فبركة عراق لم يوجد بعد؟/2


عبدالامير الركابي
2021 / 6 / 7 - 14:42     

كانت ارض مابين النهرين قد بدات تشكلها وانبعاثها الحديث الثالث قبل الغرب المعاصر وثورته الصناعية المصنعية البرجوازية، وبعد الانقطاع الذي حل على الكيان الرافديني الازدواجي الامبراطوري بانهيار الإمبراطورية العباسية عام 1258، عادت الاليات التاريخيه الخاصة بهذا المكان الى الانبعاث والعمل منذ القرن السادس عشر، متحذة مسار وخصوصية التشكل الخاص بهذا الموضع الازدواجي نفسها، من الجنوب، كما هي قاعدة تشكل هذا الكيان، من سومر في الدورة الأولى، ومن ارض السواد في الكوفة والبصرة، في الثانيه، ومن ارض سومر الأولى نفسها اليوم، مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك"، لتمر عملية التشكل بحقبتين: أولى قبلية، وثانيه دينيه انتظارية، قبل ان يحل الحضور الاستعماري الغربي الإنكليزي، وتشيع عملية الفبركة الكيانيه الايديلوجية.
ومثل هذه السردية العائدة للكيانية (الوطن/كونية) التاريخيه، لا يقبلها ولايقر بها، بل ينفيها نفيا كليا جهلا وتعمدا، معسكر الاتباعيه النقلية الايديلوجيه، لينفي بذلك احتمالية استمرار العملية المنوه عنها تحت ظل الهيمنه الغربيه العسكرية والمفهومية الايديلوجيه، فالتشكل الوطني المعترف به والنهائي الذي يعتمده هذا المعسكر، ويتبناه باعتباره الحقيقة الماحقة لماعداها، وتحديدا للحقيقة "الوطن/ كونيه " العراقية، هو مابقوله الغرب اساسا.
والعراق الحديث بنظر هؤلاء، هو عراق ويرلند الذي يبدا بالتشكل منذ 1831، مع التحاقه بالسوق الراسمالية العالمية، وصولا الى السوق الواحده والكيان والحكومة، وويرلند الذي يعتمد الحداثيون اليساريون والليبراليون مرويته لبلادهم، هو ضابط ملحق بالحملة البريطانية على العراق، وهو برايهم الاعلم الذي لايداخل رايه الباطل من بين يديه، ولامن خلفه بحيث يمكن لابل يتوجب ايراد مقولته، ( آيته) كمستند قاطع في صدارة الكتاب الأهم لواحد من المع الاقتصاديين العراقيين اليساريي الميول(1) فهل لشخص من هذا النوع، هو وكل من هم امثاله، اية علاقه بالمكان الذي من المفترض انهم منه، او اية صلة بما يعتبر واقعا على أي صعيد يفترض ان يتم الانطلاق منه، والتفاعل مع اشتراطاته؟
واضح اننا بصدد حقبة استثناء، هي بالدقة عند التعريف حقبة الالحاق بالغرب وظاهرته، وهي ظاهرة لاسابق لها ولامثيل في التاريخ العراقي على طوله وتعدد دوراته، مخالفة لالياته، ولمقاصده المضمرة فيه، وللوجهة المنطوي عليها، والمعينه لاتحاهه كما يتمثل اليوم مع الدورة الثالثة التاريخيه بما هي "دورة الانتهاء"، وبلوغ الغاية المؤجله منذ الدورة الأولى، تلك التي ترافقت مع العجزعن ان تحقق اغراضها التي هي مشكله كي تبلغها بسبب نقص أساسي، كان قد واكب تشكلها الأول الابتدائي البنيوي، الذي يفتقر للعامل المادي الضروري اللازم لاكتمال عناصر الانتقال التحولي، مااقتضى المرور بدورتين لاحقتين بانتظار توفر الأسباب واللوازم الضرورية النهائية، المفضية الى اللاارضوية واللامجتمعيه.
وتعني "الوطنيه" واطارها الكياني السائد والشائع عمليا، محقا وتدميرا للخاصيات الرافدينيه التاريخيه، أي محو خاصيات موضع ازدواجي كوني لايتجلى كبنونه وبنيه الا امراطوريا وازدواجيا، بعكس اشكال التجلي الأحادية "الوطنيه" كما تمثلت تاريخيا وابتداء في الحالة النيلية الفرعونيه، وصولا لاعلى اشكالها الاوربي الحديث، فلا كيانية أحادية في مابين النهرين، ولاتجل كياني "محلي" تنفيه وتمنع حضوره الازدواجية التكوينيه، كما هو الحال واقعا وتكرارا في الدورة الأولى في الامبراطورية الاكدية افتتاح الامبراطوريات، ومن ثم البابلية الشرائعية، ومقابلها الابراهيمه، وفي الثانيه العباسية الإمبراطورية المدينيه الثاثة الكوسموبوليتيه، ومقابلها القرمطية الإسماعيلية الامامية "الانتظارية"؟، المهدوية.
وهنا نصبح امام نوع مواجهة ذات طابع كوني تاريخي يخص اصل المجتمعية وطبيعتها، ويتعدى بسنين ضوئية ماهو ممكن من طاقات الإحاطة العقلية، والادراك عراقيا، وعلى المستوى العالمي الاعم، هذا بينما تنشا حالة ونوع مواجهة ساحتها ارض البدء المجتمعي، تعيد تاريخ مواجهة العقل الأولى للحقيقة المجتمعية، وقصوره دونها، فعلاقة العقل بالظاهرة المجتمعية بالاصل وابتداء، هي علاقة تفارق، يعجز خلالها العقل عن الإحاطة بالمجتمعية التي هي مجال وارضية تصيره التاريخي بعد طور الصيد والالتقاط التي يبدا علاقته بالمجتمعية منتميا لها، ولاشتراطاتها، فالعقل مع بدء المجتمعات واكتمال قوامها، لايكون "عقلا مجتمعيا"، بل عقل ماسبق من طور ماقبل مجتمعية، وهو لن يصير عقلا متوفرا على أسباب الإحاطة بما هو متصير ضمنه، الا بعد قرابة عشرة الاف سنه، تبدأ بوادرها الأولى في القرن التاسع عشر، مع التحسسات الأولية الابتدائية التي تظهر ابان نهضة الغرب الحديثة، متخذه اسم "علم الاجتماع"، او "المادية التاريخية" الماركسية التي تعتمد "الطبقية" والمراحلية التاريخية، وهما محاولتان ابتدائيتان ارضويتان احاديتان اوربيتان، دالتان على، وموحيتان على طريق اماطة اللثام الكبرى، عن ظاهرة المجتمعية ومنطوياتها والياتها، ومآلها.
ومع ان المجتمعية تبدا لاارضوية ازدواجية تحولية، الا ان العقل لايعي من طبيعتها الا الصيغة الارضوية الأحادية، التي تظل غالبة ومتسيدة على العقل والمفاهيم، طامسة الخاصية الأساس اللاارضوية، المنطوية على أغراض الظاهرة المجتمعية وخاصياتها التي تعجز ابتداء عن تحقيق ذاتها تجليا، وتضطر الى صيغة التعبيرية الأولى النبوية الممكنة "الابراهيمه" ضمن اشتراطات غلبة الأحادية، بانتظار بلوغ التفاعلية المجتمعية والقوانين التحولية الناظمة لحركة المجتمعات، ماهي سائرة اليه، ومتجهه نحو تحققه وتوفر اسبابة مايوجب وقتها وعندها مقتضيات التعبيرية الثانيه مابعد النبوية الحدسية، بظهور الرؤية اللاارضوية التحولية العلية، السببيه التي تفند الأحادية التي ظلت غالبه على مر التاريخ المنقضي.
تتغلب الأحادية الارضوية ابتدا لسببين رئيسيين، الأول متات من افتقاد اللاارضوية لعوامل ولزومات الانتقال المادي مع توفرها على الأسباب الضرورية بنيويا، والثاني عمومية الارضوية الأحادية على مسوى المعمورة كنمط غالب، مقابل فرادة النمط التحولي الازدواجي الوحيد على مستوى المعمورة، مع ملحقاته الأحادية الشرق متوسطية، فالمجتمعات يوم تتبلور وتكتمل بنيه، تكون على شكل:
1 ـ نمط مزدوج هو النمط الرافديني التحولي، البؤرة، وهو فريد في نوعه موافق كينونة وبنية لقانون الصيرورة التاريخية، وموجود بصفته تلك فقط في ارض الرافدين، من دون بقية المعمورة، وهو متشكل من مجتمعين: "لادولة او مجتمعييه لاتتجسد ارضويا" أساس، و "دولة قاهرة احادية" منتقصه نوعا، يوجدان كوحدة صراعية انشطارية مجتمعية، اعلى من الانشطارية الافقية الطبقية، القائمة على الطرف المتوسطي الأوربي الاخر، تحكمهما معا، وتتحكم بتجلياتهما نهايات تتعداهما، لكنها كامنه بنيويا ومآلا في الانشطارية المجتمعية الأعلى من بينهما.
2 ـ نمط احادي دولة اعرق اشكاله نمط وادي النيل، كينونة النهر الواحد/، ذي التحقق الاحادي، التاسيسي الاجتراري السكوني، واعلى اشكاله وارفعها دينامية، هو مجتمع الانشطار الافقي الطبقي، المقابل، والموازي لمجتمع الانشطار العمودي المجتمعي الرافديني، هو نمط اوربا غرب المتوسط.
3 ـ نمط "لادولة احادي" كما في أمريكا قبل الغزو الابادي الاستيطاني الغربي، وامريكا اللاتينية، ومثال المايا والانكا والازتيك، وأستراليا قبل الغزو، وبعض افريقيا، وملامح في اسيا، وارفع اشكال هذا النمط، نمط اللادولة الأحادي الجزيري الشرق متوسطي، الملحق بالمجتمع الازدواجي الرافديني، وهو محكوم لاقتصاد الغزو، ومايقرب من مبدا "الاحتراب كوسيلة للعيش"، مع مايترتب عليه وينتج عنه من طاقات قتالية استثنائية واعجازية متفوقه ضمن اشتراطات الحرب الأولى اليدوية، والمجتمع المذكور وحدته وخليته القبيلة، المفتوحة لمرة واحدة ضمن اشتراطات خاصة استثنائية،على التحول الى "مجتمع لادولة عقيدي محارب"، استهدافاته بسبب محركات تحوله العقيدية والواقعية، ذات طابع كوني كاسح، لايرد. كما حدث في القرن السابع على يد النبي محمد( يتوقف تجلي دولة اللادولة العقيدية مع نهاية العهد الراشدي، لينقلب القانون لصالح القبيلة التي تستعمل العقيدة ضمن وسائل الغلبة العصبية كايديلوجيا، وهو ماقد حدث على يد معاوية بن ابي سفيان، مع قيام الدولة الاموية الوراثية على انقاض دولة اللادولة العقيدية النبوية الراشدية).
ـ نمط مختلط.
ولو كانت المجتمعات كلها ازدواجية، ولا ارضوية، لما انتقلت الى مابعدها لانها غير مؤهله بنيويا لانتاج العامل، او العنصر التحولي المادي "الالة / التكنولوجيا"من بين تضاعيفها، والا لتغيرت طبيعتها، لذلك يبقي العقل من يومها عند نقطة ومستوى احاطته وطاقته على الاعقال "غير المجتمعي"، مااقتضى المرور بزمن من التفاعليه المجتمعية التي لامجال لتحاشي المرور بها، تامينا لاهم عنصرين لازمين لايمكن للتحول من الارضوية الأحادية الى مابعد مجتمعية ان يتحقق من دونهما.
ـ يتبع ـ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يبدا مجمد سلمان الحسن اول سطرمن كتابه الضخم / التطور الاقتصادي في العراق/ التجارة الخارجية والتطور الاقتصادي 1864 ـ 1958 مفتتحا بحثة بالتالي :"العراق الحديث حصيلة العملية التدريجيه للتوحيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للولايات التركية الثلاث: بغداد، والبصرة، والموصل، توحيدا نجم عنه وطن واحد وسوق وطنيه واحده، وقد بدات هذه العملية منذ الاحتلال التركي الثالث في عام 1831، واشتد زخمها متذ ستينات القرن الماضي، حتى افضت الى تشكيل الحكومة العراقيه المؤقته، تحت الاحتلال البريطاني، في عام 1920" وهو نص ماخوذ من متاب ويرلند " دراسه في تطور العراق السياسي" الصادر في لندن بالانكليزية عام 1937 ص 277/ ـ يراجع محمد سلمان الحسن/ الكتاب المذكور/ المكتبه العصرية للطباعه والنشر/ صيدا ـ بيروت / ص 27.