصائلها واتجاهاتهم السياسية والفكرية وتحتويهم جميعاً.
القضيّة الثالثة، هي الخاصّة بالمنتصر الآخر، أي كلّ القوى التقدّميّة والديمقراطيّة التي دعمت صمود فلسطين وفرضت تغييرات حقيقيّة في الوعي العام للقضيّة الفلسطينيّة. يجب أن نبحث عن آليّة تنظيم ديمومة هذا الدعم وتحويله باتّجاه استعادة مفهومنا حول القضيّة الفلسطينيّة وحول فلسطين. لنعُد إلى «الباراديغم» الجديدة، هذه «الباراديغم الفلسطينيّة الجديدة» تكوّنت بدماء الشهداء، بأنين الجرحى، بابتسامات الأسرى، وآهات الأمّهات، تفولذت بالنّصر، تتحدد جوانب نظريتها النواة بـ: فلسطين كلّ فلسطين، بمكوّناتها الجيوسياسيّة، وبمكوّنها الديموغرافي، الشعب الفلسطيني بتنوّعه، في الضفّة والقطاع والأراضي المحتلّة والشتات، وعاصمتها القدس، كلّ القدس.
مجتمعها، الشعب الفلسطيني كلّه كأساس، ومعه شعوب حركة التحرّر العربي، كلّ الشعوب من المحيط إلى الخليج، تنتفض بوجه أنظمة الذلّ. أيضاً بتنوعها الوطني والعرقي، تنتفض بوجه أنظمة الذلّ والخيانة.
التفاوض بالنسبة لها يعني تأمين الشروط للتفاوض على تحرير الأرض من عصابات احتلّتها، عصابات صهيونية وليس يهودية بدعم من الاستعمار الأوروبي. وحتى لا نبالغ تأمين شروط التفاوض على هذه الأسس. رفض وساطة الذئب الأميركي والأنظمة التابعة له. ليس وسيطاً من يدعم العصابات بالمال والسلاح والسياسة بل هو مفاوض باسم العدوّ.
نسج العلاقة الّتي وضعت بذورها مع كلّ قوى التقدّم والصمود في العالم وتطويرها.
هذه بعض توجهات «الباراديغم» والمجموعة الحاملة لها والتي تحمي التنوع المقاوم بكل اتجاهاته.
حكماً سيكون هنالك «باراديغمات» أخرى يحملها اليمين الفلسطيني المساوم ويدعمه النظام الرسمي العربي وخاصة دول التطبيع، وتدعمه الولايات المتّحدة والأنظمة الأوروبيّة التابعة، وسيستمرّون في «نظريّتهم»، في التعامل مع «دولة إسرائيل» كـ «أساس» ومع فلسطين كممالك متناثرة ومتصارعة، ومع الشعب الفلسطيني كشعب مسكين نؤمّن له وسائل العيش.
إنّه صراع قد يشهد وسيشهد حتماً معارك كثيرة بعد، سيقدّم فيها شعبنا ومقاومته، في فلسطين وخارجها، تضحيات وقد يتعرّض لهزائم. ولكن، لنكن على ثقة بأنّ النصر الحالي سيمهّد، إذا أحسنّا الاستثمار، بفرح شعبنا ولفرح العالم بصموده، سيمهّد لانتصارات تؤسّس لمستقبل فلسطين، كلّ فلسطين، وليس لها فقط بل لعالم عربيّ مختلف.
والآن لنعد إلى دور اليسار...
بداية، لنسجّل حقيقة أنّ اليسار الفلسطيني كان جزءاً فاعلاً في المعركة الأخيرة (والفعاليّة تُقاس بفعل الموجود من إمكانيّة وليس بالمقارنة مع الآخر)، وكان متكاملاً كمقاومة مع كلّ فصائل المقاومة الأخرى. كان فاعلاً في غزّة ودفع الشهداء، كان مشتبكاً في القدس والضفّة ودفع مع أهلها الشهداء والأسرى، وكان فاعلاً في الداخل المحتلّ. كان فاعلاً في الشتات وفي إعادة تكوين الرأي العام العربي والعالمي.
أمّا أحزاب اليسار العربي، بما لديها من إمكانيّات متواضعة، كانت ناشطة ومبادرة في الإعداد للتحرّكات الشعبيّة ومساهمة فيها. والأهمّ القول إنّ أحزاب اليسار في العالم كانت المبادرة لمساندة فلسطينيي الشتات ودعمهم وتنظيم التحركات الداعمة لفلسطين وشعبها، ولعلّ بعضها كان متقدّماً في إعادة تشكيل الوعي العالمي للقضيّة الفلسطينيّة وخاصة في أوروبا. طبعاً ليس وحدهم بل كانوا من الأساسيين.
إذن، لقد حجز اليسار الفلسطيني والعربي والعالمي، مكانه في «المجموعة المتنوّعة» ولم يمنّ عليه أحد في هذا المقعد فهو قد حجزه مع مقاومته التاريخيّة للاستيطان الصهيوني وبعد ذلك في دوره في المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وبالموقف التاريخي لليسار العالمي، رغم كل محاولات التشويه للموقف الشيوعي واليساري.
ولكن هل كان موقف اليسار العربي تحديداً «كافياً»؟ أو كان هنالك ما وجب أن يفعله ولم يقُم به؟ (هو وكثير من القوى القوميّة والتقدّميّة لكن سأكتفي هنا فقط بالإشارة إلى اليسار). لا يكفي أن يكون لنا مكان في التنوّع، المهمّ أن نستطيع توسيع هذا المكان، ليس على حساب الآخر، بل لإعطاء وجهتنا للباراديغم الذاهبة باتجاه التحرير.
موضوعنا المتّصل اليوم هو مفهوم «حركة التحرّر الوطني العربيّة»، هذه الحركة الّتي أخذت في تاريخ الحزب ونضالاته موقع القلب. في النظرة لأزمتها وأزمة البديل فيها، لم ينظر الشيوعيّون لها يوماً من الخارج، فهم جوهر البديل، هم جزء منها وهم بتحالفهم الوطني الحلّ المفترض لأزمتها. وتشكيلهم البديل محكوم بقدرتهم على إنتاج «باراديغمهم» الخاصّ حول حركة التحرّر ومهامها. وهي بكلّ الحالات نظرة ماركسيّة لحركة من نوع جديد، قدّم الشيوعيّون عبر تاريخهم بعض جوانبها. حدّدوا الخطر الرئيسي على شعوب المنطقة، بأنّه السيطرة الأمبرياليّة قديمها والجديد، بدأت بسايكس- بيكو وتتجدّد عبر مشاريع متتالية تستهدف استمرار هذه السيطرة وتأبيدها وبشكل خاص مصادرة ثرواتنا مباشرة أو عبر الخوّة التي تقدّمها الأنظمة برضاها.
الحدّ الثاني لهذه النظرة، هي فلسطين، فتقديم فلسطين للعصابات الصهيونيّة كانت وما زالت جزءاً من المشروع الرأسمالي العالمي لمصادرة الثروات وإخضاع المنطقة. ولذلك فقضيّة فلسطين هي قضيّة حركة التحرّر الوطني بقدر ما هي بالأساس قضيّة الشعب الفلسطيني.
إذا كانت التجزئة هي أداة الاستعمار للسيطرة، فطبيعي أن يكون التكامل (التوحّد في المواجهة)، هو أحد جوانب حركة التحرّر العربيّة المفترضة. وهذا التكامل والوحدة كما رأيناها ونراها، هي وحدة متنوّعة تحافظ على التنوّع المتفاعل وعلى خصائص المجموعات العرقية المتنوّعة واضعاً أمامها خيار تقرير المصير. وهنا حرص اليسار دوماً على التوضيح ««للأقليّات» بأنّ تناقضها ليس مع العرب بل مع من قسّم شعوبها وجعلها متناثرة ومنع عنها حقوقها، فالذي قسّم الأكراد الاستعمار العثماني أولاً ثمّ الأوروبي واليوم يكمل الأميركي المهمّة بادّعائه حمايتهم.
طبعاً لم تقدّم حركة التحرّر بقياداتها السابقة حلّاً ديمقراطياً لهذه المسألة، وعلى اليسار تقديم هذا الحلّ الذي يحافظ على طموح الفقراء في كلّ هذه المجموعات ويضع أمامهم الخيارات التي تحافظ على وجودهم، من الاندماج إلى الحكم الذاتي وصولاً للاستقلال، علماً أنّنا مع خيار الحفاظ على التنوّع ضمن الوحدة ولكن لا يمكن لهذا الخيار أن يكون منتجاً، إلّا بقناعة الجميع، ومحاولات فرض الاندماج بالقوّة لم تنتج إلّا خدمات للمشروع الإمبريالي نفسه.
المكوّن الأساسي الثاني هو فلسطين. لسنا ضيوفاً على القضيّة الفلسطينيّة، كنّا على الدوام جزءاً من مقاومتها، فلسطينيّين وعرباً، فهمّنا للقرار الوطني المستقلّ لم يعنِ يوماً التخلّي عن مهمّة المشاركة في التحرير والمواجهة، بل يعني أنّ الواقع الجغرافي والسياسي لا يعطي للفلسطينيين ميزة «القرار المستقلّ»، بل يضع على عاتقهم العبء الرئيسي في المواجهة، خاصة لفلسطينيي الضفّة وغزّة والداخل المحتلّ.
طبعاً الضلع الثالث وهو الضلع المحدّد في طبيعة حركة التحرّر، هو الضلع الطبقي، لقد تبيّن أنّ تحرير فلسطين وتحرير الثروة العربيّة ومواجهة التقسيم، هي مصلحة الفقراء، بقدر ما هي التجزئة وخلق الكيان الصهيوني وتركيب دويلات وأنظمة التبعيّة والخضوع والخيانة هي مكوّنات المشروع الرأسمالي.
هذه الجوانب لفهم قضية التحرر الوطني، لا تجعل من اليساريين والشيوعيين أصحاب الحق الحصري في حمل مهام التحرير والتحرر، بل تجعل لهم مكاناً ضمن التنوّع له خاصيّته الاجتماعيّة والطبقيّة، عبر رؤيته بأن الاشتراكية هي الحل لمشاكل التجزئة والتحرير والعدالة. وللجميع الحق طبعاً بتقديم رؤيتهم الفكريّة والاجتماعيّة للحلّ، حتى ولو كانت رؤية قومية أو دينيّة (إسلاميّة أو غيرها)، نتكامل مع هذه الرؤى للمقاومة، من دون التخلّي عن رؤيتنا.
نتكامل مع الإنجازات، من دون التخلي عن دورنا الخاص فيها، وفي تحمّل أعبائها وأثمانها.
باختصار، علاقتنا مع قوى المقاومة الأخرى، نحددها ضمن معادلة: «اتفاق دون تبعيّة، اختلاف دون صدام»، وطبعاً هذا يتوقّف أيضاً على نظرة القوى الأخرى وليس علينا فقط.
هذه الجوانب كان قد وضعها «اللقاء اليساري العربي» كخطوات ضروريّة لتكوين نظرتنا ولصياغة مشروعنا الخاص في مواجهة المشروع الإمبريالي الّذي تجدّد مع بوش واستمرّت بعض أشكاله المموّهة مع أوباما وكشف ترامب عن أخطر مراحله.
للأسف، خلال السنوات الماضية، لمسنا الكثير من التراجع عن هذا المستوى وآخر خطوات التراجع هي غياب الاهتمام بمشروع «اللقاء اليساري العربي» والعودة إلى صيغة قديمة هي «بيانات الأحزاب» أو بعض «الأحزاب» أو الأحزاب المنفردة. إنّ هذا التراجع مدعاة للتساؤل حول طبيعته، فهو حتماً ليس «خطوتين إلى الوراء» بهدف المراجعة والتقدّم، بل هو عشر خطوات إلى الوراء يصاحبها خطوات إلى اليمين.
والمؤسف أنّ هذه البيانات عنونت بـ «التضامن مع الشعب الفلسطيني»، أي عنوان يمكن قبوله من قبل الأحزاب اليساريّة في العالم، أمّا بالنسبة إلى الأحزاب الشيوعيّة واليساريّة العربيّة، فهو تراجع عن مضمون فكرة انتمائنا لحركة التحرّر الوطني، وطرح أنفسنا قيادة بديلة لهذه الحركة.
لقد تصرّفت أحزابنا (خارج فلسطين) كـ «متمّم غذائي» وليس كجزء من العلاج. وسوف أطرح سؤالاً وحيداً هو: باستثناء الأردن، كم سفارة للعدوّ حوصرت وكم سفارة لدول التطبيع حوصرت ووجّهت لها رسائل واضحة بهذا الاتجاه؟
نحن بحاجة ماسّة لإعادة النظر بهذه الممارسة وبإعادة الاعتبار للبحث في مشروع يساري موحّد، ضمن إطار «اللقاء اليساري» ومع أحزابه.
اليسار حاجة للمقاومة المتنوّعة، فلا نجعله خارج التنوّع. لقد خرج حزبنا من مقولة «لبنان أولاً»، فلا نعيده لها. لبنان أساسي متغير وديمقراطي في قلب حركة تحرّر وطني من نوع جديد، هكذا أرادها الحزب.
لقد وعى حزبنا، أنّ لا اكتمال للتغيير الديمقراطي في لبنان (وفي أيّ بلد عربيّ آخر) إلّا بتطوّر حالة عربيّة ديمقراطيّة، فيكون التطوّر الداخلي عاملاً مكوّناً للتطوّر العام، ويشكّل التطوّر العربي حاضناً للتغيير الخاص.
لم ننظر يوماً لحركة التحرّر العربيّة من خارجها، فنحن فيها على الدوام، محفّزاً ومطوراً وأحياناً قائداً، وفي إطار هذه الحركة تجسّدت فلسطين «بوصلة دائمة».
أخيراً نحن كيسار، يحقّ لنا، بل يجب علينا الاستثمار بالفرح والبناء عليه...