ماتياس شمالي


ناجح شاهين
2021 / 6 / 1 - 11:36     

وتدريبات الوكالة حول الحياد والفيس بوك
أعلن مدير عمليات الوكالة في غزة السيد ماتياس شمالي المتخصص في التنمية الاقتصادية أن ضربات إسرائيل العكسرية كانت دقيقة ومحكمة ومتقنة تقنياً وأنها تجنبت المدنيين بنجاح. من ناحية أخرى قال الرجل في حديثه ذاته مع قناة إسرائيلية أن غزة لا تحتاج إلى مساعدات من أي نوع.
حتى ظهور شمالي منذ أسبوع تقريباً على الشاشة الإسرائيلية، كنت أظن أن الوكالة تحرص على الحياد وتحرص على عدم الحديث في السياسة لأنها منظمة إغاثية إنسانية ولا "تفهم" في السياسة ولا تهتم بها. وذلك لا ينطبق على موظفيها الأجانب فحسب، وإنما يجب أيضاً على موظفيها الفلسطينيين من معلمين وموظفين صحيين وإداريين...الخ أن يلتزموا الحياد التام في الصراع الدائر بين دولة إسرائيل ومن يتنازع معها من سكان فلسطين والبلدان العربية المجاورة.
وكانت وكالة الغوث قد ألزمت العاملات والعاملين أكثر من مرة خلال العقد المنصرم بأن يقوموا بتعبئة "تعهد" أسمته الوكالة تدريباً، يتضمن التعهد بعدم إبداء أي تأييد بما في ذلك "اللايك" ناهيك عن التعليق أو المشاركة عندما يتصل الأمر بالشهداء الفلسطينيين أو العدوان على سوريا أو ما يجري من أمور تخص حياتهم اليومية بوصفهم فلسطينيين. الوكالة تزعم أنها إنما تضمن "حياد" موظفها الذي يمثل الهيئة الدولية. لكن أية هيئة دولية يمثلها عشرات الآلاف من العاملين الفلسطينيين الذين يرزحون مثل العبيد في خدمة نخبة طبقية من البيض الأوروبيين والأمريكيين؟ بالطبع لن يعترض أحد على الموظف إن هو "تدخل" في السياسة مؤيداً أمريكا أو إسرائيل، لكنه سيتهم بالإرهاب إن هو دعم حماس أو الجبهة الشعبية أو حزب الله. وهذا ما أثبته تصريح شمالي الأخير.
هناك الكثير مما لا يمكن للعين أن تخطئه في التدريب الذي أجبر موظفو وكالة الغوث الذين يعدون بعشرات الآلاف على توقيعه أكثر من مرة. وبغض النظر عن خلط الأخلاقي بما هو غير أخلاقي على امتداد التدريب الطويل، فإن أهم ما يعنينا هنا هو الوحدة الثانية وخصوصاً درسها الثالث المخصص للحياد. فهنا يواجه المرء بتدريب سياسي بامتياز. وهو تدريب في مفاهيم السياسة الليبرالية، ولا بد أن رائحة الليبرالية الأمريكية هي الطاغية كما سيتضح، لكن هناك أيضاً روائح عامة تعبق الأنوف وتفيض بالتحريض بلغة سياسية مكشوفة ضد المقاومة بأشكالها المختلفة وليس فقط النوع الذي تسمه الولايات المتحدة وحلفاؤها الذين يهيمنون على الأمم المتحدة بالإرهاب. هلمو بنا نقرأ في ثنايا هذه الوثيقة لنشاهد مفارقات الحياد الأممي الذي يرى إلى مجرد الكلام في السياسة على مسمع الناس فعلاً لا أخلاقياً بينما يرى أن وجود المرء في حزب سياسي ناشط (بل ربما يكون زعيماً لذلك الحزب) شأناً عادياً لا ينتهك الحياد. إنها سياسة الكيل بمكيالين الشهيرة، التي تجعل قتل اسرائيل للمدنيين دفاعاً عن النفس، وقتل المقاومة لجنود "جيش الدفاع" عملاً إرهابياً.
لنبدأ قراءة الوثيقة. يخبرنا الدرس الثالث من الوحدة الثانية أن الحياد يقتضي ضرورة عدم إبداء الرأي في السياسة والفكر أمام العامة لأن ذلك قد يؤثر على النزاهة والاستقلالية، وعلى الرغم من تحفظ النص بالقول إنه لا يتوقع من أحد أن يتخلى عن ولائه لوطنه، إلا أنه ينصحه أخلاقياً بأن يحتفظ بحبه في قلبه. وهو نوع جديد من الحب الذي لا يفيد أحداً، الذي تبشر به هذه الأخلاقية الجديدة التي لا تشتق أسسها من أفلاطون أو أرسطو أو كانت. فجهابذة الأخلاق المشار إليهم، يرون إلى الأخلاق بوصفها شأناً عملياً، أما حب الوطن، في عرف الوكالة، فيجب أن يتم كتمه في القلب.
تطلب الورقة في السياق ذاته التزام موظف الوكالة بعدم المشاركة في أي كيان تنفيذي أو تشريعي أو أي لجنة تابعة لدولة، وكذلك وبشكل أهم عدم المشاركة في، أو دعم أي حزب أو منظمة أو شخص يكون من أهدافه دعم أو معارضة أو التأثير في أو تحديد السياسة الداخلية أو الخارجية لأي حكومة أو حكومات. كنت أود قبل أن أسترسل في عرض هذه الوثيقة أن أسأل وكالة الغوث ما إذا كان عدم التدخل في السياسة حياداً بالمعنى الدقيق للكلمة. أليس الحياد السياسي تجاه وضع قائم موافقة على بقاء الوضع على حاله مثلما يعرف أي مبتدئ في السياسة أو الفلسفة؟ طبعاً وكالة الغوث لا ترى ذلك لأنها تنطلق من الحياد الليبرالي الذي يظن أن هناك حيادا عالم السياسة والاقتصاد مثلما بشر جون لوك. وكان سارتر قد سخر بشكل طريف من الحياد عندما كان محمد علي في قمة مجده في الملاكمة فقال: إنني عندما أشاهد محمد علي يلكم طفلاً في الرابعة من عمره وأقول إنني على الحياد، فإن ذلك يعني أمراً واحداً في حقيقة الأمر هو أنني أريد لمحمد علي أن يسحق هذا الطفل تماماً. أما معنى أن لا أناقش في العلن أية سياسة ولا أدعم أحداً له صلة بالسياسة ففحواه (يا لهول هذا الموقف، هل يدرك من وقع الوثيقة معنى ذلك؟) أنه لا يجوز لي أن أعبر بالكلام ناهيك عن الفعال عن التضامن أو حتى التعاطف مع سامر العيساوي أو أحمد سعدات أو حتى أحمد ياسين عندما قتل وهو عجوز معقد ناهيك عن آلاف الأطفال الذين حرقتهم الماكينة الإسرائيلية الجبارة في 2008 و 2012 و 2014 وفي الجولة الأخيرة من بين مئات وربما آلاف الجرائم الأخرى. هكذا تجبر وكالة الغوث الموظف الفلسطيني تحت طائلة تهديده في لقمة عيشه بإعلان أن لا علاقة له من قريب أو بعيد بشعبه وقضاياه، مع أن هذا الموظف والموظفة غالباً من قطاع اللاجئين الذي يشكل عصب قضية فلسطين وأساسها السياسي والأخلاقي والإنساني.
لكن هذا هو بداية القول لا غير. فالوكالة ترى أنه أمر لا أخلاقي أن يشارك المرء في مسيرة لدعم الديمقراطية. وهكذا فإن مفهوم الديمقراطية الساحر في الغرب ذاته ُيحظر أحياناً على الفلسطيني أن يتضامن معه. أما المشاركة في تجمعات من أي نوع أو حمل لافتات أو لبس ملابس تؤيد وجهة نظر سياسية (مثلاً الشعار "حنظلة") فهي أمور ضد الأخلاق بامتياز. باختصار تقول الوكالة لا يجوز لأحد دعم الحكومة أو معارضتها، ولا يجوز دعم أي رأي سياسي. والشيء الوحيد الذي تسمح به أخلاق الأونروا هو التصويت، ومرة أخرى نلاحظ المواطنة الليبرالية غير المسؤولة التي تتطلب من المواطن الصالح أن يصوت ثم يذهب لينام حتى موعد الانتخابات التالية، وهي مواطنة سلبية تناقض الأخلاق كما عرفها أرسطو ومونتسكيو وكانط ورولز وهابرماس وآخرون، إنها مواطنة غير أخلاقية بامتياز، ولكنها تنسجم مع ما تقترح الوكالة في وثيقتها أن تسميه تدريباً أخلاقياً.
لكن لماذا هذا الإصرار على الحياد التام والنأي بالنفس عن السياسة وآثامها؟ الجواب في النص هو: من أجل كسب ثقة الناس. لكن هل من الصحيح أن الحياد في الصراع بين اسرائيل ومخيم الجلزون أو الدهيشة يجعل أهل المخيمين مطمئنين لموظف الوكالة؟ أم يا ترى سيفكرون أنه مرتزق باع نفسه مقابل حفنة من الدولارات في أحسن الأحوال؟ لكن بيت القصيد يأتي في الجملة التالية التي تشدد على أهمية الحياد من أجل كسب ثقة المانحين ودعمهم المالي والسياسي. كنت أود هنا أن أذكر وكالة الغوث أنها ليست منظمة خيرية، وأن الشعب الفلسطيني لا يتلقى مساعدات ضد المجاعة، وإنما هي منظمة دولية أسست لغاية محددة هي التعامل مع آثار اقتلاع الشعب الفلسطيني إلى حين عودته، وأن وجودها وعملها لا يستلزم شهادة حسن سلوك يحصل عليها الشعب الفلسطيني من منظمات حقوق الإنسان الناشطة في مقاومة الإرهاب والمقاومة.
طبعاً الكلام على المانحين كلام في السياسة لا في الأخلاق، ولكن الوكالة تحضر في التدريب ممرضة فلسطينية بائسة لكي تقول الكلام ذاته لزميلاتها وزملائها الفلسطينيين حول أهمية الحياد من أجل أن نحصل على التمويل. وهكذا فإن الوكالة قد انضمت إلى أوركسترا التمويل العالمية التي تتطلب من الفلسطيني أن "يقطع علاقته بالإرهاب"، لكن الوكالة والحق يقال أكثر دقة والتزاماً لأنها تمنع حتى الكلام في السياسة أو فتح الفم إلا في عيادة طبيب الأسنان، أما الذي في القلب فهو في القلب، وليمت من يحمل غلاً في قلبه كمداً وغيظاً كما قال معاوية في خصومه السياسيين مدركاً عدم أهمية المشاعر التي لا تتحول إلى فعل ناقد أو نقد فاعل.
نستطيع بالطبع أن نذكر الممرضة التي تصر على أهمية الحياد لتقديم الخدمات بأن كون الطبيب من مؤيدي سامر العيساوي أو من عشاق غسان كنفاني أو ناجي العلي لا يمكن أن يؤثر سلباً على أدائه للعمليات الجراحية أو الوصفة الطبية التي يصفها لمرضاه، ولكن الوكالة لا تشاركنا هذا الرأي الساذج بل تواصل وعظها الأخلاقي مبينة (وهو من نافل القول بالطبع) أنه لا يجوز تمويل الإرهاب أو مساعدة الإرهابيين، وإذا اتضح أنك، بوصفك موظفاً أو حتى مستفيداً (منتفعاً)، تتعاطف مع الإرهاب فإنك تخسر حقك في الحصول على الخدمة. ومن ذلك فإن أموراً من قبيل القروض أو إصلاح المنازل لا يمكن أن يستفيد منها الجمهور الذي لا يلتزم بالأخلاق. كنت أود أن تقوم الوكالة بفحص أخلاقي للمريض قبل علاجه، لكنها تستثني خدمات التعليم والصحة من الاشتراطات الأخلاقية.
تخبرنا الوثيقة أن وكالة الغوث (هل هذا شكل من التهديد؟) تتأكد من هوية من يتقدم لشغل وظيفة لديها من حيث عدم تدخله في السياسة، وأظن أن الاحتلال ما كان يشترط عدم الكلام في السياسة لتعيين المدرسين قبل انتقال تلك المهمة للسلطة. وتقوم الوكالة أيضاً بفحص ملفه في العمل السابق، وكذلك الاسترشاد بالفحوص الأمنية للدول، ثم أن من حقها (مثلما تفعل في غزة) أن تطلب تعهداً يتجدد كل سنة بعدم التدخل في السياسة. بعد ذلك يخبرنا النص أن من حق الوكالة اتخاذ إجراءات تأديبية بحق من يتورط في السياسة فعلاً أو قولاً. وهنا يجب أن نتساءل هل الفعل الأخلاقي من جنس ما يخضع للعقوبة والإكراه الخارجيين أم هو شأن يرتبط بالضمير الأخلاقي أو الديني؟ ألا تعلم الوكالة أن الزاني في الإسلام يجلد بينما الكاذب يعاقبه الله، ومن لا يحب الناس لا يؤمن لأنه "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه." كلا لا تميز الوكالة في وثيقتها كثيراً بين السياسة والأخلاق والقانون، ونميل إلى القول إنه خلط ايديولوجي مقصود بغرض إلقاء وهم في خلد موظفيها أن مقاطعة الوطن وقضاياه أمر أخلاقي، بينما الانتماء الفعلي عمل يعارض الأخلاق، وهذه أغلوطة أوضح من أن نحاول تفنيدها.
ومن أجل أن نكشف ما تبقى من أوراق التوت على جسد الوثيقة ننتقل لتوجيهها الأخلاقي للمدرس، خصوصاً من يدرس التاريخ والاجتماعيات وحقوق الإنسان، بأن ينتبه إلى الحياد التام لأنه يعالج قضايا تخص الصراع العربي الإسرائيلي أو الفلسطيني الإسرائيلي، وهنا بالذات يجب أن تتجلى مهارته في الحياد وعدم الانحياز لشعبه الواقع تحت الاحتلال، ذلك أن النزاهة والأخلاق تقتضي أن لا يحشر المعلم نفسه في السياسة وينحاز لمخيمه ضد الاحتلال وإلا خسر ثقة سكان المخيم. يا إلهي أي نوع من المنطق يقود خطى هذه الوثيقة الغريبة!
المدرس الأخلاقي والموظف المنتمي للقيم لا بد أن يبادر إلى إزالة أية مظاهر يمكن أن يفهم منها الانحياز في الصراع (مثلاً ملصقات قد يفهم منها أنها تحرض ضد الاحتلال الاسرائيلي) ذلك أن الأخلاق تتطلب الإيجابية في هذا السياق؛ بمعنى أن الحياد هنا من منظور الوكالة يتطلب الفعل وليس الامتناع عنه، وهذا يصل حد التغيير باليد واللسان، وكذلك إبلاغ المسؤول الأعلى رتبة عما يجري من انتهاك لقواعد الأخلاق. مرة أخرى نتساءل ببراءة: هل هذا كلام في الأخلاق أم في السياسة أم في الأمن؟
بعد ذلك تطم الوكالة الوادي على القرى (على حد تعبير ابن رشد) بأن تخبر الموظف بأن هذه الالتزامات "الأخلاقية" المفصلة التي تهيمن على أدق ثنايا حياته اليومية لا تؤثر في حقوقه أو حرية إرادته في شيء. لكن الموظف المسكين يعي أنه إذا أجاب أسئلة التدريب بشكل خاطئ يعرض نفسه للتهلكة، ولذلك استعان بعضهم ببعض في فك رموز التدريب على النحو الذي يرضي فلسفة الوكالة الأخلاقية.
نود أن نختم بالعودة إلى بدايتنا، إذ بعد كل ما سمعنا ورأينا من حظر للهمس في السياسة يعود التدريب ليخبرنا أن بعض أشكال الاشتراك في الأحزاب السياسية مسموح، ويمكن من أجل حسم الشك باليقين أن نسترشد برأي المفوض العام الذي يمتلك الدراية والمعرفة التي تسمح له بتقرير أي الأحزاب تنسجم مع الأخلاق الصحيحة وأيها لا. لقد تغاضت الأمم المتحدة في أكثر من مناسبة عن وجود رؤساء أحزاب أو أعضاء مكاتب سياسية في وظائف عليا في الأمم المتحدة، لكن بوصلة ذلك هو موقف الحزب من المقاومة ومن الوطن والمواطنة، ولا يمكن لنا أن نجهل أن أحزاباً ينتمي لها أو يقودها أشخاص من قبيل ماجد أبو شرار أو أحمد سعدات أو خضر عدنان لن تنجح في أي اختبار أخلاقي أممي. ولسنا من السذاجة بمكان لنصدق أن الفحص الأخلاقي الذي يرسب فيه هؤلاء له أي صلة بالأخلاق.
التدريب الأخلاقي الموزع على اللاجئين الفلسطينيين في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان، يعني تشويه الوعي السياسي والأخلاقي لآلاف مؤلفة، جيش ضخم من الفلسطينيين الذين يشكلون نسبة ضخمة من الشرائح التي يجب أن تكون وقوداً للمقاومة خصوصاً أنهم لاجئون في معظمهم، الوكالة تريدهم فلسطينيين خلوقين لا علاقة لهم بوطنهم، بل يجب أن يعملوا ضد وطنهم بالذات، وهل يوجد مغزى آخر لمطالبة الموظف بأن يقاوم المظاهر المعادية للاحتلال بل يبلغ عنها إذا لزم الأمر؟ وإذا كان هناك من ضبابية في دوافع الوكالة فقد تبرع ماتياس شمالي وكشفها على رؤوس الأشهاد.