قل الحق ولو على نفسك


مالوم ابو رغيف
2021 / 6 / 4 - 20:53     

لا اعرف ما الذي شدني الى متابعة محاكمة O.J. Simpson التي بدأت في سنة 1995 ربما لأنها الأولى التي كانت تُبث مباشرة حية على الهواء حيث حُظي ملايين الناس بمشاهدتها وأصبحت في وقتها حديث الساعة وكل ساعة، او ربما لمطاردة البوليس لـسيارة O.J. Simpson لاعب كرة القدم الامريكية الشهير والممثل السينمائي فيما بعد، او لأنها تحمل مفارقة الألوان فالمتهم اسود والضحايا بيض او ربما لأني من متابعي القضايا والمحاكمات على صعيد الواقع او على صعيد الأفلام السينمائية.
لقد تابعت المحاكمة من خلال فضائية الـ CNN وفضائيات الأخرى ولم يفتني جلسة من جلساتها التي كانت تعرض على الشاشات ليلا وأبقى بعد انتهاءها سهرانا اتباع اراء الحقوقيين والمحامين والمحللين السياسيين او أصحاب الاختصاص الذين يتم استضافتهم فيزيدوا من حماسة جمهور المشاهدين المتابعين لتلك المحاكمة الفريدة من نوعها، تماما مثلما يفعل المعلقون على مجريات جولات الملاكمة بين خصمين قويين باحتساب الجولة لهذا الملاكم او ذاك، فكان المحللون يحسبون الجلسة لصالح لطقم الدفاع او طقم الادعاء العام.
كانت القضية واضحة ولا لبس فيها، فالمتهم وقتها O.J. Simpson وجهت اليه تهمة قتل زوجته Nicole Brown Simpson عمدا وقتل Ronald Goldman الذي كان يعمل نادلا في مطعم كانت ترتاده نيكول. كما اكتشف اثار دم على سيارة المتهم وكذلك على فردة قفاز عثر عليه في مكان الجريمة والأخرى عُثر عليها خلف منزل المتهم وكلاهما( X Large) كذلك عُثر على غطاء رأس محاك استخدم لإخفاء الملامح عند ارتكاب الجريمة المزدوجة وشعرة رأس من انحدار افريقي، والعثور عفي غرفة نوم المتهم على زوج جوارب عليها بقع دم من فصيلة القتيلة نيكول براون سمپسن وادلة أخرى لسنا بصدد استعراضها.
كانت جميع القرائن والأدلة العينية والظرفية تشير وتكشف بشكل واضح شخصية القاتل وتنطبق تماما على المتهم.
في ذاك الوقت انقسم المجتمع الأمريكي الى معسكرين او الى فسطاطين، حسب تعبير الإرهابي المقتول أسامة بن لادن، معسكر أصحاب البشرة البيضاء الذي كانت جماهيره تطالب بأنزال اشد العقوبات واقساها بالمجرم السفاح O.J. Simpson حاملين شعرات تندد بالجريمة وتحمل صور القتيلات، ومعسكر اسود يطالب بأطلاق سراح المتهم واسقاط كل التهم الموجهة اليه.
لقد كان الامر ينذر بحرب أهلية لان التشنج بين اللونين وصل الى درجة الانفجار.
اما انا فرغم كل الدلائل والقرائن التي تدين المتهم وجدت نفسي منحازا الى المعسكر الأسود ومشجعا لفريق الدفاع، مشككا بالادعاء العام، معتقدا بانه لفق الأدلة وتعرض بعضها للتلويث، متناسيا بشاعة الجريمة وتاريخ العنف الذي اكتنف حياتهما الزوجية، مشجعا ومعجبا بالمحللين والقانونيين الذي يستعرضون بقوة إخفاقات الادعاء العام بقيادة السيدة مارسيا كلارك (Marcia Clark) ونجاحات فريق الدفاع بقيادة المحامي جوني كوكران (Johnnie L. Cochran).
في الجلسة النهائية عندما أعلنت هيئة المحلفين Jury قرارها النهائي ببراءة O.J. Simpson من تهمة القتل العمد وجدتني فرحا مستبشرا مصفقا للقرار الذي اعتقدته حينها كان منصفا.
بالطبع كان دائما يخالجني شعور بالشك بان O.J لم يكن بريئا، وانه استخدم أكثر من عشرين مليون دولار لضمان براءته، ولو لم تكن معه هذه الأموال الهائلة لحكم عليه بالاعدام او السجن المؤبد الذي لا نهاية له، وان الأدلة المستخدمة ضده لا غبار عليها، لكني كنت دائما ادفع بهذه الشكوك عميقا في منطقة اللاشعور ولا اسمح لها ان تصعد الى السطح وتجعلني مصطفا مع المعسكر الأبيض الذي طالما ارتكب جرائما ومذابحا ضد الشعوب الأخرى واستعبد ملايين البشر ومنهم اباء O.J Simpson.
لكن ما هو ذنب الأبناء بما اقترفه الإباء؟
يجيب عقلي بانهم بتحملون نفس الجريرة اذا ابقوا على العنصرية سرا او علانية معاملة او تلميحا.
بعد كل نشوة سكر صحوة وصداع، لا اعرف متى صحوت من نشوة براءة القاتل المزيفة ووجهت انتقادا ذاتيا لوقوفي مصطفا بجانب مجرم أزهق نفسين لحالة هستيريا غير مبررة مر بها او حالة غضب إجرامية المت به.
كيف تسللت الاحكام المسبقة الى عقلي وتفكيري فاعتبرت ان فريق الاتهام يحاول بكل ما يستطيع حتى ولو بالتزييف القاء وزر الجريمة على كاهل المتهم البريء؟
هل ان موقفي هو نتاج لتحاملي على نظام التفرقة العنصرية التي عملت به أمريكيا لسنوات طويلة ومازال مختزنا في التفكير الأمريكي ومعمول به اجتماعيا وان كان تم الغاءه رسميا؟
لكن اليس التحامل نفسه، هو ايضا حكم مسبق لا يختلف عن عنصرية التفكير إذا ما تسرب الى العقل؟
كيف سولت لي نفسي الوقوف بجانب القاتل ضد الضحية، بجانب القوة البدنية الهمجية ضد ضعف الانسان لامرأة لا حول ولا قوة لها؟
لماذا اغمضت عيني او قل اشحت ببصري عن رؤية الحقيقة وجريت وراء الأوهام وانا خارج إطار المعركة وتأثيراتها ولا يربطني بها سوى عاطفة التضامن او الانحياز وهي الكلمة الاصح؟
ولماذا ننحاز؟
ان هذا الموقف الخاطئ الذي اتخذته وندمت عليه، يتخذه ايضا كثير غيري عندما يسرعون ببناء احكامهم على عواطفهم ويصطفون طائفيا او حزبيا او دينيا او قوميا او عرقيا او سياسيا او ايدلوجيا مع الطرف الذي يجدونه الأقرب الى قلوبهم لا الى عقولهم ولا الى ضمائرهم.
قل الحق ولو على نفسك، نصيحة تقال لكن لا احد يعمل بها الا بعد فوات الآوان.