حول مفهوم الحزب الثوري


محمد حسام
2021 / 6 / 3 - 09:31     



لقد كان تاريخ البشر دائماً، منذ انقسام المجتمع إلى طبقات، هو تاريخ انتفاضات جماهيرية ومحاولات تحرر جماعية. تاريخ الرأسمالية نفسه هو سلسلة كاملة من التشنجات الاجتماعية والثورات التي فشل أغلبها في تغيير المجتمع. لكن هناك بعض النماذج المضيئة والبطولية مثل الثورة الروسية في أكتوبر 1917، التي أثبتت -وهي كانت واحدة في قلب حقبة ثورية- أن الطبقة العاملة قادرة على إسقاط الرأسمالية والاستيلاء على السلطة السياسية.


الفارق الجوهري بين الثورة الروسية في أكتوبر 1917 والثورة الألمانية التي قامت بعدها بعام واحد فقط في عام 1918، هو الحزب الثوري والقيادة الثورية الجاهزة في روسيا إبان الثورة. الثورتين كانتا عماليتين، بل إن الطبقة العاملة الألمانية أكثر قوة كماً وكيفاً من الطبقة العاملة الروسية خصوصاً في حينها، الثورتين انتجتا مجالس عمالية، وانتجتا وضع “ازدواجية سلطة”، كان الفارق أن في روسيا كان هناك الحزب البلشفي، حزب ماركسي ثوري له علاقات وثيقة بالطبقة العاملة، حزب كان يتميز بالوضوح والحزم النظري والبوصلة السياسية الثورية والصحيحة التي تهدف لإسقاط النظام الرأسمالي وليس عقد تحالفات مع البرجوازية.

اليوم بعد أن شهدنا كثيرا من الثورات المهزومة، خصوصاً في منطقتنا، ونحن نشهد بداية صعود ثوري جديد على الصعيد الإقليمي والعالمي، هناك حاجة ماسة لأن نتعلم أحد أهم دروس الثورات التاريخية والمعاصرة، هو أن ثورة بلا قيادة ستؤول السلطة في النهاية لأعداء العمال والفقراء.

لماذا نحتاج إلى حزب؟
نحن، الماركسيون، نعتقد اعتقادا تام أن تحرر الطبقة العاملة هو بيد الطبقة العاملة نفسها، وأن الطبقة العاملة ذات غريزة اشتراكية وثورية، لكننا في نفس الوقت ندرك أن الأفكار السائدة في المجتمع هي أفكار الطبقة السائدة والحاكمة، هذا هو التناقض الذي من المنوط بالحزب الثوري حله.

الطبقة العاملة ليست جسم صامت ومتناسق، الطبقة العاملة تحمل خليط من الأفكار بعضها ثوري وتقدمي وبعضها الآخر محافظ ورجعي. هناك قسم من العمال -أقلية- يؤيدون الرأسمالية وتقسيم المجتمع إلى طبقات والعمل المأجور، وهم غالباً البيروقراطية المنتفعة وكبار الموظفين والمدراء، وهناك قسم آخر -أقلية في الأوقات العادية والمستقرة فقط- يرفض النظام الرأسمالي ويناضل من أجل إسقاطه، وهؤلاء هم الثوريون. أما الأغلبية، لا يتبعون رؤى فكرية معينة في الأوقات العادية، فهم يرفضون جزء من أفكار الطبقة الحاكمة وممارستها مثل الظلم والقمع والإفقار لكنهم يتشبعون ويستسلمون للبعض الآخر من الأفكار. هذا الخليط داخل الطبقة العاملة الواحدة هو المعضلة التي يتوجب على الماركسيين وحزبهم حلها.

هذا بالإضافة إلى أن الطبقة العاملة المستغلة تناضل دائماً من أجل تحسين حياتها، لكنها في أغلب الأحيان تكون فاقدة للإيمان بإمكانية تغيير المجتمع، نتيجة الأفكار التي زرعتها الطبقة الحاكمة في المجتمع حول نهاية التاريخ والقمة النهائية لتطور المجتمع البشري وما إلى ذلك من الهراء، وهذا طبيعي كل نظام اجتماعي يظن أنه نهاية التاريخ.

باختصار، مهمة الحزب الثوري هو حل التناقض بين النزعات الثورية للطبقة العاملة والأفكار المحافظة والرجعية -أفكار الطبقة الحاكمة- الراسخة في المجتمع. خصوصاً في أوقات الثورة حينما تصعد الجماهير خشبة مسرح التاريخ لكنها مازالت محملة بإرث الماضي الغابر بجميع تناقضاته ومخلفاته.

كم أننا نحتاج الحزب لتنظيم الصفوف والقوي الطبقية للعمال، كما قال ماركس “الطبقة العاملة بدون حزب هي مادة خام للاستغلال”، الحزب الثوري هو تلك المنظمة التي تحتوي على دروس الطبقة العاملة المحلية والعالمية وتضم أفضل عناصر وجنرالات الثورة والعمال.

أي حزب نريد؟
تاريخ الماركسية ملئ بالنقاشات وأحياناً المعارك حول، أي حزب على الماركسيين أن يبنوا؟ وما طبيعة أعضائه وقياداته؟

ومن أهم الدروس التاريخية هو تاريخ بناء الحزب البلشفي، ونضال لينين ضد الاقتصادوية والصيغة الفضفاضة الخاصة بـ مارتوف والمناشفة.

كان هناك تيار ومازال ينادي بأن العمال لا يهتمون إلا بالقضايا المعيشية أو الخبزية، يصرخون بأن العمال لا يهتمون بالقضايا السياسية والنظرية، وينصحونا بأنه إن كنا نريد كسب تأييد العمال فعلينا أن لا يتعدى حديثنا مسائل زيادة الأجور وشروط العمل…الخ، أما الحديث عن الاشتراكية والماركسية والعمل المأجور والدولة الرأسمالية.. الخ، فهذا سينفر منا العمال.

في هذه المزاعم تحقير مزدوج، فهي تحقير للعمال بوصفهم أنهم لن يفهموا المسائل النظرية، وهو أيضاً تحقير للنظرية الماركسية بكونها لا تلبي تطلعات العمال ولا تجيب على أسئلتهم. بالتالي نحن ندافع عن شكل مختلف تماماً من التنظيم الحزبي، تنظيم حزبي نابع من أهدافنا، فليس هدفنا النهائي هو رفع الأجور أو تقليص الضرائب على العمال والفقراء، رغم أهمية هذه المطالب ودعمنا لها والنضال من أجل انتزاعها، ولكن هدفنا الأسمى هو إسقاط الرأسمالية، إلغاء عبودية العمل المأجور، إلغاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. لذلك فطبيعة الحزب الثوري مختلفة عن العمل النقابي التقليدي.

نحن نسعى لبناء أحزاب تضم طليعة العمال والشباب الثوري، هؤلاء الذين يناضلون في الصفوف الأمامية في الإضرابات والاحتجاجات، هؤلاء الذين يبحثون عن حل ثوري لأزمة المجتمع. وهذا يحيلنا إلى نقطة الاختلاف بين لينين ومارتوف حول عضوية الحزب والذي كان فاتحة كثير من الخلافات النظرية التي أدت إلى انشقاق الحزب فيما بعد.

كان البلاشفة بقيادة لينين ينادون بأن عضو الحزب لابد أن يكون موافقاً على برنامجه ويقدم دعمه المادي للحزب ويشارك شخصياً في عمل أحد أجهزة الحزب. أما مشروع المناشفة بقيادة مارتوف فكان يختلف عن مشروع لينين في شيء واحد فقط، في الوقت الذين كان يطالب لينين فيه أن يشارك العضو في عمل أحد أجهزة الحزب، كان مارتوف يطالب بصورة أكثر غموضاً وتراخي، كان يطالب بتعاون شخصي ومنتظم تحت أجهزة الحزب. قد يكون الفارق لا يذكر، لكنه كان يمثل الفارق بين الثورية والصلابة من ناحية والإصلاحية والتراخي والانتهازية من ناحية اخري، كان يمثل الفارق بين الانتصار والهزيمة.

لينين أراد تحقيق وحدة ومركزة حزبية قصوى عبر إلزام الأعضاء بحضور الاجتماعات الحزبية رغم روتينيتها في أوقات ما قبل الثورة وبيروقراطيتها في أوقات العمل الثوري. اليوم يجب أن نتمسك بهذه الركيزة، ركيزة أن يكون أعضاء الحزب أشخاص طلائعيين وفاعلين عن طريق ديمومة الاجتماعات الحزبية إذا كنا نسعى لبناء تنظيم ثوري يمثل نواة المجتمع الجديد داخل المجتمع الرأسمالي.

على الجانب الآخر، يجب أن يبذل الحزب الثوري قصارى جهده لكي لا يقع في خطر الاستبدالية والنخبوية. صحيح أن الوعي داخل الطبقة العاملة متفاوت، وصحيح أن الحزب الثوري يسعى لكسب طليعة العمال والجماهير لصفوفه، العناصر الأكثر شجاعة وكفاحية والأشد تصميماً على الانتصار ووعياً لمهمتهم الطبقية، لكن في نفس الوقت الحزب الثوري يسعى لكسب تأييد الطبقة العاملة، وإقناع أكبر عدد ممكن من العمال بأن الطريق الثوري هو الحل. فكما قلت في البداية نحن ندرك أن التحرر الحقيقي والتام للطبقة العاملة هو بيد الطبقة العاملة، لذا لا يمكن أن يكون الحزب هو كل الطبقة العاملة. مهمة الحزب الذي يضم طلائع العمال والجماهير هو إرشاد بقيتهم الذين مازالوا يحملون أرث الماضي طريق الانتصار.

لذا لا يجب أن يتوهم الحزب الثوري أنه قادر على إنجاز مهمة التغيير الثوري للمجتمع بدون تأييد والاشتباك النشيط والواعي للطبقة العاملة. الحزب هو أحد مصادر الطبقة العاملة للتعلم بوصفه ذاكرتها، إلا أنه في نفس الوقت يتعلم منها ليؤكد صحة نظريته وتكتيكاته أو يعدلها.

وهناك أمثلة كثيرة عن خطر الاستبدالية ومآلاتها، برغم ثورية ونقاء وإخلاص الأشخاص الذين وقعوا في هذا الخطأ. انتهى بهم المطاف إما بالانعزال عن الجماهير والعصبوية المدمرة، وإما في حالة النجاح والاستيلاء على السلطة، يتحول هؤلاء في أحسن الأحوال لمسخ بيروقراطي في أعلى هرم السلطة.

مسألة أخرى مهمة يجب أن يوليها الحزب الثوري أهمية قصوى، وهي مسألة الحزم النظري. النظرية هي أساس التنظيم الحزبي، هي التي تجعل من الممكن قيام تنظيم حزبي من الأساس، وأي تطور لاحق ستكون النظرية هي أساسه لامحالة وإلا لن يحدث. كما أنه في معرض اشتباك الحزب مع الجماهير هو معرض دائماً للضغط وخطر التنازل أو التأثر بالأفكار السائدة والمحافظة، الضمانة لعدم تذيل العمال والجماهير هو التكوين النظري الصلب والحزم النظري داخل التنظيم الحزبي.

أخيراً، كما قال الماركسي البريطاني تيد غرانت، يجب أن يتحلى الحزب بروح النسبية، أن يعلم ويحدد جيداً أين هو، وما هي قواه، وما هي إمكانياته وامكانيات أعضائه، وما هو مدى تأثيره ونفوذه في الطبقة العاملة والمجتمع، ليستطيع أن يحدد التكتيكات المناسبة، لكي لا يقع في فخ اليسارية المتطرفة أو الاحساس المبالغ فيه بالأهمية، فينتهي به الحال بتكتيكات وخطابات طفولية تؤدي حتماً للانعزال والتحطم.

لا أن يهول الحزب من قدراته فيتحول لمجموعة من المراهقين الثوريين الذين يريدون الاستيلاء على السلطة وهم لا يتعدون بضع عشرات، ولا أن يهون من قدراته فتبلع أعضائه البيروقراطية ويتجاوزهم الزمن ويتحولوا إلى نادي من القراء المطلعين، وما أكثرهم هذه الأيام. على التنظيم الحزبي أن يحدد لنفسه دائماً أهداف طموحة ويسعى لتحقيقها، ولكنها متناسبة مع قدراته الكمية والكيفية والظرف الموضوعي.

الحزب والإصلاحات
هذا التصور عن الحزب يعطي أحياناً انطباع خاطئ أن الحزب الماركسي هو حزب دغمائي، يرفع دائماً وأبداً شعار الاستيلاء على السلطة، ولا يهتم بالنضالات المطلبية والنقابية، هذا تصور خاطئ تماماً عن الماركسيين وحزبهم، نحن ندعم كل المكاسب الممكن انتزاعها، نحن لسنا طفوليين أو دغمائيين، ونعرف أن الثورة هي استثناء التاريخ وليس قاعدته.

الحزب الثوري يناضل من أجل الاصلاحات ومن أجل انتزاع كل المكاسب الممكنة مع العمال والجماهير، مثل رفع الأجور أو مطالبة بدعم أو تقليل البطالة أو حملة للإفراج عن المعتقلين…الخ نحن ندعم أن تنتزع الجماهير كل تلك المكاسب من النظام وندفع من أجل انتزاعها إن أمكنتنا قوانا، وهذا من بين الاختلافات النظرية بين الماركسيين واللاسلطويين.

ولكننا أيضاً نختلف عن الاصلاحيين في أننا لا نرى تلك الإصلاحات هي النهاية أو الهدف في ذاتها، وإنما نرى في النضال من أجل انتزاع تلك الإصلاحات أفضل مدرسة نضال للعمال والجماهير، يستطيعون أن يتعلموا من خلالها الكثير عن المجتمع وطريقة سيره وعن الدولة ومن تحمي ومن تقمع. كما أننا في معرض اشتبكنا ونضالنا الدائم مع العمال والجماهير من أجل انتزاع الإصلاحات نربط دائماً بينها وبين هدفنا النهائي، وهو إسقاط النظام الرأسمالي، نستغل كل حدث وكل احتجاج من أجل انتزاع إصلاحات ومن أجل الدعاية المضادة للرأسمالية.

آلية عمل الحزب الثوري
لنتحدث الآن عن كيف يسير الحزب عمله؟ ما هي آلية اتخاذ القرارات وانتخاب القادة وآلية المحاسبة وضمان عدم انحراف القادة.

أحد أهم المفاهيم الماركسية في التنظيم هو مفهوم “المركزية الديمقراطية”، بمعنى أكبر قدر من النقاش والسجال وتصارع الأفكار والرؤى قبل اتخاذ القرار مع أكبر قدر من الفاعلية والوحدة والانضباط بعد اتخاذ القرار. والعلاقة بين المركزية والديمقراطية في الحزب الثوري هي علاقة جدلية وليست ثابتة.

نحن لسنا طفوليين وندرك أنه في ظروف معينة لا وقت للنقاش والاجتماع مثل الهجمات الأمنية أو أن تباغتنا الحركة، حينها يجب أن تترجح كفة المركزية لضمان أكبر قدر من الوحدة ممكنة، ثم بعدها يأتي وقت تقييم ومحاسبة القادة، وهنا يأتي مبدأ مهم هو حق الانتخاب والعزل للمسئولين في الخلايا الثورية داخل التنظيم أو الحزب، أن يخضع كل مسؤول تنظيمي للرقابة والمحاسبة.

في المؤتمر الحزبي على سبيل المثال تترجح كفة الديمقراطية بشكل كامل، فيحدث أكبر قدر من النقاش ليتحدد الخط السياسي للحزب، لكن بمجرد التصويت واتخاذ القرارات ديمقراطياً، ويجب أن نأتي لحظة ونضطر لوقف النقاش ولننهي المسائل بالتصويت لكي لا يتحول الحزب لساحة استعراض اللغة والخطابة ويبدأ العمل، حينها يجب أن يخضع الجميع لقرار الأغلبية، التي ستنتخب قيادة تؤيد الخط السياسي والاستراتيجية المتفق عليهم وتضع مهام وتكتيكات لتدفع باتجاهه، مع الحفاظ على حق الأقلية في التعبير عن وجهات نظرها داخلياً وفي الاجتماعات الحزبية، لأن القيادة السياسية والثورية سلطتها الأساسية هي معنوية وليست سلطة بيروقراطية أو مكتبية، سلطتها الأساسية تنبع من صحة وجهات نظرها السياسية وصحة تكتيكاتها وليست من تحكمها في آلة الحزب.

المركزية الديمقراطية بجانب دورية الاجتماع والنقاش هو الضمانة لخط سياسي سليم، وخط دفاع أساسي ضد الانحرافات داخل الحزب سواء في القيادات أو القواعد.

خاتمة
نحن نعيش في فترة زمنية شديدة الاضطراب، أزمة اقتصادية واجتماعية طاحنة. وسنشهد مزيد من الانتفاضات والثورات الجماهيرية في أنحاء مختلفة من العالم، لم تعد أي بقعة في العالم في مأمن من احتدام الصراع الطبقي. الرأسمالية وصلت إلى طريق مسدود، وكل الشروط الموضوعية أصبحت ناضجة على المستوى العالمي بما فيه الكفاية لتغيير المجتمع العالمي، ما ينقص هو العامل الذاتي، الحزب الثوري والقيادة الثورية.

كما قال ليون تروتسكي “الأزمة التاريخية التي تعانيها الانسانية تتلخص في أزمة القيادة الثورية”. هذه هي المهمة الوحيدة التي تستحق أن يفني فيها المرء حياته، هي أشرف وأهم مهمة على الماركسي الواعي أن يضطلع بها.

ابنوا الخلايا والتنظيمات الثورية في كل مكان!
من أجل بناء تنظيمات وأحزاب ماركسية ثورية!
تسقط حكومات رجال الأعمال!
تسقط قوات قمع الجماهير (الشرطة والجيش) لا حل سوى انتصار الثورة الاشتراكية بحكومة عمالية!
محمد حسام
مارس/آذار 2021