فبركة عراق لم يوجد بعد؟/3


عبدالامير الركابي
2021 / 6 / 9 - 16:38     

اتسم العصر الحديث ومنذ القرن السادس عشر بتحقق امرين اساسيين ميزا حالة العالم وطبعتاه: انبعات مجتمعية الازدواج الرافدينيه في دورة ثالثة أخيرة، تبعها بلوغ المجتمعية الأحادية اعلى وذروة تجسدها المفضي الى نهايتها، وانقضاء زمن هيمنتها النموذجية والمفهومية، وهما ظاهرتان متلازمتان موحدتان، ماتلبثان ان تتجليان كحالة تصادم اصطراعي مباشر مع بدايات القرن العشرين، وحضور الغرب المباشر العسكري والمفهومي في ارض الرافدين، مؤججا نمط تفاعليه اصطراعية حاسمة، تستمر لقرن من الزمن، قبل ان تبدا بالافصاح عن مكنونها، والكامن خلفها، وطابعها الكوني الانقلابي الشامل، الموصول ببدايات ظاهرة المجتمعات.
والصراع المشار اليه يختتم ب "الوطنية اللاارضوية الثانيه"، فاذا كان لكل مجتمعية شكل تجليها وتعبيريتها، فان ارض الرافدين هي الأخرى تفصح اليوم، وتحت وطاة العامل الحديث الغربي، ووجهته الفاعلة الافنائية للخاصيات المخالفة له، الى عودة عناصر التشكل اللاارضوي المطابق لبنية ارض مابين النهرين، والامر يبدا هنا بالضرورة من نفي الافتراضية الغربيه بشقيها، التي تنسب نفسها للاشتراكية التحررية منها، او تلك التي تلحق الكيانات بالسوق الراسمالية العالمية، ونموذج الدولة الغربيه الحديثة، بالعودة الى الحقيقة ( الوطن /كونيه) المميزه للنمط والكيانيه في هذا الموضع من العالم.
بهذا يكون الاصطراع الغربي الاستعماري المفهومي والنموذجي/ العراقي، اصطراعا "نمطيا"،بين نمطين مجتمعيين مختلفين كينونة وطبيعة، لاكما تقول وطنيات الايديلوجيا التابعة للغرب ونموذجيته، تلك التي تدرج العراق ضمن قائمه المواضع التي تريد التحرر من الغرب بالانتماء للغرب، ولنموذجه ومفاهيمه، وهو مايجمل بشعارات "التحرر الوطني"، وبعد التجلي اللاارضوي خلال الدورتين السالفتين، الأول الابراهيمي، والثاني القرمطي الانتظاري، وتحققهما ضمن اشتراطات الصراعية الازدواجية الداخليه، بإزاء وبالتفاعل مع اكد وبابل أولا، ومع الامويين والعباسيين في الدورة الثانيه الانتقاليه. يتحقق اليوم عبر الصراعية الكونية، وشكل تجلي الارضوية الأعلى الأوربي الحديث، الشكل الثالث الأخير والاكمل من اشكال تعبيرية اللاارضوية المجتمعية عن ذاتها ومكنونها، بما هي صيغة التجلي، والغاية المضمرة الكامنه وراء الظاهرة المجتمعية، وهو مايتحقق ضمن اشتراطات ملائمه للزمن الراهن، ومستوى مابلغته التفاعليه المجتمعية الكوكبيه.
وبدل التحقق الامبراطوري الكياني، الممتنع والدال على العجزعن التحقق تحوليا في الدورتين الأولى والثانيه، تصل اللاارضوية الرافدينيه اليوم، عتبة التحقق بعد توفر، ان لم يكن اكتمال عناصر التحولية المجتمعية، بينما هي تتولد وتنمو متبلورة ضمن اشتراطات كونية غالبة، نموذجها الكاسح الارضوية الأحادية في اعلى واخر اشكال وممكنات تحققها العليا، قبل انتهاء مفعولها المؤقت الذي هو حالة غلبة وطغيان، مستمر منذ انتكاس العملية التحولية في الطور التاريخي الرافديني الأول.
تتغير السردية التاريخيه التصيريه بناء لهذه الزاوية من النظر لتصبح دورات ثلاث، الأولى تفتقر للعنصر المادي للتحول، تتجلى سماويا ابراهيميا، والثانيه امبراطورية عالمية خاضعه لنفس عوامل القصور التحولي، وثالثة هي الراهنه التي تبدا أولا بالصعود الأحادي، الذروة الأعلى، وطغيانها العالمي نموذحا وتفكرا كآخر صيغة تحقق احادي، تنتهي بتبلور اللاارضوية التحولية التاريخيه الراافدينيه، حيث تعود منتقلة الى الكونية الثانيه، بعد الابراهيمية النبوية الحدسية الأولى المنتهية بالختام المحمدي، وتصير قوة لزوم على مستوى المعمورة، بظل، وتحت طائلة حلول زمن "العيش على حافة الفناء"، بعد ان تصير هذه غالبة كونيا وشاملة للمجتمعات البشرية بعمومها.
تنتهي الاصطراعية اللاارضوية الأحادية الاوربية الذروة على ارض الازدواج التحولي بعد عام 1980 ، الى دخول ارض مابين النهرين زمن "العيش على حافة الفناء" الثاني، ومع الحرب العراقية الايرانيه 1980/1988 ابتداء ومفتتحا، فلاتتوقف آليات "العيش على حافة الفناء" حروبا وكوارث كبرى، وانهيارا ت، وشللا شاملا بلا افق، ومكان صيغة "العيش على حافة الفناء " الأولى البيئية الجغرافيه، المتاتية من المجافاة البيئية القصوى، يتعرف العراق اليوم على صيغة من نفس النوع جوهرا، مختلفة عوامل وأسبابا، منها ومعها تتولد محركات تبلور الرؤية التحولية الثانيه العلّيّة، السببيه، أي النهائية التحقية، في الوقت الذي يكون فيه العالم قد صار على حافة الفناء الشامل، والحياة مهددة باسباب الانقراض وزوال الجنس البشري.
وقتها فقط يظهر العراق ليصبح ضرورة حيوية وحقيقة متجهه الى التبلور، وهو مايحصل فعليا ليس بفعل الافتراضات والفبركة الغربيه، ولا الايديلوجيه الببغاوية، بل بالضد منهما، وباعتبار هذه عاملا وحافزا مضادا ومحفزا بفعل افنائيتة، ومايتضمنه من أسباب الغاء وجودي للاخر المخالف، وهو مايتجلى واقعا وعمليا في محطتين، الأولى بين عام 1921/ 1958 وتكون ركيزتها السعي لقلب شكل ملكية الأرض في الريف بدعم غربي مباشر، والثانيه بين 1968/2003 وركيزتها الأساس ريعيه نفطية، وهي ايديلوجيه، يفترض انها مضادة للصيغة الأولى، وتنشأ معادية لها شكلا، تقوم من ثنائية قرابيه/ حزبيه، قاعدتها واساس وجودها التي يتعذر وجودها من دونه كليا، ريعي نفطي، في وقت لاتعود ثمة ممكنات لقيام "دولة" الا به، وهو مااظهرته الثورة التحولية الثانيه غير الناطقة في 14 تموز1858، برغم ماكان سيترتب وترتب عليه ونجم، من انقلاب أساس لاحل له في التوازنات والترتيبات الاقليميه، وفي القواعد المعتمدة الموافقة لاشتراطات مايعرف با لنظام الدولي*.
وليس من قبيل البداهة تصور نمو التبلور اللاارضوي الرافديني الثالث المنطوي على العنصر المادي الضروري للتحول اليوم، من دون انقلابيه كليه، وعملية إزاحة من الاعتبار والتداول، فضلا عن الرسوخ الحالي لمفاهيم الأحادية والارضوية، فالعراق يبدا بالظهور ويصير هو كحقيقة مضمرة مؤجله الإفصاح، وغير مماط اللثام عن منطواها الأساس، مع إقرار حقيقة الانشطار والثنائية التصورية عن العالم والمجتمعات والوجود، بين منظور وتصور ارضوي "انسايواني" جسدي يرى المجتمعات غاية بذاتها، ويمنحها صفة التابيد واللانهاية، واخر يقول بلا ارضوية المجتمعات، وكونها وسيله موجودة لتحقيق غاية، وخاضعه لعمل قوانين ذاهبة لانهاء صلاحيتها، وانهاء ضرورتها ولزومها قبل استقلال العقل عن الجسد، وتحرره، وانتهاء امد السكن الأرضي المؤقت والضروري لاجل اكتمال أسباب التصيرية العقلية الى مابعد جسدية، وهي العملية التي تبدا بالاصل مع انبثاق العقل في الجسد الحيواني.
تعتقد الارضوية التي هي أحادية كينونة ونمطا بالاصل، ان العقل ملحق بالجسد وانه " عضو"من بين بقية "الأعضاء" التي يتشكل منها الجسد، وقد بلغت بحسب دارون والنشويين ذروتها وقمة كمالها( الأعضاء)، فما عادت قابلة للتطور، مع اغفال حالة التصير الجديدة الباقية مستمرة، والتي تبدا وارثة عملية النشوء الجسدي، بدخول العقل اليات التصير، داخل وبالتفاعل مع حامله الجسدي، باعتباره مستوى خلقية نوعية اخراعلى، بعد الجماد، والحياة العضوية الحيوانيه، مضطر موضوعيا للبقاء محمولا من بقايا الطور النشوئي الأسبق الحيواني، بانتظار بلوغ اللازم من أسباب التصيّر الضروري للاستقلال، وفك الازدواج الناشيء مع ثنائية( الجسد/ العقل) الانتقالية، و"الانسايوان" الذي هو حصيلته، ذهابا الى "الانسان"، والعقل المهيأ للطور الحياتي مابعد الأرضي، الحياة الاكوانية العليا.
ومع انقلاب في الرؤية هذه اسسه، لاتعود كل الاشكال المتعارف عليها ارضويا من نظرات وانماط رؤى، وقوانين مفترضة، او هي بموضع التفسير المفترض للظواهر، وبمقدمها المجتمعات والتاريخ، قابلة للسريان، او الاعتماد، ومع بدء تبلورات اللاارضوية ومنظومة رؤيتها للعالم والوجود والاكوان، تتهاوى العلموية واشكال النظر والتفكر الارضوي، وتدخل طور الزوال من التداول، ناهيك عن الاعتماد او التعويل عليها باعتبارها منتج طور قصوري مؤقت للضرورة، مشكل خارج الاليات الفعلية، وتلك الموافقة للديناميات التاريخيه التصيرية اللاارضوية، الذاهبه بالكائن البشري الى "الانسان".
هكذا يأخذ العراق بالتشكل مفهوميا وكحالة ونمط من هنا فصاعدا، وسط اشتراطات مجافية الى ابعد حد يمكن للعقل ان يتخيله، بالاخص مع التراكمات المزدوجة، الذاتيه الموروثة، المتبقية من الدورات السابقة وتفرعاتها الابراهيمه الحدسية النبوية المنتهية الصلاحية، وتلك المتاتيه من خلاصة وقمة الأحادية الارضوية، بحسب صيغتها الايهامية الارضوية الأخيرة الاوربية الحديثة، وانعكاساتها وماتجلى منها من اشكال نظر مترد بمنتهى البدائية الساذجه والالتحاقية الارضوية، من قبل نفر من أبناء موضع في حالة اصطراع مصيري كوني، تجعله مختلفا نوعا عن أي من اشكال الاصطراعية المعروفة على مستوى المعمورة.
فالصراع العراقي الاستعماري النمو جي النمطي الغربي، ليس صراعا محورة وطابعة تحرري استقلالي، بل هو صراع كوني، ولحظة ختام وانتهاء لزمن من طغيان الأحادية الارضوية، أي هو حالة احتدام كوني، بين اللاارضوية المؤجلة الغائبة التي تقترب من الانبثاق، والارضوية الزائله، وقد بلغت ذروة تجليها وارفع اشكال تعبيريتها.
ـ يتبع ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• لاجل توضيح فعل الاليات اللاارضوية كما هي مودعه في التوزع الكياني المجتمعي، والاليات التي تفضي لديمومة اللاارضوية، برغم هشاشتها البنيوية إزاء الاحاديات الارضوية، ماقد ينجم عنه اختفاؤها احيانا، نضع ملحقا ينشر كحلقة مستقلة لاحقا بعنوان "هشاشة اللاارضوية وديمومتها اللاكيانيه؟".