اللَّحْظَّةُ الماركسيَّة


عبدالرزاق دحنون
2021 / 6 / 3 - 13:15     

محاولة جعل كارل ماركس يتحدث لغة شعبية بسيطة مفهومة للجميع تُثير مشكلات لها أول وليس لها آخر، ولكنها محاولة ليست مستحيلة، فأنت تستطيع الآن في هذه اللحظة التاريخية أن تعكف على قراءته، وستكون سعيداً إذا استطعت فهمه، لذلك ستستعين بالذين ادعوا أنهم يقومون بتوضيحه وتفهيمه من خلال كتبهم وأبحاثهم ومحاضراتهم ولكنهم في الغالب ينتهون إلى تركك في متاهة بين نظريات وأفكار عسيرة الفهم والهضم على أدمغة بشرية تعيش عصراً آخر عن عصر الرفيق ماركس.

أجرؤ على القول بأن المتسول الذي يقف على أرصفة المدن المكتظة بالناس المتخمين ويطالب بحقه: من مال الله. يفهم ما أراده ماركس من كده في مشروعة لنصرة الخلق المتعبين -على بساطة هذا المتسول وأميته- أكثر منا نحن الذين نحاول فهمه أو تفهيم فلسفته التي أراد من خلالها ليس تفسير العالم فحسب بل تغيره. ما العمل لفهم ماركس على حقيقته بعيداً عن ركام الأيديولوجيات التي غلَّفت مشروعه الفكري، وهل حقيقة نمتلك الشجاعة والجسارة الفكرية للقيام بذلك؟

ليس العمل سهلاً في حالة البؤس بكل تأكيد، وها قد أصبحت أسرة ماركس المؤلفة من ستة أفراد أكثر بروليتارية في طابعها أيام سنوات العيش في لندن. ولم يكن ماركس يستطيع الخروج في بعض الأحيان من منزله لأن ملابسه موجودة في محل الرهونات. حتى الورق الذي يكتب عليه لم يكن موجوداً، وكذلك ضرورات الحياة لأسرته. وخلال الفترة التي عاشها في "دين ستريت" في لندن ولدت طفلته فرانشيسكا وماتت المسكينة بعد سنة من الفقر والعوز. ولقد وصفت زوجته جيني فون فستفالين الأيام الصعبة في خطاب إلى صديقة أمريكية:

"أطفالنا الثلاثة يرقدون على الأرض ونحن جميعاً نبكي الملاك الصغير الذي كان جسده بلا حياة في الغرفة المجاورة. وقد حدثت وفاة طفلتنا المحبوبة ونحن في عوز شديد"

ما الذي كان يسعى إليه هذا الفيلسوف الفقير في "رأس المال" والذي "أَقَـامَ بِالضَّجَّـةِ الدُّنْيَـا وَأَقْعَـدَهَا"؟ هل يمكننا القول بأنه من أولئك الفلاسفة الكبار الذين يتمتعون بقدرة مذهلة على الاستمرار، فقد تكامل مشروعه المشاعي فكرياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، فهو الذي أطلق هذه الحركة المشاعيَّة التي انتظم فيها ملايين الجياع في شتى القارات، وأدت إلى تحسين جذري في معيشة الكادحين على نطاق كوكب الأرض، وهذا ما سعى إليه من تأليف كتابه المشهور رأس مال.

وهل يمكننا القول مع شاعر العراق الأكبر محمد مهدي الجواهري:

وَلِلْكَآبَـةِ أَلْـوَانٌ، وَأَفْجَعُــهَا
أَنْ تُبْصِرَ الفَيْلَسُوفَ الحُـرَّ مُكْتَئِبَـا

تَنَـاوَلَ الرَّثَّ مِنْ طَبْـعٍ وَمُصْطَلَـحٍ
بِالنَّقْـدِ لاَ يَتَأبَّـى أَيَّـةً شَجَبَـا

وَأَلْهَـمَ النَّاسَ كَيْ يَرضَوا مَغَبَّـتَهُم
أَنْ يُوسِعُوا العَقْلَ مَيْدَانَاً وَمُضْطَرَبَـا

وَأَنْ يَمُـدُّوا بِـهِ فِي كُلِّ مُطَّـرَحٍ
وَإِنْ سُقُوا مِنْ جَنَاهُ الوَيْـلَ وَالحَرَبَـا

لِثَـوْرَةِ الفِكْـرِ تَأْرِيـخٌ يُحَدِّثُنَـا
بِأَنَّ أَلْفَ مَسِيـحٍ دُونـهَا صُلِبَـا

ليسمح لي القارئ هنا بالعودة إلى تلميذ ماركس النجيب لينين الذي يقول في مقال منشور في جريدة "البرافدا" العدد 251 السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1921:" حين ننتصر في النطاق العالمي، سنصنع من الذهب، كما أعتقد، مراحيض عامة في شوارع بعض أكبر مدن العالم. وسيكون ذلك أعدل استعمال للذهب واوضحه دلالة للأجيال التي لم تنس أنه بسبب الذهب ارتكبت أبشع المجازر بحق الإنسان"

حلمان يتخطيان الشجاعة إلى الجسارة في قول لينين: حلم انتصار الجياع وبناء مجتمع العدل والوفرة، وحلم التخلي عن الملكية، وجعلها مشاعاً بين الناس. تحوَّل لينين في حياته إلى طاقة روحية خالصة مستثمرة لأجل الجياع. لقد أهلك نفسه من أجل الفقراء المساكين. وهذه من نوادر التاريخ، إذ المعتاد أن يهلك الحاكم نفسه من أجل نفسه.

حكم لينين دولة مترامية الأطراف فترة قصيرة إلا أنه لم يخص نفسه بشيء من خيراتها، بل اختار الفقر وحتى الجوع فمات سريعاً. لو عاش لينين بضعة أعوام أخرى لاقترب من تحقيق حلمه في مجتمع لا مالك فيه ولا مملوك ولا قامع ولا مقموع، مجتمع مشاعي كما تبلور في وجدان أهل الحكمة والفلسفة. وهؤلاء الأبدال، ومنهم ماركس ولينين، كما يسميهم هادي العلوي البغدادي-طيَّب الله ثراه- حاولوا عمارة الأرض بالعدل، فما أفلحوا. وكان ما كان مما لست أذكره/ فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر.

اللَّحظة الماركسيَّة التي نتحدث عنها تمثلت في هذه الجسارة التي ميزت ماركس عن غيره في تلك اللحظة التاريخية التي عاش فيها من خلال الابداع والابتكار والجرأة على تحطيم المألوف من العادات والتقاليد والوضع القائم. هل كان ماركس في لحظته التاريخية تلك في مزاج "بروميثيوس" وكانت تقاليده العقلية اغريقية وعملية أكثر منها وسيطة وأدبية ومثاله الأخلاقي هو "يوتوبيا" يكون فيها "التطور الحر لكل فرد شرطاً لتطور الكل وفي النهاية فالمحرك لكل القوانين والمؤسسات هو مدى ما توفره من إمكانيات لكل الأشخاص لتنمية ذاتهم إنماء كاملاً حراً" على حد تعبيره. ويميز هذا الاعتقاد في الحرية، والمساواة، والشخصية الفردية، ويفترق به ماركس عن كل أهل "العقيدة الماركسية" الذين استشهدوا باسمه واستظلوا بظله.