كورونا - أعراض جانبية - الجزء الثاني والأخير


الطاهر المعز
2021 / 6 / 8 - 13:52     

بعض "الأعراض الجانبية" الإقتصادية لكورونا
الجزء الثاني والأخير

هل للرأسمالية وجْهٌ إنساني؟
ارتفعت مُعاناة العاملين والفُقراء بالتوازي مع ارتفاع الإنتاج، وازداد الفَقْر ليفوق عدد الجائعين 950 مليون نسمة، سنة 2010، رغم وَفْرة الغذاء وارتفاع نصيب الفرد من إنتاج الغذاء العالمي بنسبة 17% خلال الفترة 1990- 2010، بحسب بيانات منظمة الأغذية والزراعة- فاو (الأمم المتحدة)، وفي المُقابل، كان 20% من الأثرياء، سنة 1950، يمتلكون نحو 30% من الثروة العالمية، وتضاعفت هذه النسبة، سنة 1992، ليمتلك 20% من الأثرياء، نحو 60% من الثروة العالمية...
ارتفعت ثروة أثرى الأثرياء خلال العام الأول من انتشار وباء كورونا بنسبة 60% في المتوسط، واستفاد أكثر من 85% من أصحاب المليارات من انتشار الوباء، وأصبحوا أكثَرَ ثراءً خلال سنة واحدة، بينما يُعاني 90% من سكان العالم، من العاملين والفُقراء ومُتوسّطي الدّخل من تراجع الدّخل، ومن البطالة القَسْرِية والتّسريح من الوظائف، وتُبيِّنُ الأرقام التي تنشرها بانتظام، مجلّة "فوربس"، أن الأكثر ثراءً يستمدّون ثروتهم من الإستغلال ومن المُضارَبَة في البورصة بالأسهم أو بالمواد الأولية، ومن القوة الإقتصادية والسياسية، ومن القوانين التي تُبيح نَهْبَ المال العام وتوزيعه على الأثرياء، كما تُظهر هذه البيانات استحالة الإثراء السّريع لأي شخص لأنه يعمل أكثر أو لأنه أذْكَى من غيره...
رَوّج الإعلام السّائد صورة مُزَيَّفَة أو مُصْطَنَعة عن "بيل غيتس"، أو "جورج سوروس"، كنموذج "الرأسمالي الطّيّب" الذي أنشأ ثروته بنفسه، بفضل العمل والذّكاء، ولم يَرِثْها عن أُسْرَتِهِ، وخَصّصَ الثروة أو جُزْءًا منها لمُساعَدَة الإنسانية...
كان "جوزيف ستيغليتز" مستشارا اقتصاديًّا للرئيس الأمريكي بيل كلينتون، بين سنتَيْ 1995- 1997، قبل عمله ككبير الخُبراء الإقتصاديين بالبنك العالمي، برتبة نائب الرئيس، من سنة 1997 إلى سنة 2000، وهو حائز على “جائزة مصرف السويد”، المُسمّاة اعتباطًا “جائزة نوبل للإقتصاد”، سنة 2001.
ابتكر (بعد مغادرته البنك العالمي) مُصطلح “الرأسمالية التقدّمية”، وهي بدْعَةٌ تهدف تهدئة الغضب الإجتماعي الناتج عن تعميق الفجوة الطّبقية، واتّساع الهوة بين الأثرياء والفُقراء، ويتلخّصُ مفهوم “الرأسمالية التّقدّمية” في ضرورة “إصلاح الرأسمالية”، لإنقاذها من نتائج أخطائها، ويتم الإنقاذ عبر تقاسم الأدوار بين السُّوق والدّولة، أو ما يَصِفُه “جوزيف ستيغليتز” ب”التفاعل بين القوة الديمقراطية والأسواق”، لتهدئة الغضب الاجتماعي.
تخصَّصَ "جوزيف ستيغليتز" بالتفكير في حالة الرأسمالية المعاصرة وأدائها وتجاوزاتها، ومحاولة “إصلاح أخطائها”، لأنه لا يعتبر الرأسمالية مُنتِجًة للإستغلال الذي يولِّدُ للتفاوت الطبقي، واحتكار الثروات، ولا يعتبر التفاوت الطبقي واتساع الهوة من طبيعة الرأسمالية، بل يعتبرها “تجاوزات” يجب إصلاحها، عبر مزيد من تدخّل الدّولة، وتوزيع بعض الفتات على العُمال والمُنْتِجِين والفُقراء، لتلافي ارتفاع حدة الغضب، ولتلافي الإنفجار الذي قد يُؤَدِّي إلى تقويض أُسُس الرأسمالية…
يمتلك “ستيغليتز” قُدْرَةً هائلة على ملاحظة مظاهر فشل الرأسمالية، في نسختها الليبرالية المُفْرِطة (النيوليبرالية)، ولكنه لا يعتبر ذلك، من كُنْه الرأسمالية، ومن طبيعتها، بل يطرح بعض "التّصْحيحات"، لتفادي حدة التوترات الإجتماعية، التي قد تُؤدّي إلى الإنفجار، خصوصًا في الولايات المتحدة، حيث يعتبر “تَطَرُّف دونالد ترامب خطرًا على أُسُس الأمة الأمريكية”، التي سيطرت على العالم الرأسمالي طيلة عُقُود، و”أثرت تأثيرًا إيجابيا في الإقتصاد الرأسمالي العالمي، وأعطته زخمًا هائلا”، ويعتَبِرُ أن الإقتصاد الأمريكي أُصِيبَ بالتّباطُؤ، وأصبح “غير مُنْتِج”، ويعتمد على رأس المال الأجنبي، فيما زادت حدة الفوارق الإجتماعية، ولكنه يُنَزّهُ النظام الرأسمالي من هذه النتائج، بل “يكمن الخَطأ في خيارات السياسة الاقتصادية النيوليبرالية، التي شَوّهت طبيعة الرأسمالية طيلة أربعة عقود”، ويعني ب”الخيارات”، طريقة تنظيم الإقتصاد (أي إنها قضية “شكل” وليست قضية “مَضْمُون”)، التي جعلت الأسواق تصبح في خدمة مصالح أقلية من الأثرياء، ما يُولِّدُ الإحتكار، بحسب رأيه، بدل ما يُسميها “المنافسة النّزيهة” (وكأن الإحتكار شيء جديد أو طارئ أو دخيل على النظام الرأسمالي، وليس متأصّل)، ويعتبر أن هذه "التّشوّهات" أدّت إلى مأزق خطير، يُهدّدُ بنَسْف “نظامنا السياسي الديمقراطي الأمريكي”، خصوصًا بعد أزمة سنة 2008، في الولايات المتحدة وفي الإتحاد الأوروبي، ويعتقد “ستيغليتز” إن الحل يكمن في العودة إلى “المنافسة النزيهة” أو “المنافسة الحقيقية”، التي ينسب لها محاسن لا تتوفر فيها، مثل “النمو الذي يُنْتِجُ التقدّم ويؤدّي إلى تحقيق العدالة”، وبذلك تكون الرأسمالية (في نَظَرِهِ) في خدمة “المصلحة العامة”، وهو تناقض صارخ، حيث تتناقض المصلحة العامة، وتحقيق العدالة، مع المبادئ الأساسية للرأسمالية المَبْنِيّة على الملكية الفردية والإحتكار واستغلال جُهد العاملين، وعلى تحقيق فائض القيمة من إنتاج العاملين، ومن المُسْتهلِكِين، لتحصل عملية تراكم رأس المال والثّروات…
يدّعي “جوزيف ستيغليتز” وجود “رأسمالية تقدّمية”، حيث تلعب الدّولة دور “الحَكَم”، وهي نظرة مثالية، دافع عنها “”فريدريك هيغل” (1770 – 1831)، وفنّدها “كارل ماركس” و “فريدريك إنغلس”، لأن الدّولة تُمثّل مصالح طبقة، أو ائتلاف طَبَقِي، وتخضع لميزان القوى، ولحسابات استراتيجية، ولا تحمي الأُجَراء والفُقراء، وإنما تضطرُّ لإقرار الحماية الاجتماعية، وإقرار الحوافز، عندما ترتفع وتيرة النضالات العُمالية، وتُقر الدولة زيادة الرواتب والحقوق الإجتماعية، لتجنّب تحويل الغضب إلى ثورة، تقضي على سُلْطَة رأس المال، الذي لا يُمكن وصفه ب”التّقدّمي”، لأن الإستغلال وتحقيق الأرباح، كامن في طبيعة رأس المال، وتتغير حدة ووتيرة الإستغلال، بتغيير حدّة ووتيرة نضالات العُمال والأُجَراء، من أجل بعض الإصلاحات، كالرواتب اللائقة ومعاشات التقاعد والحماية الإجتماعية والصّحّيّة، وغيرها، وهي نضالات قد تتحول إلى ثورة ضد رأس المال، لذلك تُلبِّي البرجوازية (كطَبَقَة اجتماعية) بعض المطالب، وتحاول التّراجع عنها عندما تَحِينُ أول فرصة أو عند أول لحظة ضُعْف الطبقة العاملة…
يلخّص “جوزيف ستيغليتز”، في نهاية كتابه، بعنوان "الشعب والسّلطة والأرباح"، نظريته، ويُعرب عن “ضرورة قُبُول الرأسمالية بعضَ القُيُود، لإنقاذها من أخطائها”، التي تفاقمت بحسب رأيه، خصوصًا منذ 2010، مع تفاقم أزمة الدّيْن العام، والأزمة الاجتماعية، وتدنِّي مستوى عيش ملايين العاملين الفُقراء…
المُقتطفات من كتاب ” الشعب والسلطة والأرباح” – الرأسمالية في عصر الغضب الاجتماعي
تأليف “جوزيف ستيغليتز” -النسخة الفرنسية – أيلول 2019 – الناشر: دار ليبر ليبرتيه ليبرتس...
في بنغلادش، إحدى أفْقَر دول العالم، أسّس "مُحَمّد يونس"، سنة 1976، "غرامين بنك" وهي مؤسسة مالية اختصّت في إقراض مبالغ صغيرة للفُقراء، وحصل على جائزة نوبل للسلام سنة 2006، وهي الجائزة التي حصل عليها العديد من المجرمين من جنرالات وزعماء الإحتلال الصهيوني، وباراك أوباما، ما أفْقَدَها مصداقِيّتها...
يقوم "غرامين بنك" بدراسة دقيقة للمشاريع التي يُقدّمها الفُقراء (خاصة من النساء الفقيرات)، قبل الموافقة على القُروض، ويقترح أحيانا مشاريع دَرَسَها خُبَراؤه مُسبقًا (خياطة أو تربية دواجن ومواشي أو نسيج...)، ثم يُشرف المصرف على كل تفاصيل إنجاز المشروع، لضمان استرجاع القُرُوض وفوائدها التي تفوق بكثير فوائد المصارف التجارية التقليدية، بذريعة عدم وُجُود ضمانات مادّية للمُقترِضين، وأظهرت جميع الدّراسات أن الفُقراء يلتزمون بتسديد الدّيُون أكثر من غيرهم، خصوصًا وأن رقابة "غرامين بنك" لصيقة ودائمة، ولم تُؤَدّ تلك القُروض إلى خُروج أي فقير من حالة الفقْر إلى حالة الثّراء، ولكن يمكن أن ينتقل من حالة الفَقْر المدقع إلى حالة الفقر المُطْلَق.
يحث محمد يونس على خفض الأرباح في فترات الأزمة، وتشجيع المشاريع المُندمجة في محيطها "لِتَتَمَكّن الرأسمالية الإنسانية من قيادة التغيير الإقتصادي والإجتماعي، دون تغيير المنظومة الرأسمالية"، وللحُؤُول دون حُدُوث هَزّات اجتماعية عنيفة، قد تُؤثِّرُ سلبًا على "مناخ الأعمال".
تطور "مصرف غرامين"، بفضل الفوائد المرتفعة للقروض الصغيرة، ليصبح العمود الفقري لمجموعة مالية ضخمة، يرأسها المُؤسّس "محمد يونس" الذي يَدّعي أنه "رأسمالي إنساني"، ورجل أعمال "واعي اجتماعيا"، أي يُدْمج الأعمال ذات الربحية المرتفعة، ببعض النشاطات "غير الربحية" التي تُجَمِّلُ صورة النظام الرأسمالي، وبعض رُموزه...
إن صورة "الرأسمالي الإنساني" أو "الذي صنع ثروته بنفسه" أو "الرأسمالي الخَيِّر"، هي صُورة مُزَيَّفَة، بل خيالية، خلَقتها الإيديولوجيا السّائدة، ويُفَنِّدُها الواقع، لأن لا هدَفَ لرأس المال سوى الرّبح.
ينتقي الإعلام السائد بعض النّماذج من الرّأسماليين لِيُقَدّمهم للجمهور كنموذج للرأسمالي الإنساني، الذي يُموّل بعض الأعمال الخيرية ويُكرّسُ جزءًا من وقته الثمين ومن مالِه الوفير، لمُساعدة الفُقراء، وتَظْهَرُ بعض الأسماء والرّموز، خلال فترات الأزمات، كما حال "بيل غيتس" و "جورج سوروس"...
يبدو الملياردير "بيل غيتس" مختلفًا في الظّاهر عن النيوليبراليين التقليديين الجَشِعِين، وهو في الواقع رأسمالي يُحقّقُ أرباحًا ضَخْمَة تحت ستار إنساني، بالتّحالف مع شركات المُختبرات والأدوية، وبالتواطؤ مع أجهزة الدُّول التي تشتري اللقاحات والأدوية، فعندما يرتفع عدد الفُقراء الذين لا يستطيعون تسديد ثمن الأدوية واللقاحات، تلجأ الشركات للبحث عن زبائن جُدُد، أي الدّول التي تُسدد ثمن اللقاحات والعقاقير، ثم تستعيد ثمن ما سَدّدته، من الضرائب على الدّخل وعلى الإستهلاك، بدَل فرض الضّرائب على الشركات التي تحقق أرباحًا ضخمة، بالاستفادة من ميزانية الدولة، لزيادة الطلب وتلبية الاحتياجات غير المُلَبّاة لمواطني البلدان "النامية"، بالإضافة إلى زيادة الطلب في البلدان الرأسمالية المنتقدّمة.
تتلخّصُ الفكرة التي رَوّجها الإعلام السائد في أن "بيل غيتس" يستخدم اللقاحات للقضاء على وباء كورونا لدى الفقراء الذين لا يستطيعون تسديد ثمن اللقاحات، ولا يذكر الإعلام أن مؤسسة "بيل غيتس" أجرت (منذ 18 تشرين الأول/اكتوبر 2019، أي مباشرة بعد انتشار الوباء بالصّين) مُشاورات، مع رُمُوز المنتدى الإقتصادي العالمي من مديري الشركات الكُبرى والوزراء الحاليين والسابقين وضُبّاط الجيش الأمريكي، وحلف شمال الأطلسي، ومُديري المنظمات "الخَيْرِيّة" الكبيرة، للبحث عن حل للأزمة الرأسمالية التي سوف يفاقِمُها انتشار الوباء، واتفق المُجتمعون على الطريقة التي تُعالج أزمة الاقتصاد العالمي، من خلال تعاون الشركات الخاصة مع أجهزة الدّوَل، للخروج من الأزمة، عبر خَلْق الطلب، فيقوم القطاع الخاص بتزويد الدولة بالسلع وخاصة الأدوية، دون أن يكون للمواطنين اختيار السلعة أو الدّواء الذي يُفضِّلُونه (تدّعي الرأسمالية أن حرية الإختيار تُشكّل إحدى أُسُس النظام الرّأسمالي)، لتفرض الدّولة بدورها ضرائب على دَخْل واستهلاك المواطنين...
اشتهر "بيل غيتس" بالرّيادة في مجال الإستثمار الرأسمالي، وتصفه مجلة "فوربس" بأنه المُستثمر الأوسَعَ أُفُقًا، فهو يُخطّط لِعُقُود قادمة، وليس لسنوات قليلة.
إن مؤسسة بيل غيتس لا تهتم برفاهية العالم أو بِصِحّة الفُقراء، إذا لم تَكُن مُدِرَّةً للرّبح، وبدل العمل كشركة احتكارية تقليدية، عابرة للقارات، أصبحت تعمل على تنظيم لقاءات بين الرؤساء التنفيذيين والحكومات معًا ، لِعَقْدِ صفقات تُمكّن الشركات، التي اشترت مؤسسة بيل غيتس أسهما بها، من ضمان عائد مُريح لاستثماراتها، فيما لم تعد الحكومات ولا المؤسسات النيابية تُثير بمبدأ "تَضارُب المصالح" في الصّفقات والتعاملات التجارية، بعد أن تمكّنت الشركات من تحوير قوانين الدّول الرأسمالية المتقدمة، ليُصبح الفساد قانونيًّا، وقياسًا على ذلك، فإن "بيل غيتس" لا يُقدّم أي مساعدة إنسانية لصالح المرضى أو الفُقراء في العالم، بل يستثمر في شركات الغذاء والأدوية، ويضمن لها تَوَفُّرَ الإستثمارات وترويج الإنتاج في السوق العالمية الضّخمَة، بضمانات من الحكومات، أي من المال العام، ومن ضرائب الأُجَراء والمُسْتَهْلِكِين، بعد القضاء على الطّب الإجتماعي، وخصخصة قطاع الصّحّة العامّة.
في مجال التّغذية، يدّعي "بيل غيتس" مكافحَة الجُوع، عبر التّرْوِيج للكائنات المُعَدّلَة وراثيًّا، والمبيدات والمواد الكيماوية الضّارّة، وتكبيل صغار المُزارعين بالدّيون، وتلتقي أهداف الملياردير "مُحمّد يونس" مع اهداف زميله "بيل غيتس"، من خلال تمويل مشاريع الفُقراء بقُرُوض مُتناهية الصِّغَر، التي يندرج ضمن خطّة "الشّمول المالي"، وإدماج ذوي الدّخل المنخفض في النظام المالي، والمنظومة المَصْرِفية، عبر القُروض (يُشترط أن يكون للمُقترِض حساب مصرفي)، ولئن كان دخل الفُقراء ضعيفًا فإن عددهم كبير، ما يُمكّن المصارف والرّأسماليين من الإستفادة من تجميع هذه الأموال لتحقيق أرباح إضافية...

ما العلاقة بين تفاقم عدم المساواة والثراء الفاحش وانخفاض نسبة الفالئدة:
أشار العديد من الباحثين (غير الإشتراكيين)، مثل الأمريكي "كارول كوينغلي" (1910 – 1977)، ومن بعده بعُقُود، الفرنسي "توماس بيكيتي" إلى تسارع الاتجاه نحو مزيد من عدم المساواة الاقتصادية، وإلى تَغَوُّل الشركات العابرة للقارات، التي تُريد إلغاء الشعوب والدّول وتحويل العالم إلى ساحة استثمارات تَدُرُّ أرباحًا مرتفعة، وأشار هؤلاء إلى النظام غير العادل للضريبة، الذي يُساعد الشركات الكُبرى على تضخيم أرباحها، وعلى زيادة ثروة أثرى الأثرياء، مثل بيل غيتس وجيف بيزوس ووارن بافيت، حيث يمتلك ثلاثتهم ثروة تفوق ثروة أكثر من 50% من الأمريكيين الفقراء، وتتصدّرُ الولايات المتحدة بلدان العالم في مستويات التفاوت في الدخل، بينما ظل الحد الأدنى الإتحادي للأجور ثابتًا عند 7,25 دولارًا لساعة عمل، منذ العام 2009، ما يؤكّد أن عدم المساواة في الدخل والثروة، هو نتيجة مباشرة للسياسات التي اتبعتها الحكومات، على مدى عُقُود، إذ أصبحت الحكومات، منذ أكثر من أربعة عُقُود، تدعم الشركات الكبرى عبر التحفيزات (الإعانات) الضريبية والإلغاء التّدريجي لسُلّم الضريبة التّصاعُدِيّة، وخفض الإنفاق الحكومي على المشاريع العامة، بالتوازي مع الفُقّاعات المالية التي خلقتها المصارف المركزية في أوروبا وأمريكا الشمالية، تحت إسم "التّيْسِير النّقدي"، من خلال الحصول على كميات كبيرة من السندات الحكومية والأوراق المالية الأخرى، مثل الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، مع خفض نسبة الفائدة، ما أضرّ بصغار المُدّخِرِين والمُتقاعدين وما خفض مستوى عيش الأُجراء والطلاب الذين يضطرون إلى الإقتراض لمتابعة دراستهم الجامعية، في ظل انخفاض فُرص العمل بعد التّخرُّج من الجامعة، وانخفاض الرواتب...
خفضت إدارة الرئيس "دونالد ترامب"، في كانون الأول 2017، مُعدّل ضريبة أثرى الأثرياء، من أفراد وشركات، لفترة عشر سنوات، بقيمة 1,5 تريليون دولارا، ثم أقرّت إدارة الرئيس "جوزيف بايدن"، في بداية الفترة الرئاسية، سنة 2021، مِنَحًا "لتحفيز الإقتصاد"، بقيمة 1,9 تريليون دولارا، وأظهرت التجارب أن الشركات لا تستثمر عوائدها الضريبية في تطوير المصانع أو الآلات أو زيادة رواتب العاملين، بل في إعادة شراء أسهمها الخاصة، فتخلق بذلك طَلَبًا مُزَيّفًا على أسهمها، ويرتفع بذلك ثمنها. أما الدّولة (في الولايات المتحدة أو أوروبا) فقد اقترضت أموالاً لمواجهة العجز النّاجم عن انخفاض مواردها من الضّرائب، ليرتفع حجم الدّيْن العام الذي يُسدّده الأُجراء والعُمال والفئات المتوسطة، لتتعمّق بذلك الفوارق بين الأثرياء الذي لا يُسدّدون الضرائب، بل يحصلون على المال العام، والكادحين الذين يُمَوِّلُون خزينة الدّولة، ليستفيد منها الأثرياء، كما تَرَافَقَ تركيز الدخل والثروة (لدى أثْرَى الأثرياء) مع نمو القطاع المالي بمعدل أسرع بكثير من نمو الاقتصاد الحقيقي، ومع نمو الناتج المحلي الإجمالي (أي مُجْمَل ما تُنتجه أي بلاد من سلع وخدمات)، ما يبطئ النمو الاقتصادي، وما قد يُسبّب أزمات مالية ورُكودًا اقتصاديا...

الفجوة الطبقية في العالم:
لا تزال فجوة الدخل حول العالم ضخمة، وقدّرت بيانات البنك العالمي لسنة 2019، نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة، بنحو 65000 دولار سنويًا، و44400 دولارا في بلدان الإتحاد الأوروبي، بينما يبلغ 1100 دولار في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ويبلغ 16100 دولارا للفرد في الصين، سنة 2019، ويصل متوسط الدّخل الفردي العالمي إلى 16900 دولارا (تُحْتَسَبُ القيمة "بتعادل القُوّة الشرائية).
تتركز الثروة في البلدان الرأسمالية المتقدّمة (الإمبريالية)، لكن توجد بعض الدول الصغيرة، ذات الإقتصاد الريعي (وليس الإنتاجي) ضمن قائمة الدول الأكثر ثراءً (سنغافورة والإمارات...)،
لا تزال الولايات المتحدة أغنى دولة رئيسية في العالم حيث قُدِّرَ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 62500 دولار، سنة 2020، أما في المناطق الأكثر فقرًا، فلا يتجاوز متوسط الدّخل6300 دولارا للفرد، سنويّا، بجنوب آسيا، و3800 دولارا بأفريقيا جنوب الصحراء، و 6800 دولارا بالهند و 5100 دولارا في نيجيريا ويبلغ متوسط دخل سكان جمهورية الكونغو الديمقراطية 15 مرة أقل من المتوسط العالمي و 57 مرة أقل من الولايات المتحدة...
ملاحظة: يقيس إجمالي الناتج المحلي للفرد (أو الدّخل الفردي السنوي) تكوين الثروة داخل بلد ما مقسومًا على عدد سكانه.
في التفاصيل، وبالنسبة للأفراد، يمتلك 0,9% من سُكّان العالم نحو نصف ثروة العالم، بحسب مصرف "كريدي سويس" (18 أيلول/سبتمبر 2020) ويمتلك 47 مليون شخص نحو 45% من إجمالي الثروة الخاصة (للأفراد ) بالعالم، وتشمل الثروة العقارات والأُصُول المالية، ويمتلك نحو 10% من أثرياء العالم نحو 83% من الثروة العالمية، فيما لا يمتلك 57% من سكّان العالم، سوى أقل من 2% من الثروة العالمية للأفراد، بنهاية سنة 2019.
ارتفعت - على مدى السنوات العشر الماضية - حصة أغني 1% من الثروة العالمية من 41,7% سنة 2008 (سنة الأزمة) إلى حوالي 45% سنة 2019، ولم يحص ارتفاع الثروة عبر الإستثمار في الصناعة أو القطاعات المُنْتِجَة، بل عبر المُضارَبَة بالبورصة، وفي المقابل يعيش 10% من سكّان العالم تحت خط الفقر، أي بأقل من 1,9 دولارا للفرد في اليوم.
ازداد تراكُمُ الثروة لدى عدد قليل من سُكّان البلدان الغنية في أوروبا وأمريكا الشمالية، مع حفنة من سكان البلدان منخفضة أو متوسطة الدّخل، بالتوازي مع ارتفاع عدد المُعَطَّلِين عن العمل والفُقراء وفاقدي المأوَى، خاصة في البلدان "النّامية" (الفقيرة)، حيث تضاعف نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي، في بعض هذه البُلدان (في جنوب وشرق آسيا)، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، لكن مستوى العيش لا يزال دون مستوى معيشة الدول الغنية في أوروبا وأمريكا الشمالية ، إذ لم يتجاوز متوسط الدّخل الفردي 6268 دولارا، سنة 2019، بحسب مؤشرات البنك العالمي، أما المناطق الفقيرة الأخرى في العالم فلم تشهد هذه الزيادة في الدّخل، ولا تعني زيادة حجم الدّخل الفردي، تحسّن وضع الأفراد والأُسَر، حيث لا تَصحّ المقارنة سوى بمقارنة مستوى الأسعار، والوصول إلى الخدمات الأساسية...
في الوطن العربي (رغم وَفْرة المحروقات والمواد الأوّلية كالفوسفات والحديد)، كان النمو بطيئًا خلال العقدَيْن الأَوّلَيْن من القرن الواحد والعشرين، وارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 42% (بينما تضَاعَفَ في جنوب وشرق آسيا ومنطقة المحيط الهادئ)، وارتفع بنسبة 44% بإفريقيا، حيث لا يتجاوز متوسط الدّخل الفردي 3782 دولارا، سنة 2019، بدول جنوب الصّحراء الكبْرى، وبنسبة 32% في أمريكا الجنوبية ومنطقة بحر الكاريبي، وعمومًا تظلُّ أمريكا الشمالية والإتحاد الأوروبي، أي مهد الرأسمالية، الأغنى في العالم، بفضل نَهْبِ شركاتها العابرة للقارات، ثروات الدّول الفقيرة، التي تُمثل نحو 70% من سكان العالم، ولكنها واقعة تحت الهيمنة الإمبريالية، ما عَمّقَ الفجوة بين سكان البلدان الغنية وسكان البلدان الفقيرة...
تُشكل الصين حالةً فريدةً، حيث نما نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 3207 دولارا سنة 1999، إلى 16117 سنة 2019، وعلى سبيل المقارنة وصل متوسط الدّخل الفردي السنوي بروسيا، نحو 27 ألف دولارا، سنة 2019.
في أمريكا الجنوبية، انخفض مستوى الدّخل في بعض البُلْدان، وارتفع بنسبٍ صغيرة، طيلة عشرين سنة في بلدان أخرى، مثل البرازيل (+ 30%) والمكسيك ( + 15%)
ما هذه النِّسَب والأرقام سوى مُؤَشِّرات، وجب استخدامُها بحذر وبرؤية ناقِدَة، فهي لا تعني البتّة تقاربًا في مستويات المعيشة، بين دول فقيرة وأخرى غنية، وقد تخفي عبارة "مُعدّل" أو "متوسط الدّخل" تفاوتًا طبقيا كبيرًا، ناجمًا عن التوزيع غير المتكافئ للثروة، ونادرًا ما تتراكم الثروة بالعمَل، وكثيرًا ما تتراكم بالميراث، وبالحَيْف الضّريبي والتّحايُل على القوانين (التي تكون عادةً فير صالح الأثرياء) واستغلال العاملين...
قد تكون الأرقام الجافّة مُظَلِّلَة، وقد تكون النسبة المائوية لزيادة الدخل الفردي السنوي كبيرة، لكن نصيب الفرد من الثروة لم يرتفع كثيرًا، أو أن قيمة الزيادة أقل من قيمة زيادة أسعار إيجار المسكن وفاتورة الطاقة والرعاية الصحية، وقد يرتفع نصيب الفرد حجْمًا لكنه لا يرتفع من حيث القيمة...
إن نمو البلدان الفقيرة لا يعني تقاربًا عالميًّا في مستويات المعيشة، فلا تزال الفوارق هائلة بين مختلف مناطق العالم، بين الدّول الرأسمالية العريقة (الإمبريالية) والدّول الفقيرة، التي خرجت من الإستعمار المباشر، لتقع في الهيمنة والإستعمار "النّاعم"، كالإستعمار الإقتصادي، ولا يمكن الحديث عن المساواة دون تحقيق شروط التوزيع العادل للثروات في داخل كل بلد، كما على الصعيد العالمي...
طَرَح مُفكِّرو الثورة الفرنسية (1789)، ثم "كمونة باريس" (بلدية مدينة باريس - 1871) أسباب وعلاج عدم المُساواة الإقتصادية والإجتماعية، في القانون وفي الواقع اليومي، وانتصر دعاة "حرية السوق" وعدم تدخل الدولة لتصحيح وضع التفاوت المجحف، لكن تمّت مناقشة مسألة الضريبة التصاعدية على الدخل، التي وقع إقرارها سنة 1909 في بريطانيا، وسنة 1913 في الولايات المتحدة،ة وسنة 1914 بفرنسا، ووقع طرح هذه المسألة من جديد، خلال أزمة 1929، وخلال أو بعْدَ الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت الحكومات فرض ضرائب على الأصول بشكل تدريجي (ضريبة الميراث وضريبة على العقارات...)، ورفضت دول رأسمالية عديدة فرض الضرائب على رأس المال وعلى الثروات الكبيرة، بذريعة الوقاية من الإحتيال ومن تهريب الأموال إلى "الملاذات الضريبية"...
حارب الأثرياء والحكومات التي تُمثِّلُهم، الإنفاق الإجتماعي، الذي حصل عليه المواطنون بنضالاتهم، وهو أحد أشكال إعادة توزيع الثّروة، لصالح العاملين بالأجر والسكان الفقراء، وتعميم الحماية الاجتماعية للعمال وأُسَرِهم، ويدّعي الأثرياء واليمين المتطرف أن الإنفاق الإجتماعي يعادل "الحث على الكَسَل"، وتمكّن العاملون من الحصول على بعض المُكتسبات (التي بدأت تتلاشى حاليا) منها أنْظِمَة التأمين الإجتماعي والصّحي (الوقاية والمرض وحوادث العمل)، وجرايات التقاعد والبطالة، ما يُمكّن العاملين من اتّقاء الفَقْر، وربما، لذلك، يبتعدون عن الأفكار الثّورية والشيوعية...
كان للنضالات العُمالية والنقابات والأحزاب الشيوعية والإشتراكية دَوْرٌ في إقرار سياسات الضريبة التّصاعُدية والإنفاق الإجتماعي، والرعاية الصحية والتّعليم المَجانِيّيْن، ومنذ "وفاق واشنطن" (اجتماع صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وأكبر الشركات العابرة للقارات ورؤساء المصارف المركزية للدول الإمبريالية، في حزيران/يونيو سنة 1989 من أجل إقرار برنامج نيوليبرالي يتم فَرْضُهُ على كافة بُلدان العالم)، ومنذ انهيار الإتحاد السوفييتي، وقع التّخلِّي عن تدخُّل الدّولة في تصحيح الوضع الإقتصادي والإجتماعي، فارتفع حجم الضرائب غير المباشرة (على الإستهلاك وليس على الدّخل)، منذ العقْدَيْن الأخِيرَيْن للقرن العشرين، واتجهت مبالغ الإيرادات الضريبية لتمويل ميزانية التّسَلُّح والأمن، فيما انخفض الإنفاق الحُكُومي على التعليم والصّحّة والسّكَن والنّقل العمومي، وأصبح أرباب العمل يفرضون العقود الهشة والمُؤقّتة والعمل بدوام جُزْئي ويُحاولون التّخلّص من بعض المُكتسبات العمالية مثل الإجازات مدفوعة الأجر، وتقليص وقت العمل، والعقود الجماعية والزيادة الآلية للرواتب، وكذلك الحق في الضمان الاجتماعي والعمل والصحة والتعليم، التي وقع إدراجُها ضمن حقوق الإنسان الأساسية...
لم يتكرّم أرباب العمل والأثرياء، والحُكومات التي تُمثِّلُ مصالحهم، بهديّة للعاملين، بل فَرَضت الطّبقة العاملة، عبر نضالاتها، بعض الحُقُوق، وفَرَضَ ميزان القوى المحلي والعالمي سياسات إعادة التوزيع المالي والاجتماعي، خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال مرحلة إعادة بناء اقتصاد البلدان الأوروبية، واليابان.
تأسست قواعد مرحلة النظام الرأسمالي لما بعد الحرب العالمية الثانية في مؤتمر "فيلادلفيا" سنة 1944 (أي قبل نهاية الحرب) وفي لقاء "بريتن وودز" سنة 1944 أيضًا (تأسيس صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي)، ليعتمد مستقبل الديمقراطيات الليبرالية (بعد فترة الفاشية والنّازية) على قدرتها على ضمان حد أدنى من الرفاهية للمواطنين، واكتمل تأسيس تلك المرحلة سنة 1948 عند تبنِّي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والحق في الضمان الاجتماعي والعمل والصحة والتعليم ضمن حقوق الإنسان الأساسية، ليبدو النظام الرأسمالي أكثر جاذبية من النظام الشيوعي، لكن هذه المرحلة انتهت بانهيار الإتحاد السوفييتي، غير أن عوامل عديدة، تُشير إلى تعزيز الهيمنة الأمريكية، من خلال دَعْم وتوسيع حلف شمال الأطلسي (بدل حَلِّهِ وإنهاء وجوده) وعسكرة السياسة الخارجية الأمريكية، ومُضاعفة العُدْوانية العسكرية، وفَرْضِ هيمنة القُطب الواحد، وبالتوازي مع ذلك تقلّصت مكاسب العاملين، وأصبح شعار "ضمان الحد الأدنى من الرفاهية للمواطنين"، في خَبَرِ كان.
ترتبط السياسة الاجتماعية ارتباطًا وثيقًا بشكل الحُكْم الذي قد ينحاز إلى الأثرياء فيهِبُهُم مال الشعب، ويُخفض الرسوم والضرائب على رأس المال، أو ينحاز إلى العاملين والفُقراء، فيرفع الضرائب على الثروة لتمويل الإنفاق الإجتماعي والتعليم المجاني والرعاية الصحية والمسكن اللائق، والمُساواة بين الذكور والإناث، وغيرها من السياسات الاجتماعية، بهدف تحسين ظروف حياة السكان، وهي ليست سياسات اشتراكية، وإنما مُجرّد إجراء للتخفيف من الفوارق الطّبقية، وشراء السِّلْم الإجتماعي، عندما تكون النقابات والأحزاب الإشتِراكية والشيوعية قوية.

خاتمة:
لا يُمثّل الرأسماليون، عَدَدِيًّا، سوى جُزْءًا صغيرا جدّا من المجتمعات، لكنهم يستمدّون سلطاتهم الواسعة من مِلْكِيّتهم لأدوات الإنتاج والثّروات، حيث يمتلك 1% من السُكّان البالغين في العالم، ما يُقارب نصف الثروة العالمية، ما يجعلهم يُسيْطرون على القرار السياسي وعلى الحُكومات، وعلى النظام البرلماني الذي يُقِرُّ القوانين، وعلى وسائل الإعلام لترويج الإيديولوجية السّائدة، في حين تُمثّل الطبقة العاملة، التي لا يملك أفرادها سوى قُوّة عملهم، حوالي 2,5 مليار إنسان من البالغين الذين لا يمتلكون، مع حوالي مليار آخر من صغار المُزارعين ومن الفُقراء، سوى 1% تقريبًا من ثروات العالم التي أنتجوها بفضل عملهم وجُهُودهم، لأن الرأسماليين والأثرياء لا يعملون بل يُؤَجِّرُون جُهْدَ العاملين الخالقين للثروة، كما يدفعون بأبناء العُمّال والفلاحين والفُقراء من السود والبيض وغيرهم، ومن النساء والرجال، من مختلف الدّيانات والأعراق إلى جبهات الحُرُوب العدوانية التي تُطلقها الرأسمالية الإحتكارية، من أجل نَهْبِ ثروات الشعوب، أو السيطرة على المواقع الإستراتيجية، حيث توجد موارد الطاقة والثروات المنجمية أو المَمَرّات والطُرقات التجارية الإستراتيجية، وما إلى ذلك...
في تشرين الأول/أكتوبر 2019 ، قبل الأزمة الصحية ببضعة شُهُور، توقع خُبراء الإقتصاد والمال نموًا منتظمًا، لكنه معتدل جدًا مقارنة بالسنوات السابقة، لكنهم خفضوا توقعاتهم، في بداية نيسان/أبريل 2020 ليشمل الخفض سنة 2020 وسنة 2021...
تسببت الأزمة الصحية الناجمة عن فيروس كورونا، في آذار/مارس ونيسان/أبريل 2020، في سلسلة من الانهيارات التي أثرت في نفس الوقت على جميع أسواق الأسهم العالمية، وكانت هذه الصّدَمات أقل قوة في الصين التي تمكنت بسرعة من احتواء فيروس كورونا، وكانت أكثر قوة في الاقتصادات الكبرى كالولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي وبريطانيا المملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، فانخفض مؤشر ( S&P500 ) الأمريكي، الذي يضم أكبر 500 شركة رأسمالية مُدْرَجَة في البورصة، بنسبة 34% في ىلاثالث والعشرين من آذار/مارس 2020.
أدت تدابير الاحتواء إلى تراجع النمو الاقتصادي سنة 2020، وقد مكّن التحسن التدريجي في الظروف الصحية من العودة إلى النشاط الاقتصادي مع حدوث تغييرات لها عواقب وخيمة على العمال، إذ تأثرت قطاعات بأكملها، مثل تجارة التجزئة والفنادق والمطاعم وصناعة النسيج والملابس، وقطاعات النّقل والسياحة، والثقافة والتّرفيه، ما تسبب بتسريح الملايين من العمال، وبتدهْوُر وضع النساء العاملات، في حين نما قطاع البيع عن بُعْد والتوصيل (الذي لا يتطلب مهارات خاصة)، واضطر العديد من العمال الذين فقدوا وظائفهم إلى ممارسة أنشطة هامشية وتتطلب "مرونة"، أي ساعات عمل بدون حساب، وبدون حماية اجتماعية، مُقابل دخل ضعيف، فيما ازداد اعتماد النساء المُسرّحات على دخل الأزواج وأفراد الأُسْرة من الرجال، وازداد معه حجم العمل المنزلي المجاني ورعاية الأطفال والمُسِنِّين والمَرْضى، بسبب الحجر الصحي وتكدّس أفراد الأُسْرة في المنزل، وبذلك يكون الوباء قد عزّز من هشاشة الرجال والنساء من الطبقة العاملة، وتفاقمت البطالة بين الشباب (بغض النّظر عن مستوى التعليم) سنة 2020، وتشجعهم الحكومات والإعلام الرّسمي على "إنشاء أعمالهم ووظائفهم، بدل البحث عن عمل مأجور".
تعيد الرأسمالية هيكلة نفسها باستمرار، وأدّى انتشار جائحة "كوفيد -19" إلى تسريع إعادة الهيكلة، من خلال "المرونة"، ورقمنة الاقتصاد، وزيادة مبيعات الإنترنت، والقضاء على العديد من الأسواق والشركات، وانتشار العمل عن بعد، ويمكن أن تُسَبِّبَ إعادة الهيكلة هذه، إلغاء عدة قطاعات (محلات تجارية، مكتبات وإنتاج ثقافي، ومقاهي ومطاعم)، ما يجعل الطبقة العاملة والكادحين يواجهون تحدّيات هامة، في ظل التغييرات التي تطرأ على النشاط الإقتصادي والقوانين والتأمين الإجتماعي، وكان (ولا يزال) الكادحون وصغار المنتجين، أكبر المُتأثّرِين بنتائج وباء "كوفيد 19" وبالأزمة التي نتجت عنه، وبتوزيع المال العام على الأثرياء وأرباب العمل، في حين يُعاني العاملون والفقراء من ظروف العمل والنقل السيئة، وكذلك من التّسريح ومن تقهقر الحقوق الإجتماعية المُكتَسَبَة على مدى عُقُود، وأُصيب قسم هام من العاملين بالفيروس، بسبب ظروف النّقل وظروف العمل، ناهيك عن العاملين بالقطاع غير النّظامي (الإقتصاد المُوازِي) الذين فقدُوا مصدر عيشهم، فأصبحوا عاجزين عن تسديد إيجار المسكن ونفقات الرعاية الصحية ومختلف خدمات الكهرباء والماء وغيرها، كما تدهْوَرَ وضع الفئات متوسطة الدّخل التي استدانت لشراء مسكن أو سيارة، أو تجهيزات أخرى...
أما الأثرياء وأرباب العمل وأصحاب الشركات، الذين استفادوا من المال العام، ومن خفض الضرائب، ضمْن برنامج الإنقاذ الإقتصادي الضّخْم (مَرّتَيْن خلال عشر سنوات)، فلم يستثمروا السيولة المَمْنُوحة لهم (من عَرَقِ الكادحين) للإستثمار في قطاعات منتجة، أو لتحسين ظروف العمل والإنتاج، بل استثمرها معظمهم في المُضاربة بالأسْهُم في البورصة، فيما استخدمت شركات المُخْتَبَرات والأدْوية المال العام لإنتاج أدوية ولقاحات تَجْنِي منها أرباحًا كبيرة، لأن الحكومات ترفض ضخ الأموال في إنتاج لقاح وتقوم بتسديد تسبقات مالية، لشراء مئات الملايين من الجرعات من شركات القطاع الخاص، كما سجّلت بعض الشركات الكبرى (التكنولوجيا والإتصالات...) نموًّا كبيرًا، لكن ذلك لم يكن مَرْفُوقًا بزيادة عدد العاملين، بل انخفَضَ عددهم أحيانًا، مع تقَهْقُر الحقوق الإجتماعية...
توقّعَ تقرير البنك العالمي (نهاية آذار/مارس 2020) ارتفاع عدد الفُقراء، نتيجة انتشار وباء كوفيد 19، ليزداد عدد ضحايا الفَقْر المدقع بأكثر من مائة مليون شخص، خلال سنتَيْ 2020 و 2021، ولكن لا تَتّسم أرقام البنك العالمي بالجِدِّيّة ولا بالمصداقية...
يُقدِّرُ البنك العالمي عدد الفُقَراء ونسْبَتَهُم من مجموع سكان أي بلد، اعتمادًا على بيانات الحكومات، ومعظمها غير موثوق، بل مشبوه، أو على مَسْحٍ يقتصر على عدد محدود جدًّا من الأشخاص والأُسَر، وحَدّدَ البنك العالمي مبلغ 1,9 دولارا يوميا للفرد، كَخَطّ فاصل بين الفَقْر المُطلَق والفَقْر المُدْقَع، في البلدان الفقيرة، وهو مبلغ منخفض جدا. بالإضافة إلى ذلك، سبق أن أعلن البنك العالمي، قبل عشر سنوات، "نسيان" أربعمائة مليون فقير يعيشون تحت خط الفقر، سنة 2008، ليرفع عدد الفقراء في الدول الفقيرة، من مليار إلى 1,4 مليار شخص، ورغم ما يُلاحظه الناس وما يعيشونه يوميّا من بؤس وحرمان من المَسْكن ومن العلاج ومن الغذاء، يدّعي البنك العالمي استقرار أو انخفاض عدد الفُقراء في العالم، وفي الدّول الفقيرة بشكل خاص، بهدف تطويع مختلف البيانات (غير الموثوقة) لصالح السياسات النيوليبرالية التي يدعو لها، مع صندوق النقد الدّولي ومنظمة التجارة العالمية، فيدّعِي أنها مَكّنتْ من خفض عدد الفُقَراء، رغم سياسات التّقشّف وإلغاء دعم الطاقة والنقل والسّلع والخَدَمات الأساسية، وهي سياسات أدّت إلى تدهور ملايين المواطنين من العُمّال وصغار المُزارعين والأُجَراء والكادحين والفُقراء، في العديد من مناطق العالم...
إن الإجراءات التي تتخذها حكومات الدّول الرأسمالية المُتطوِّرَة، لزيادة الميزانيات العامة عبر الإستدانة، وعجز الميزانية، وزيادة ضخ السيولة من قِبَلِ المصارف المركزية، لا تهدف تغيير الهيكل الاقتصادي الذي كان موجودًا عندما اندلاع أزمة انتشار وباء "كوفيد 19"، بل تُشكّل الدُّيُون حلاًّ مُؤقّتًا، قبل أن تعود الحكومات إلى تطبيق سياسات التقشف، بعد سنة واحدة أو اثنَتْين...
أما الدّول الفقيرة فلَنْ تَتَمَكّنَ من الخروج من بَوْتَقَةِ التّبَعِيّة والدّيون الخارجية دون تطبيق سياسات حمائية (حماية السّوق والإنتاج المحلي) والتّعويض التّدريجي للسّلع المُستوردة بإنتاج مَحلِّي، قد يكون أقل كَفَاءَةً في البداية، لكنه يُساعد على القَطْع مع الرأسمالية العالمية، وعلى الإستقلال، بمعنى عدم التّبَعِيّة الإقتصادية للدّول المُصنّعة...
شكل انتشار الوباء فرْصَةً وذريعة انتهزتها أجهزة الدولة، في معظم بلدان العالم، لزيادة السيطرة والرقابة على المواطنين جميعا. ، وفُرْصة للشركات الرأسمالية لنَسْف المُكتَسبات التي حصل عليها العاملون بنضالاتهم، ما يُشكّل تغييرًا في شكل تحكّم الرأسمالية بالمجتمعات وبالمواطنين...

ما العمل؟
قَوَّضَت النيوليبرالية نظام الرعاية الصحية، ثم دفعت مؤسسة بيل غيتس ومؤسسة جورج سوروس وأمثالهما، لجَعْل "العمل الخيري" وسيلة للشركات الرأسمالية لإعادة تشكيل المجتمعات، ولزيادة سُلطة رأس المال على المواطنين والحكومات، بدعم من وسائل الإعلام المملوكة للشركات الكُبرى، ومن أحزاب اليمين التي تحولت إلى يمين متطرف، وأحزاب الديمقراطية الإجتماعية التي تحولت إلى اليمين، ومن أهم رُموزها "غيرهارد شرودر" (ألمانيا) و"طوني بلير" (بريطانيا)، فيما أهملت النقابات الأوروبية والأمريكية التحولات الهسكلية للطبقة العاملة، وارتفاع عدد العاملين بعقود هشة وبدوام جزئي، كما أهملت النقابات وأحزاب اليسار تجارب الاقتصاد التعاوني العمالي...
لا حلّ للكادحين وللطبقة العاملة، سوى المِلْكِيّة الجماعية لوسائل الإنتاج، ولوسائل الإعلام، والإشراف الجماعي على عملية الإنتاج وتوزيع المنتجات، والإدارة الجماعية أيضًا للمرافق والنظام التعليمي والرعاية الصحية والنّقل العمومي والمَسْكن ومنظومة الإعلام والثقافة والتّرفيه، وتلبية الإحتياجات المادّية والمعنوية لأغلبية المواطنين...
لا يُمْكن للطبقة العاملة تغيير موازين القوى وتحويل الوضع لصالحها، ولصالح الأغلبية، باحترام القواعد التي أرسى أُسُسَها الأعداءُ الطّبَقِيُّون، ولا يمكن تغيير وَجه التاريخ باحترام القواعد التي فرضتها السُّلْطة القائمة، واحترام التقسيم الطبقي والفصل بين الأثنيات أو الأجناس، في العالم أو داخل البلد الواحد، كما حال التفرقة أو المَيْز بين الذّكور والإناث، كما لا يمكن للنظام الرأسمالي أن ينهار من جراء تناقُضاته الدّاخلية، وأزماته الدّورية، دون استغلال هذه التناقضات والأزمات من قِبَل الطبقة العاملة، التي تتناقض مصالحها مع مصالح الرأسمالية، على أن يكون نضال الطبقة العاملة واعِيًا وجماعيا ومُنظّما، ومُحَدّد الأهداف...
من الضروري الرد المُوَحّد للمُتضَرِّرِين الذين لا يمكنهم البقاء مُقَسّمين إذا أرادوا كسب الصّراع في مواجهة المُستفيدين من الكارثة التي تمثلت أضرارها في زيادة البطالة ومشاكل السّكن وهشاشة العمل، والتمييز بين الجنسي والأثني وتدهور ظروف الرعاية الصحية والتعليم، ويتحمّل العاملون والفُقراء وحدهم نتائج الأزمات والكوارث، فيما تزداد ثروات بعض فئات الأثرياء، واستفادتهم من المال العام، لكن الوحدة (وحدة المُتَضَرِّرِين) لا يمكن أن تكون مجرد واجهة أو شعارات، بل تكون أهدافها متمثّلة في عرقلة المشروع التخريبي الذي يعتزم الرأسماليون فرضه علينا، داخل المجتمعات ومن خلال العلاقات الدّولية، مثل علاقات الشراكة بين بلدان المغرب العربي والاتحاد الأوروبي، لذا وجب التّركيز على المطالب الخاصّة بكل قطاع، بالإضافة إلى المطالب الإقتصادية والإجتماعية والسياسية على صعيد وطني أو دولي...
يتطلّب ذلك نقاشًا وطنيا (أو عربيا ودوليا) حول أشكال الحوار وطرُقَ اتخاذ القرارات، والتّفكير في البدائل، والتخطيط الديمقراطي للاقتصاد، ومقاومة تحميل العاملين وِزْرَ الديون التي لم يستفيدوا منها، والتي زاد من حِدّتها تبرع الحكومات بالمال العام للمصارف والشركات الرأسمالية، وعلى سبيل المثال، استفادت المصارف من المال العام خلال أزمة 2008/2009، قبل اندماج بعضها في شركات مالية كُبرى، وسَرّحت نصف العاملين بها، ما مَكّنها (سنوات الأزمات الحادّة) من توزيع المليارات من أرباح الأسهم، ولهذا السّبب يُصبح مطلب مُصادرة المصارف والمؤسسات المالية (التّأمينات وصناديق التّحوُّط وإدارة الثروات...) مطلبًا مُلِحًّا...
كُلّما تَغَوّل رأس المال، ازداد انتشار الظُّلم، فوقع إقصاء الصوت المُعارض من وسائل الإعلام، وأصبحت المخططات الرأسمالية طويلة المدى تهدف القضاء على أي أمل في التغيير، هذا التغيير الذي لن يأتي حَتْمًا عبر الانتخابات التي وضع الرأسماليون قواعدها لتكون مواتية لمن يملكون المال. لا يمكن للوضع أن يتغير إلا من خلال النضال الجماعي المنظم من أجل مجتمع خالٍ من الاستغلال والطبقات ...
إن القُوّة الظاهرة (والحقيقية) للأنظمة الحاكمة، التي تُدافع عن مصالح الأثرياء، لا تستطيع الصُّمُود أمام المقاومة الشعبية المُستمرة والمُنظّمة، فالمُقاومة ليست خيارًا، بل ضرورة حياتية، وهي الطريق الوحيد المُؤَدِّي إلى الإنتصار.
"لستَ مهزومًا ما دُمتَ تُقاوم"، وفق "مهدي عامل" (حسن حَمْدان، وُلدَ سنة 1936 واغتِيل سنة 1987)

ملاحظات:
يمثل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، حجم الثروة التي تم خَلْقُها في بلد ما على مدار سنةٍ مُعيّنة، مقسومًا على العدد الإجمالي للسّكان، والناتج هو متوسط الدخل الفردي...
الضريبة التصاعدية، تعني رفع مُعدّل الضريبة، بارتفاع الدّخل، أي رفع النسبة المائوية للإقتطاع الضّرِيبِي، كلما ارتفع الدّخل
الناتج المحلي الإجمالي، هو مجموع الثروة من إنتاج وخدَمات، في مكان مُعيّن (بلد أو محافظة أو إقليم) خلال فترة مُعينة (سنة أو رُبع سنة)، ويُستخدم لقياس الحجم السّنوي لثروة البُلدان
إعادة التوزيع: هي عملية توزيع الدخل الوطني، دون اشتراط المُساهمة في عملية الإنتاج، خلافًا للرواتب، ليستفيد الفُقراء والمَرْضى والمُسِنُّون من جزء من الثروة، لكي يتمكّنوا من الإستهلاك، دون مُطالبتهم بتقديم مقابل، فعملية إعادة التّوزيع تعتمد معايير اجتماعية كحجم الأُسْرة والفقر والمَرض والعجز على العمل...
دولة الرفاه: عبارة تُطْلَقُ على نظام الحُكْم الذي يدعم التعليم والصحة والوظائف الاجتماعية الأخرى