مرحباً، بكم الدولار اليوم؟


عبدالرزاق دحنون
2021 / 6 / 7 - 12:49     

هذه الجملة في العنوان أعلاه تسمعها كل يوم ملايين المرات وعلى مدار الساعة، تهمس بها شفاه البشر على كوكب الأرض. وسأحكي هنا حكاية طريفة حدثت معي من سنوات: تصادف وجودي مع توقف سيارة فارهة على إحدى الطرق العامة بالقرب من راعي أغنام في السفوح الجبلية لقرية "معترم" التابعة لمدينة أريحا في محافظة إدلب في الشمال السوري وذلك في أحد أيام ربيع عام 2009بينما كنتُ أتفحص موقعاً أثرياً إلى الغرب من قرية معترم.

ترجّل السائق من الحافلة وراح يفاصل الراعي في ثمن رأس الخروف الحي. وبعد جدل قصير، دفع المُشتري قطعتين من فئة مئة دولار، ثم حمل الخروف إلى صندوق سيارته ومشى. وقبل أن يغيب بين أغنامه، سألته ماذا سيفعله بالدولارات الأمريكية في هذه القرية النائية، فأجاب موضحاً: اتفقتُ مع المُشتري على تسعة آلاف ليرة سورية ثمناً للخروف، إلا أنه لا يحمل المبلغ بالليرات السورية، وقد رضيت بتلك الدولارات؛ لأنني الرابح في هذه الصفقة، فهي تساوي أكثر من المبلغ المطلوب.

كان الدولار يومها بخمسين ليرة سورية وقد فهمتُ من الراعي أنه يعمل في ورشة بناء في لبنان، وطبيعي أن يتعامل بالدولارات ويعرف قيمتها الشرائية. وقد لا تكون هذه الحادثة فريدة كما نظن، لأن الدولار كعملة يتم تداولها في أنحاء الأرض جميعاً. والعملة في المعاجم، أجرة العمل. يقال: سعيد رديء العملة أي المعاملة إذا كان لا يفي ما عليه من النقود. والنقد مصدر نقد، والجمع نقود ما يعطي من الثمن معجلاً. واليوم انتقل دور العملة التاريخي من وسيلة للبيع والشراء إلى بضاعة أو سلعة تباع وتُشترى بحد ذاتها وصار لها أسواقاً وزبائن في كل أرجاء العالم.

في اليوم السادس من يوليو/تموز عام 1785، اجتمع المجلس القاري في نيويورك وأصدر الدولار ليكون عملة رسمية للولايات المتحدة الأميركية الجديدة. وفي قراره أوضح الكونغرس أن يكون النظام عشرياً ليعادل الدولار مئة سنت. غير أن خلافات دبّت بين أعضائه، أدت إلى تأخر سكّ العملة في أميركا حتى عام 1792، لكنه صمّم حينها على شكل 3 فئات، الفئة الأعلى كانت مصنوعة من الذهب، والأقل منها قيمة كانت مصنوعة من الفضة والأخيرة كانت مصنوعة من النحاس. واعتُمدت هذه العملة في العام ذاته العملة الرسمية للولايات المتحدة.

بدأت الحكاية، حسب ما ورد في كتاب جاسون غودوين "العملة الخضراء الدولار القوي واختراع أميركا" مع هجرات المستعمرين الأوروبيين إلى الولايات المتحدة عام 1620، حيث أخذ هؤلاء المستوطنون معهم في البداية ذهباً وعملات إنجليزية، لكنهم لم يكونوا من الأثرياء وسرعان ما نفدت الأموال وأصبحوا عاجزين عن شراء الغذاء وجلود الحيوانات وحاجات أخرى من السكان الأصليين للقارة الأميركية.

وبعد وقت قصير من ذلك التاريخ، اكتشف المستوطنون أن أنواعاً معينة من الأصداف كانت ذات أهمية رمزية لعددٍ كبيرٍ من السكان الأصليين، وبناء عليه أمكن تبادلها مع المستعمرين الإنجليز مقابل ما يحتاجون إليه من أمور ضرورية، مثل الغذاء، إلّا أنّه وفق، غودوين، وبعدما أصبح التبادل بين المستوطنين أنفسهم مهماً للغاية، بدأ هؤلاء باستخدام سلع أخرى في عملية المقايضة. ففي المستعمرات الشمالية، استخدموا الذرة والأسماك، وفي مستعمرات جنوبية عدّة كانوا يفضّلون التبغ. وقد أُعلن الكثير من هذه السلع أموالاً قانونية على الرغم من أن بعضها لم يلق نجاحاً كعملة.


وعلى الرغم من ذلك، لم يكن لدى المستعمرين الأوائل خيارات بديلة عن هذا الشكل المتطوّر للمقايضة لأن السلطات البريطانية رفضت السماح بتصدير قطع النقود الذهبية والفضية، كما رفضت السماح للمستعمرين بسك عملتهم الخاصة. فكان من الأسهل لهم استخدام العملات الإسبانية، التي باتت تتداول في الولايات المتحدة حتى أوائل القرن التاسع عشر.

ومع تشدّد السلطات الإنجليزية والعبء الضريبي الذي فرضته الحكومة البريطانية على المستوطنين، قاد ذلك إلى حدوث قطيعة كاملة مع الجانب البريطاني، وعندها بدأت تتبلور الأصوات الأميركية المُطالبة بالاستقلال عن أوروبا، تحديداً إنجلترا، وتزامن ذلك مع تحرّك بعض الولايات الأميركية باتجاه طبع عملات خاصة. أبرزها كانت ولاية ماساتشوستس التي بدأت بالتعامل بالجنيه الماساتشوستسي عام 1652، ثم سرعان ما تكرّر الأمر في ولايات أُخرى.

وبعد إعلان الاستقلال عام 1776 إثر حروب طويلة ومكلفة مع القوات البريطانية، حاول الآباء المؤسسين التفكير في وحدة الولايات المالية لدفع تكاليف تلك الحرب. وذكر بنيامين فرانكلين، أحد الآباء المؤسسين للثورة، قائلاً: أصدر الكونغرس كمية كبيرة من الأوراق النقدية لدفع قيمة الملابس والسلاح وطعام الجنود وتجهيز سفننا، من دون دفع ضرائب لمدة ثلاث سنوات، لقد حاربوا وهزموا واحدة من أشدّ الأمم قوة في أوروبا.

وبحسب مجلس الاحتياطي الفيدرالي، عرفت تلك الأوراق المالية الجديدة باسم "كونتننتالس" (تعني القاري) وسُمّيت باسم المجلس القاري الذي كان مسؤولاً عن إعلان الاستقلال والذي كان يدير الحرب ضد بريطانيا. لكن سرعان ما فقدت هذه الورقة المالية قيمتها مع انتهاء الحرب، وكان لزاماً على الجمهورية الجديدة وضع نظام اقتصادي ومالي جديدَيْن.

وعلى مدار العقود السبعة اللاحقة، بقيت الأوضاع كما هي، إلى أن استطاعت وزارة الخزانة الأميركية طبع أوراق الدولار في منتصف الحرب الأهلية عام 1862، فظهرت العملة بشكلها الأخضر الحالي، وكانت مكوّنة من لونين الأسود والأخضر، استُخدمت حينها منعاً لتزييفها. ومنذ ذلك الوقت، ظهر الدولار في عالمنا وبدأت عملية الطباعة، إذ قدّر مجلس الاحتياطي الفيدرالي كمية ما طُبع بنهاية الحرب الأهلية الأميركية بنحو461 مليون دولار، وحينها جرّم الكونغرس من يرفض التعامل بها.

في فترة الكساد العظيم عام 1929 أمر الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت بإلغاء تغطية الدولار بالذهب عام 1933، قبل أن يعود عن قراره في العام اللاحق مع تعديل نسبي لسعر الدولار، واستمر الحال إلى أن قادت الولايات المتحدة الجهود الدولية لتوقيع اتفاقية "بريتون وودز" عام 1944 حيث عُقد المؤتمر في ولاية نيو هامبشير وحضرته 44 دولة من حول العالم، واستمر لأكثر من 22 يوماً، وهي محطة فاصلة في الاقتصاد الدولي والأميركي وإنشاء نظام اقتصادي عالمي جديد ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تمخّضت عنها نشأة المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها "البنك الدولي" و"صندوق النقد الدولي".

ووفق مخرجات "بريتون وودز"، نُظّمت التجارة العالمية الدولية واتّفق على تطبيق بعض الشروط والقيود عليها، كان أبرزها اعتماد الدولار الأميركي كمرجع رئيس لتحديد سعر عملات الدول الأخرى. وشُكّل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتطوير والتعمير، وعليه صارت الدول تستند إلى الدولار الأميركي لتحديد قيمة عملاتها دولياً.

في هذه الأثناء أيضاً، كانت الولايات المتحدة تمتلك 75 في المئة من ذهب العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان الدولار العملة الوحيدة على مستوى العالم المغطّاة بالذهب لأن بقية الدول تخلّت عن تغطية عملاتها بالذهب بعد حصول تضخّمات في اقتصاداتها، مِمّا دفع عدداً كبيراً من دول العالم إلى العمل على تكديس الدولارات الأميركية بهدف استبدالها بالذهب مستقبلاً كاحتياطي، وصارت بلدان عدّة تستخدم عملة الدولار كاحتياطي النقد الأجنبي، إذ وافقت الدول الأعضاء بين عامَيْ 1945 و1971 على المحافظة على أسعار صرف عملاتها مقابل الدولار في وقت كانت أوقية الذهب حينها تساوي 32 دولاراً.

ويُعرف هذا النظام بنظام "بريتون وودز" وقد استمر حتى عام 1971، عندما قرّرت الحكومة الأميركية وقف تحويل الدولار واحتياطيات الدول الأخرى من الدولار إلى ذهب. ومنذ ذلك الحين، ظلّت الدول الأعضاء في الصندوق حرة في اختيار أي نظام لتسعير عملتها مقابل العملات الأخرى، عدا اللجوء إلى الذهب. وبات الدولار الأميركي يستمدّ قوته من حجم الإقبال على شرائه لاستخدامه عملة احتياطية أو لتسديد ثمن تجارة، إذ إن أسعار بضائع عدّة يتاجر بها عالمياً، تُسعّر بالدولار. كما أنه وبسبب كبر حجم السوق الأميركية كشريك تجاري، تشتري دول كثيرة الدولار أو تحتفظ به لتسديد ديونها للولايات المتحدة كما أن دولاً عدّة تحتفظ به احتياطياً إضافياً إلى الذهب.

في ظلّ التململ الدولي والعالمي من الهيمنة الاقتصادية الأميركية وبزوغ قوى اقتصادية أخرى، كالصين والدول الأوروبية وروسيا فإن خصوم الولايات المتحدة، لا سيما روسيا والصين يعملان على تنويع احتياطاتهما من العملة، وتوسيع التجارة الثنائية بعملات غير الدولار. كما بدا أكثر من مرة ظهور تململ لدى بعض زعماء الاتحاد الأوروبي من حقيقة أن الدولار يحدّ من نطاق حرية أعمالهم وسياساتهم، إلّا أنّ كل تلك المحاولات لم تصل إلى محطتها النهائية بعد.

وفي تقرير نشرته مجلة "ناشيونال إنترست" الأميركية، قال ديفيد أورن إن هيمنة الدولار تمنح الإدارات الأميركية قدرة لا تُضاهى على ممارسة الإكراه من خلال فرض عقوبات اقتصادية، معتبراً أن دور الدولار المهيمن يعكس عمق أسواق رأس المال وقوة المؤسسات الأميركية، ومن المرجح أن تكون هذه الهيمنة طويلة الأمد.

من جانبه، يقول باري إيشينغرين، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا وأحد المساهمين في كتاب "كيف يعمل نظام العملات الشامل"، إن من "أجل إحداث انقلاب عالمي على الدولار، فإن العالم بحاجة أولاً إلى أن يفقد ثقة المستثمرين الأجانب في سندات الخزينة الأميركية"، موضحاً أن هذا الأمر ربما يحدث من خلال حدث سياسي سلبي كبير في الولايات المتحدة.