الدور الرجعي للحوار المتمدن (3)


فؤاد النمري
2021 / 6 / 6 - 20:42     

الدور الرجعي للحوار المتمدن (3)

بدايةً أود أن أشير إلى أنني لا أكتب عن الدور الرجعي للحوار المتمدن مستهدفاً ثنيه عن نشر كتابات اليسارويين، فالسياسة علم وهي كسائر العلوم محكومة بقانون الديتاكتيك وبالتالي فإن السياسات اليساروية غير الديالكتيكية هي المستنبت الموائم الذي تنبت فيه وتنمو السياسة العلمية الديالكتيكية . لكن ما يضيرني حقاً هو تبني الحوار المتمدن لدعوى اليساروية وأنه الأم الولاّدة لها بينما هي في الحقيقة دعوى جوفاء مضللة في خدمة القوى الرجعية التي تجهد في إدارة عجلة التاريخ إلى الخلف كما أشار ماركس في البيان الشيوعي .

بحثت قناة الحوار عن تسعة أشخاص مدموغين بالدمغة اليسارية الفاقعة في ثمانية أقطار عربية مختلفة تسألهم عن اليسار ونضالات اليسار وأهداف اليسار ؛ ونأمل أن يكون المسؤولون عن قناة الحوار قد استخلصوا العبرة من جميع الإجابات التي تلقوها على أسئلتهم .
إنحصرت إجابات اليسارويين ذوي الدمغة الفاقعة في ثلاث مسائل .
• إنكار وحنى استنكار الثورة الإشتراكية البولشفية 1917 بكل تداعياتها .
• مواجهة الإمبريالية في معركة التحرر .
• تحقيق مشروع وطني يكفل الديموقراطية والعيش الكريم لكافة المواطنين
هذه المسائل الثلاث ليست من بنات عالمنا اليوم . فالسياسة مهما تكن تلك السياسة لا تكتسب شرعيتها ومقاربتها للواقع إلا إذا كانت متساوقة مع النظام الدولي الماثل .
اليساريون الرجال التسعة ذوو الدمغات اليسارية الفاقغة إجمعوا على أنهم في مخاض معركة تحررية صعبة في مواجهة الإمبريالية الأكيركية المتوحشة !!
نعم، لئن كان لليسار أية عزوم في مفارعة الإمبريالية الأميركية فذلك يحتم علينا الإعتراف بوجود اليسار الذي أنكرناه على الدوام وأنه ذو دور تقدمي حتى وإن لم يكن حزباً يمثل طبقة اجتماعية معينة بل أشتاتا من فرق البورجوازية الوضيعة .
غير أن الحقائق الصادمة على الأرض تقول أن الولايات المتحدة لم تكن يوماً إمبريالية . تنامت الرأسمالية الأميركية بسرعة فائقة بإدارة أعظم الرؤساء الأميركيين على الإطلاق فرانكلن روزفلت (1933 – 1945) ثم أخذت بالتراجع بإدارة مجرم الحرب هاري ترومان (1945 – 1953) والإدارات المتعاقبة التي تبنت سياسات ترومان الفاشية وهي تكريس كل عوائد النظام الرأسمالي لمقاومة الشيوعية والتي أدت إلى انهيار النظام الرأسمالي قبل بداية سبعينيات القرن الماضي وفقدان الولايات المتحدة أولى علائم السيادة وهو انكشاف عملتها من الدولار في العام 1971 . انهارت الرأسمالية الأميركية قبل أن تدخل مرحلة الإمبريالية .
كان النظام الرأسمالي المزدهر في الخمسينيات في أميركا يفيض من القيمة بمقدار عشرين طناً من الذهب وكانت ادارة ترومان والإدارات المتعاقبة تنفق على مقاومة الشيوعية ما يساوي 40 طنا من الذهب، وهذا بالقطع ليس إمبريالية فلو كان الانفاق على مقاومة الشيوعية لا يتجاوز قيمة 6 أطنان من الذهب والإبقاء على أربعة توظف في تطوير النظام الرأسمالي لتهيأت حينئذٍ فرصة بلوغ الرأسمالية الأميركية مرحلة الإمبريالية . لكن سياسة ترومان الحمقاء المجنونة قضت على الرأسمالية الأميركية قبل أن تلامس مرحلة الإمبريالية .
لو ارتقت الرأسمالية الأميركية لمرحلة الإمبريالية المتطورة لأمكنها من توفير فائض القيمة بالإضافة إلى ما تستغله من الأسواق الأطراف ما يساوي مائة طناً من الذهب . لكنها اليوم تطبع سنويا ما يزيد على 10 ترليونات من الدولارات الورقية المكشوفة تبيعها على العالم بمختلف أصقاعه وأنظمته بقيمة 2 سغم من الذهب لكل دولار، وهكذا تبلص الولايات المتحدة العالم 20 ألف طناً ذهياً كل سنة . لن تقبل الولايات المتحدة أن تعود لمرحلة الإمبريالية وتقف مكتسباتها عند مئات الأطنان من الذهب وهي تكسب اليوم عشرات ألوف الأطنان من الذهب دون عناء يذكر .
الولايات المتحدة اليوم هي السوق الرئيسة للبضائع الصينية وتيلغ وارداتها بالمعدل من الصين ما يفوق 600 مليار دولار وتصدّر بالمقابل للصين ما يقل عن 300 مليار دولار ويعجز ميزانها التجاري مع الصين بأكثر من 300 مليار دولارا سنويا . مثل هذه الحقائق الصارخة في النظام العالمي الماثل اليوم تنفي نفياً قاطعاً كل شبهة إمبريالية عن الولايات المتحدة الأميركية .
طبعاً ما كانت الولايات المتحدة لتتحكم زوراً بنظام النقد العالمي لولا انقلاب البورجوازية الوضيعة السوفياتية على الثورة الإشتراكية في خمسينيات القرن الماضي الأمر الذي سمح لقادة الدول الرأسمالية الخمسة الكبار الإجتماع في رامبوييه بباريس في 16 نوفمبر 1975 وتأسيس منظمة (G 5) التي أعلنت خرقها لنظام النقد العالمي واعتبار القيمة الأصلية في نقودها وليست في البضاعة تجسيد قوى العمل مخالفين بذلك آباء علم الإقتصاد الثلاثة سميث وريكاردو وماركس .

نحن تطرقنا لكل الحقائق الصارخة في النظام العالمي الماثل اليوم كي نؤكد بصورة قاطعة أن اليساريين التسعة الذين استضافتهم قناة الحوار لا يعرفون طبيعة النظام الدولي الماثل اليوم الأمر الذي يعني أن يساريتهم المزعومة إنْ هي إلا كذبة ليلة ليلاء وأن مشروعهم الوطني هومجرد تخيّلات سقيمة، وأي مشروع وطني ستبني البورجوتزية الوضيعة وهي تغطي أكثر من 80% من سواد الشعب دون أن تنتج قطميرا !؟ البورجوازية الوضيعة ليست طبقة إجتماعية مؤهلة لبناء نظام اجتماعي ثابت ومستقر إذ يتوجب عليها قبلئذٍ أن تعرف النظام الدولي السائد حق المعرفة وتتساوق مع اشتراطاته المحلية . فما كان لينين ليعلن الثورة الإشتراكية العالمية في مارس 1919 لولا أنه تأكد بالواقع الملموس أن النظام الرأسمالي الإمبريالي كان قد وصل إلى حدود نهايته التاريخية بدلالة امتداد الحرب الامبريالية لأطول مما ينبغي . وكيف سيكون هناك ديموقراطية بورجوازية بغياب تام للطبقة البورجوازية !!؟

المنطلق الأساس لكل دعاوى اليسار بنزوعاتها المتباينة هو إنكار وحتى استنكار ثورة أكتوبر البلشفية . وهكذا رأينا اليساريين التسعة الذين عبروا عن يسارية الحوار المتمدن بنكرون أو يستنكرون ثورة أكتوبر الإشتراكية بادعاء "فشلها الفاضح" وحجتهم في ذلك أكاذيب خروشتشوف في خطابه السري بعد نهاية مؤتمر الحزب العشرين في العام 56 . خروشتشوف نفسه تراجع عن خطابه الخياني الكذوب حين أكد في خطتبه يفتتح أعمال مؤتمر الحزب الحادي والعشرون في فبراير 1959 الدور العظيم لستالين في بناء الدولة الإشتراكية الأعظم محل فخار السوفياتيين ؛ خروشتوف بلسانه تراجع هن أكاذيبه في خطابه الشخصي السري بعد نهاية أعمال المؤتمر العشرين غير أن سفهاء البورجوازية الوضيعة التي قامت بالإنقلاب على الإشتراكية في خمسينيات القرن العشرين لم تتراجع وما زالت تلوك أكاذيب خروشتشوف صبح مساء بحق ستالين . يحاذرون في تذكير العالم بإلغائهم الخطة الخمسية الخامسة وهو الإنقلاب الفعلي على الإشتراكية مقابل النركيز على "جرائم" ستالين رغم شهادة أعظم القادة التاريخيين في القرن العشرين، لينين وتشيرتشل وروزفلت، بأن ستالين هو أعظم القادة في كل العصور. وكان آخر ما كتب ستالين في مفكرته اليومية .. "سيهيلون زبالتهم الكثيرة على قبري غير أن الرياح ستذرو بها بعيداً " .

في 6 مارس 1919 أعلن فلاديمير إيلتش لينين في الإجتماع التأسيسي للأممية الشيوعية (Commintern) الثورة الشيوعية العالمية التي كان كارل ماركس ورفيقه فردريك إنجلز قد استشرفاها في بيانهما الشيوعي في العام 1848 وقد رأى لينين بعبقريته النافذة المعهودة أن النظام الرأسمالي الإمبريالي قد وصل إلى نهايته التاريخية وأن العالم مع بداية العام 1919 قد دخل في مسار الإشتراكية وفيه نجاح القوى الإشتراكية أمر مؤكد . فالتناقض الرئيس والمستجد على مسار الثورة الإشتراكية هو بين البروليتاريا الإشتراكية من جهة، والبورجوازية الوضيعة (Petty Bourgeoisie) بمختلف أشتاتها من جعة أخرى، وهو ما أكده لينين في كتابه "الضريبة العينية" في العام 1921 .

في العام 1953 وقد تزامنت شروط استثنائية جداً وليست من حسبان الزمن تمثلت باغتيال ستالين القائد الأعظم للبروليتاريا وباني الإشتراكية من قبل زملائه في المكتب السيباسي متزامناً مع تواجد أعظم قوى عسكرية ظهرت في التاريخ تمثلت ببضعة ملايين من الجنود السوفييت وعلى رأسهم عشرات المارشالات وآلاف الجنرالات، والعسكر هم أكثر فرق البورجوازية الوضيعة عداءً للإشتراكية، تمكنت البورجوازية الوضيعة السوفياتية في تلك الظروف الإستثنائية من الإنقلاب الشامل على الإشتراكية جاهدة لمحو دور البروليتاريا التاريخي منكرة بذات الوقت تناقضها مع البروليتاريا وادعاء تناقض كاذب مع "الإمبريالية" الأمريكية .

منذ إلغاء الخطة الخمسية الخامسة وهو الإنقلاب الحقيقي والشامل على الإشتراكية وديدن أشتات البورجوازية الوضيعة إدعاء تناقضات شتّى في مجتمعاتها بعيدا عن تناقضها الحقيقي والوحيد مع البروليتاريا وهي أُسّ الحضارة الحديثة دون منازع . أشتات البورجوازية الوضيعة في العالم العربي بصورة خاصة ورثت عن أشتات ىالبورجوازية الوضيعة السوفياتية تناقضها الكاذب مع الإمبريالية الأميركية على الرغم من أن حكومة بوريس يلتسن الروسية سلمت ترسانة الأسلحة السوفياتية للولايات المتحدة دون مقابل .
بعض أشتات البورجوازية الوضيعة تدعي تناقض الجندر هو التناقض الرئيس في المجتمع مثالها في العالم العربي الكاتبة نوال السعداوي وأشتات أخرى تدعي التناقض الرئيس هو مع البيئة .
أشتات البورجوازية الوضيعة في العالم يمكنها أن تدعي بعشرات التناقضات الرئيسة من أجل إنكارها تناقضها مع البروليتاريا وهو التناقض الرئيس الوحيد على مسار الثورة الإشتراكية .
الحوار المتمدن أجرى حتى اليوم خمسة عشر لقاء تلفزيونيا ؛ تسعة منها تركزت على التناقض مع الإمبريالية الأميركية منكرة بذات الوقت التناثض مع البروليتاريا دون داعٍ ؛ وخمسة لقاءات نركزت على تناقض الجندر؛ واللقاء الوحيد الذي كان موضوعه التناقض مع البروليتاريا كان معي حيث لم يكن بإمكانهم تجاهلي وأنا الكاتب السياسي الأول على صفحات الحوار المتمدن ومع ذلك حذروني من أنه ليس بإمكانهم توفير الوقت اللازم لاستكمال الحوار معي !!
لكل ذلك فإنني لا أتجنى على الحوار المتمدن عندما أدينه بالرجعية وهو يجهد لانكار التناقض الرئيس على مسار الثورة الإشتراكية .

إنتهى