مقومات التنظيم الثوري ودورها في استنهاض اليسار الماركسي العربي


غازي الصوراني
2021 / 6 / 3 - 12:18     


لا يمكن الحديث عن أزمة اليسار العربي ، وأسباب حالة الانكفاء والتهميش التي وصل إليها اليوم دون مراجعة تاريخ هذه الحركة ، والوقوف أمام أخطائها ومنعطفاتها على مستوى التكتيك والاستراتيجيا ، ذلك إن النظرة التقويمية لحركة اليسار العربي ، تفتح باب الأسئلة حول تجارب الأحزاب اليسارية العربية . بجناحيها الشيوعي والماركسي القومي .
ان ما ينقص قوى اليسار اليوم -خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي- هو امتلاك مقومات التنظيم الثوري بكل مفاهيمه النظرية والعملية بما يكرس الديمقراطية داخل الحزب ، وذلك مشروط بتوفرالدافعية الذاتية او الشغف والايمان الواعي العميق بمعنى الالتزام والانتماء بمبادئ الحزب عبر امتلاك الوعي الماركسي الثوري في صفوف قواعده وكوادره ( الانتماء هو الانتساب والاعتزاز والاشتراك ، أما الالتزام فهو ضريبة أو ثمن يدفعه الإنسان ليحتفظ بانتمائه.)، فبينما تتوفر الهمم في أوساط الجماهير الشعبية واستعدادها دوما للمشاركة في النضال بكل اشكاله ضد العدو الامبريالي والصهيوني ، وضد العدو الطبقي المتمثل في انظمة التبعية والتخلف والاستغلال والاستبداد والقمع ، الا ان احزاب وفصائل اليسار لم تستثمر كل ذلك كما ينبغي ولا في حدوده الدنيا ، لأنها عجزت – بسبب ازماتها وتفككها ورخاوتها الفكرية والتنظيمية - عن إنجاز القضايا الأهم في نضالها الثوري، رغم التضحيات الغالية التي قدمتها طوال تاريخا.
لذلك فان قوى اليسار العربي بحاجة ماسة اليوم إلى مراجعة التنظيم وأسلوب العمل بمنهجيه ديمقراطية نقيضة للبيروقراطية والمركزية الشديدة ، لكي تستلهم – في المناخ الديمقراطي الداخلي -شكل وروح التطورات السياسية والمجتمعية والفكرية والعلمية والتكنولوجية الحديثة وتتفاعل معها، بما يسمح للحزب بإعادة ترتيب البيت الداخلي والفعل المباشر في المجتمع والالتحام بقضاياه المطلبية.
وفي هذا السياق يمكن الاستشهاد ببعض الملاحظات المنهجية حول التنظيم من وجهة نظر الفيلسوف الماركسي "جورج لوكاش " التي تناولها في كتابه "التاريخ والوعي الطبقي " الصادر عام 1922 ، وهي ملاحظات وأفكار ما زالت تمتلك عناصر ومقدمات الرؤية الموضوعية لحل المشكلات التنظيمية حتى يومنا هذا، وخاصة في بلادنا العربية، وتجارب الأحزاب والحركات الماركسية فيها، بالنظر إلى حالة التخلف السائدة التي تؤكد الحاجة إلى إعادة قراءة أفكار هذا المفكر الماركسي، من قبل كافة القوى اليسارية العربية عموماً وجبهتنا الشعبية خصوصاً.
يرى جورج لوكاش أن المشكلات التنظيمية تمثل جزءا من المسائل التي لم تحظ بعد بإنشاء نظري معمق، بالرغم من أنها كانت في بعض الأوقات –على سبيل المثال عند مناقشة شروط الانتساب إلى الأحزاب الثورية- في مقدمة أسباب الصراعات الأيديولوجية.
فالمسألة التنظيمية ما تزال -للأسف- تعتبر مسالة تقنية خالصة، لا مسالة فكرية أساسية من مسائل الثورة، وليس ذلك لان هناك نقصا في المادة يحول دون تعميق مسالة التنظيم نظريا، بل على العكس، فالمادة وفيرة غزيرة، لكن يبدو أن الاهتمام النظري للأحزاب اليسارية العربية قد استأثرت به واحتكرته مشكلات الوضع الاقتصادي والسياسي وما يتفرغ عنها من نتائج تكتيكية، الأمر الذي حال دون ايلاء مسالة التنظيم أهميتها الحيوية والايجابية، كما حال دون إرسائها في النظرية الثورية" وهنا يعيد "لوكاش" التأكيد على صحة مقولة لينين: " لا يمكن فصل المسائل السياسية ميكانيكياً عن مسألة التنظيم".
فإذا كانت المسالة التنظيمية مسالة أساسية، بوجه عام، من مسائل العمل الثوري، فإنها تأخذ أيضا في بلدان العالم الثالث وبلدان الوطن العربي أهمية خاصة، فالحزب أو الجسد التنظيمي يمثل العامل الذاتي في التطور، في حين تشكل علاقات الإنتاج والوضع الاجتماعي _ الاقتصادي ما يمكن تسميته بالعامل الموضوعي، والحال إن أهمية العامل الذاتي في بلادنا كما في بلدان العالم الثالث المتخلف أو الضعيف التطور اقتصاديا تفوق أضعافا مضاعفة أهميته في بلدان الغرب المتطورة اقتصاديا، ففي بلادنا، ما زالت الطبقة العاملة هنا ضعيفة، هزيلة النمو، ولا تؤهلها شروطها الاقتصادية_ الاجتماعية الموضوعية لان تفرز عضوياً حزبها السياسي الطليعي، كما أن الحتمية الاقتصادية الوحيدة هنا هي حتمية الانتقال من النظام شبه الإقطاعي، شبه القبلي والعشائري، إلى أشكال بدائية ووسطية من الرأسمالية الرثة، المرتبطة بل الخاضعة أصلا للامبريالية العالمية، وهذا على وجه التحديد ما يعطي العامل الذاتي، الحزب الثوري، في كافة أقطار الوطن العربي، أهمية فائقة، فالمطلوب من الحزب الثوري في هذه البلدان أن يخلق وحدة العمال والفلاحين الفقراء والكادحين، وان يخلق دورهم القيادي معاً بالرغم من ضعف وعيهم الطبقي، فالمطلوب من الحزب لا أن يعرف كيف يستغل الشروط الموضوعية للانتقال إلى الاشتراكية_ فمثل هذه الشروط لا وجود لها في بنية الاقتصاد أو المجتمع _ وإنما أن يخلق هذه الشروط.
إن مختلف التجارب قد أثبتت أن على فصائل واحزاب اليسار العربي إعادة النظر في كيفية تطبيق مفهوم المركزية الديمقراطية، ليس بمعنى نفيه، بل بتمحيصه، واخضاعه لروح وجوهر الديمقراطية والياتها التطبيقية ومن ثم إعطائه معنى أشمل مما كان عليه خلال العقود الماضية، بما يجعل من هذا المفهوم عبر الحوار والاختلاف الموضوعي أداة لتطور وتجدد الحزب بعيداً عن كل أشكال البيروقراطية والتفرد والجمود والتخلف التنظيمي من ناحية، وبعيداً عن كل الممارسات التوفيقية أو المجاملة أو الحلول الوسط او الشللية ومراكز القوى من ناحية ثانية.
هذه الأهمية الفائقة لدور العامل الذاتي في البلدان المتخلفة، تصبح أهمية استثنائية بالنسبة إلينا في كل اقطار وطننا العربي الذي لا يواجه مشكلة التخلف والتبعية فحسب بل يواجه أيضا مشكلة تحرره الوطني والديمقراطي الطبقي ومشكلة وحدته القومية.
إن التفعيل الحقيقي أو الثورة الحقيقية للحزب ، لا تحددها قناعته الفكرية أو أيديولوجيته فقط ، فلكي تتمتع الأفكار بقوة تحويليه ، من الضروري أن يكون التنظيم عاليا عبر وحدته وقوته الداخلية لدعم قوة الأفكار بقوة التنظيم ، وبقوة ووضوح الموقف السياسي ، والقضايا المطلبية الديمقراطية من المنظور الطبقي، ضماناً لانتصار الثورة الاشتراكية، من خلال الالتزام الجدلي بالأسس التي يقوم عليها الحب الماركسي الثوري وهي:
1- الأساس التنظيمي : ويتشكل أساسا من العناصر الأكثر وعيا من الطبقة العاملة، و من حلفائها الطبقيين كالفلاحين الفقراء ، والمثقفين الثوريين، و الشرائح المتضررة من البورجوازية الصغرى، و العاطلين و أشباه العاطلين.
أما المبادئ الأساسية للحزب الماركسي الثوري : فهي تتحدد- وفق انظمته وقوانينه والياته الداخلية - وتاخذ أسسها من المقولات التالية التي يتوجب ان تنطلق اساسا من الالتزام الواعي بمفهوم الديمقراطية وتطبيقاته: 1) النقد و النقد الذاتي. 2) المحاسبة الفردية و الجماعية. 3) خضوع الأقلية لرأي الأغلبية في اطار الحوار الديمقراطي . 4) القيادة الجماعيةالتي يتوجب انتخابها لمدة يجب ان لا تزيد عن اربع سنوات لضمان عملية التجدد والتطور الديمقراطي .
2- الأساس الأيديولوجي أو الفكري : نظرية الحزب الثوري باعتباره حزبا للطبقة العاملة لا يمكن أن تكون إلا النظرية الماركسية أو الاشتراكية العلمية بشقيها : المادية الدياليكتيكية، و المادية التاريخية في تطبيقاتها- عبر المنهج المادي الجدلي - على واقعنا الوطني والقومي العربي، و المناضل المنتمي إلى الحزب الثوري لابد له من التسلح بهذه النظرية ومنهجها ، ويحرص على مواكبة مسارها التطوري المتجدد حتى لا تتحول الى مقدس او عقيدة جامدة ، والرفيق الذي لا يتسلح بالماركسية يبقى عرضة للأخطار و المنزلقات الفكرية ، و خاصة منها ذات الطبيعة الإصلاحية الليبرالية أو اليسارية العدمية والانتهازية .
3- الأساس السياسي : وهو مدخل الرفاق للارتباط بالجماهير عبر فهم واستيعاب مضمون مبادىء وبرامج الحزب، وبالتالي فإن فهم الرفاق لهذا الاساس السياسي هو تجسيد لممارساتهم على الصعيد الوطني التحرري وعلى الصعيد الديمقراطي المطلبي وفق المنظور الطبقي الذي يمس كافة الجوانب الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية والسياسية والقانونية وقضايا المرأة والشباب والنقابات والعمل الجماهيري عموماً، التي تشكل في مجملها منظومة من الحقول التي يصعب الفصل بينها، و التي تتحدد في إطار برنامج الحزب السياسي المرحلي، والاستراتيجي.
ولذلك فالحزب الثوري يبلور مواقف سياسية مرحلية تتناسب و الشروط الموضوعية المتغيرة، كما تتناسب و حاجات وطموحات الجماهير الشعبية الكادحة، بحيث لا تمر مناسبة دون أن يحدد الحزب الثوري موقفه منها، انطلاقا من البرنامج العام ، و الذي يشرح الوضعية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية محددا موقف الحزب منها، و طارحا البديل الذي يعمل المناضلون الحزبيون على تحقيقه من خلال عملهم في مختلف المنظمات الحزبية و الجماهيرية.
أخيراً ، في مناسبة الأول من أيار هذا العام وفي ظروف الانحطاط العربي، أقول إن أحزاب وفصائل اليسار العربي أمام خيارين لا ثالث لهما ، إما استلهام ووعي المسار التطوري المتجدد للماركسية أو دخول هذه الأحزاب مرحلة التفكك والاندثار في انتظار الجديد، الذي سيولد حتماً من بين صفوفها أو من خارجها
أقول لكل من يعتبر أن الماركسية قد كفت عن كونها نظرية ثورية، انت مخطئ كل الخطأ، وكذلك الأمر بالنسبة لكل من يحكم على مستقبل الاشتراكية على ضوء حاضرها المأزوم، فلا زالت شعوب ما يسمى بالعالم الثالث تعاني من: السيطرة الامبريالية والتبعية والتخلف، و التفاوت الطبقي, والاستغلال والقهر الطبقي, ولم يحدث في تاريخ البشرية أن بلغ إستغلال فائض القيمة للشعوب الفقيرة والتابعة ، والقهر الاجتماعي والإفقار، المستوى الذي وصل إليه اليوم، إلى جانب كل أشكال العدوان والحروب التي تمارس لحماية مصالح النظام الرأسمالي كما هو الحال في بلادنا.
ما يعني أن الاشتراكية اليوم باتت ضرورة حتمية كتتويج للديمقراطية والحداثة وتخليص مجتمعاتنا من كل مظاهر التخلف والتبعية والاستغلال والاستبداد، إذ ليس ثمة خيار آخر –خاصة لبلداننا العربية والعالم الثالث- فإما الاشتراكية أو مزيد من التبعية والتخلف والاستغلال والاستبداد.
أرى أنه ليس من المغالاة في شيء، إذا قلنا بأن ما يسمى بأزمة الماركسية في بلادنا ، هي انعكاس –بهذا القدر أو ذاك- لأزمة وتخلف المجتمع والفكر السياسي العربي ارتباطاً بالمسار التطوري التاريخي المشوه .
إضافة إلى كل ما تقدم، نستطيع الكشف عن مظهرين آخرين من مظاهر أزمة الماركسية في البلدان العربية ، أولهما: عدم استخدامها كفلسفة نقدية في تشخيص ودراسة خصوصية التطور الاجتماعي الاقتصادي العربي، وانماطه وثقافته المختلفة كلياً عن الانماط التي سادت في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، والثاني: عدم تمحورها على المستقبل، بسبب عدم توجيهها صوب فكرة الثورة الديمقراطية والتقدم بوصفها عملية تَخَطِّ وتجاوز مستمرة، ليس لأنظمة التخلف والمشيخات القبلية الشبه إقطاعية فحسب ، بل أيضاً لما كان يسمى بأنظمة "البرجوازية الوطنية ".
وكما نتفق جميعا بأن الدرس الذي يمكن استخلاصه بالنسبة إلى كفاح الشعب عموما وجماهير العمال والفلاحين الفقراء خصوصا ،هو ان الرجعية تكتسب في ظل تفشي الورم الانتهازي القدرة على دق اسفين في خاصرة الحركة الثورية ، وبالتالي قطع الطريق امام الثورة.
فالانتهازية تزرع الأوهام بين الجماهير لكي تحرفها عن النضال الفعلي ، لكي يتعزز النظام الاستبدادي الكومبرادوري الرجعي الحاكم ، ولكي تجني الطغم الحاكمة مزيداً من الأرباح ومراكمة الثروات المنهوبة ، وبالتأكيد فان الانتهازية لا تفعل ذلك دون مقابل فهي تزيد من وراء إداء تلك الخدمات التموقع في السلطة وبالتالي الفوز بنصيبها من الثروات المنهوبة ، لذلك فان القوى الثورية بحاجة إلى جهد متعاظم لمحاربة تأثير الانتهازية وفضح رموزها والقضاء نهائيا عليها بما يمكن الثوريين من استكمال مهماتهم النضالية ضد انظمة التبعية والاستغلال والانتصار عليها معلنة بداية عهد جديد تسوده الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية.
أيها الرفاق ، أن تكونوا ماركسيين اليوم، معناها أن تقاوموا هذه الحركة الصهيونية، وليدة النظام الرأسمالي وربيبته، وأن تقاوموا نظام العولمة البشع ، لا أن تستهلكوا بضاعته الفكرية الرخيصة من الواقعية الى الليبرالية ، أن تكونوا ماركسيين ، يعني أن تكونوا حاضنة دافئة للجماهير العفوية، تحترمون كل تراثها ومعتقداتها وتتعلموا منها ، فأن تكون ماركسياً، يعني أن تنظر إلى الدين على أنه وعي اجتماعي وجزء هام ورئيسي من الوعي الإنساني، استطاع أن يلعب دوراً في تحرير الإنسان من الاستغلال عندما أحسن التعاطي مع أفكاره وجوهره عموما وفي بداياته الاولى خصوصا .
وأخيراً أن تكون ماركسياً، هو أن يتكامل وعيك أيها الرفيق، فتنهل من النظرية وتدرك منهجها ادراكا ذاتيا ، وتؤسس لك أرضية صلبة تنطلق منها للعمل النضالي والديمقراطي، الوطني والقومي والإنساني، لا أن تأخذ السياسة على حساب الفلسفة، فالجزء يكمل الكل، ولا تنفصل النظرية الماركسية ومنهجها بالنسبة لنا وفي كل الظروف عن العمل السياسي، فإذا ضاع الجزء، ضاع الكل ، وضاعت معه هوية أحزابنا الفكرية.
أن تكون ماركسياً هو أن تعمل على أن يكون وطننا العربي كله، وطن لأبناءه ، وطناً مستقلاً حراً موحداً تسوده الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، يبنيه ويحميه أبناءه من الفقراء والكادحين بإرادتهم الجماعية الحرة، وبقيادة أحزابنا اليسارية الماركسية العربية.