مصر الرسمية ليست صديقة للسودان


محمود محمد ياسين
2021 / 5 / 30 - 11:25     

في هذا المقال نتناول مسالة الانتشار الكثيف للجيش المصري في السودان وتشابكه بعلاقة مصر المعادية لمصالح السودان؛ ونكتفي هنا بالتجريد، بمعنى استبعاد كثير من العوامل المتعلقة بعلاقات السودان مع الدول الأخرى كالدول الإقليمية (دول الخليج واثيوبيا) والعالمية، التي تتداخل مع هذا الانتشار. فالغرض من المقال هو التركيز على مسالة وحيدة وهي أن حجة المصريين من هذا (التحرك) العسكري في السودان هو التعاون التدريبي مع السودان بحجة رفع مقدرات جيشه القتالية حجة مردودة، فعلاقة مصر بالسودان عبر التاريخ لم تكن الا من منطلق التعالي عليه واستغلال مقدراته لصالحها.

المشروع_التدريبي السوداني المصري المُشترك (حماة النيل)
اٟن انتشار الجيش المصري في السودان يتم تحت المشروع التدريبي السوداني المصري المُشترك (حماة النيل) خلال الفترة من ٢٦ وحتى ٣١ مايو ٢٠٢١؛ ومناورات (حماة النيل) تمثل امتدادا للتعاون التدريبي المُشترك بين البلدين وقد سبقتها مناورات نسور النيل ١ وفي ٢ في نوفمبر 2020 ومارس 2021 على التوالي؛ وفي مارس 2021 وقعت اتفاقية التعاون العسكري بين السودان ومصر التي تعتبر تطويرا لاتفاقية الدفاع المشترك التي وقعت بين الدولتين منتصف سبعينيات القرن الماضي (نميري والسادات) والتي تهدف إلى تبادل الخبرات العسكرية وتعزيز التعاون وتوحيد أساليب العمل للتصدي للتهديدات المتوقعة للبلدين.

مناورات (حماة النيل) تثير عدة تساؤلات منها أن هذا التدريب، الذي تُشارك فيه عناصر من كافة التخصصات والصنوف بالجيشين، غير منطقي في ضوء العداء الذي تمارسه مصر تجاه السودان باحتلالها لأراضي سودانية في مثلث "حلايب وشلاتين وأبو رماد" السوداني وتحاصر الجنود السودانيين الموجودين فيها؛ فمن غير المفهوم أن يجرى السودان الاتفاقيات والمناورات العسكرية مع مصر بسبب تعديها على أراضي سودانية وضمها لها.

اٟن مشروع (حماة النيل) هو من أكبر الحملات الاستكشافية العسكرية (military reconnaissance) التي تجريها دولة في فضاء دولة أخرى؛ فمصر انتشرت خلال الأيام الماضية بدخولها الأراضي السودانية عن طريق البر والبحر عبر ميناء بورتسودان بآليات ثقيلة وخفيفة عبرت بها عدة مدن بشمال وشرق السودان؛ كما شوهد الجيش المصري يحشد قواته بقاعدتي وادى سيدنا وكنانة الجويتين. وهكذا فان مشروع (حماة النيل) يجعل مصر تمتلك المعلومات الدقيقة عن المواقع العسكرية وحجم ونوعية القوات السودانية ومعداتها وإمكانياتها بالإضافة الى تضاريس الأرض.

علاقة تناقضية عدائية
ان التدريبات العسكرية بين السودان ومصر تتم فى اطار علاقة تناقضية مع مصر ذات طابع عدائي أهم مظاهرها، بجانب احتلال مثلث حلايب السوداني، مواقف الحكومات المصرية المتعاقبة ضد مصالح السودان المائية وكل ما من شانه منع البلاد من استغلال أراضيها الزراعية. فمصر ظلت تعارض بناء الخزنات الضرورية لاستغلال السودان لأراضيه الزراعية وتنتقص من حقوق السودان المائية بموجب اتفاقية مياه النيل (1959) والتي بموجبها تم قيام السد العالي المصري حيث فقد السودان نتيجة امتداد بحيرة السد مدينة وادي حلفا وكثير من القرى و200 ألف فدان من الأراضي الزراعية السودانية والمحاجر المعدنية والآثار التي تعود الى حضارات عريقة.

نهاية أوهام الشعب السوداني تجاه مصر
ولكن إذا كانت دينامية علاقة مصر مع السودان الواردة في العرض أعلاه يعود تشكيلها من قبل الأنظمة المصرية الحاكمة بما يخدم في التحليل النهائي مراميها السياسية، يبقى السؤال (الأهم) حول الموقف الشعبي المصري من هذه العلاقة. وحول هذا الامر فمن الملاحظ أن الدعاية الإعلامية لمصر الرسمية ظلت تعمد على تشويش عقول شعبها بإطلاق المعلومات الخاطئة والمضللة مثل امتلاك مصر للسودان بأسره وليس مثلث حلايب فقط؛ والسلطات المصرية لا تتحرج من التمسك دون مواربة وباستعلاء بأن مسالة ملكية حلايب ليست محل أي تفاوض مع السودان. وكل هذا أدى الى هوة عميقة تفصل بين الشعبيين الجاريين رغم القاسم المشترك الذى يجمع بينهما ويتلخص في التطلع للتخلص من استبداد الأنظمة الجائرة وتحرير السيادة الوطنية لبلديهما من وطأة التدخل الخارجي المتخفي في اشكال شتى من الهيمنة.

ان مسار العلاقة مع مصر جعلت الشعب السوداني يتوصل إلى استنتاج مفاده أن مصر الرسمية غير موثوق فيها؛ ومن فصول التاريخ الباقية في ذاكرة الشعب السوداني التي أدت الى هذا الاستنتاج هو خذلان القوات المصرية لضباط ثورة 1924 السودانية.

كان الفصل الأخير لثورة 1924 السودانية التي اشتعلت ضد قوات الاحتلال البريطانية في ذلك التاريخ هو مواجهة الضابط السوداني الملازم أول عبد الفضيل الماظ عيسى للإنجليز، وهى المواجهة التي تمت من منطلق معارض آنذاك لنوايا الانجليز طرد المصريين من السودان الذين كان المستعمر الإنجليزي يستخدمهم في أدارة البلاد السودانية تحت اتفاقية الحكم الثنائي لعام 1899؛ ومشاركة مصر لجأ لها الانجليز آنذاك لتمويه تدميرها للحكم الوطني السوداني، القائم حينها واستعمارها للبلاد، لكى لا تبدو امام القوى الاستعمارية المتصارعة على النفوذ الإقليمي في افريقيا انها تستعمر السودان. والماظ كان ينتمي لجيل من العسكريين والموظفين السودانيين يعتقد أن السودان ومصر بلد واحد سيادته تابعة للدولة العثمانية منذ غزو والى مصر محمد على باشا للبلاد في 1820.

في نوفمبر 1924 خرجت فرقة عسكرية من ثكناتها في العاصمة الخرطوم حيث انضمت لها فرق أخري وسار الجميع بقيادة الضابط عبد الفضيل الماظ باتجاه كبرى النيل الازرق بهدف الالتحاق بفرقة مصرية للمدرعات مرابطة بمنطقة أخرى في العاصمة كان قائدها قد اتفق الوقوف بجانب القوة السودانية إذا ما اعترضها الانجليز؛ وهذا الاتفاق يأتي في إطار مقاومة المصريين لنية الانجليز طرد المصريين من السودان.

اعترض القائد العام والحاكم العام الإنجليزي بالإنابة وقتها (الجنرال هيوبرت هدلستون) طريق الفرق السودانية بنفسه طالباً منها الرجوع لثكناتها. رفض الضباط السودانيون الانصياع لأوامره وذكروا له ان ولاءهم لملك مصر ولن يتلقوا اوامر الا من قائد القوات المصرية بالسودان (القائم مقام أحمد رفعت)، ولم يتوان هدلستون في امر القوة الانجليزية التي كانت تلازمه بإطلاق النار على الجنود السودانيين الذين ردوا بالمثل، وسقط عدد من القتلى والجرحى من الجانبين. لجأ الضابط عبد الفضيل الماظ الى داخل مستشفى عسكري كان قريبا من موقع الاحداث واخذ يقاتل الانجليز من هناك؛ ولم تتحرك القوة المصرية (التي كانت ترفض تطبيق الجلاء من السودان) وتفي بتعهدها لعبد الفضيل الماظ بالانضمام له كما مر ذكره. ورغم فقده كل الامل في انضمام القوة المصرية له، لم تبدر من عبد الفضيل الماظ أي علامة للاستسلام لمدة يوم كامل الى ان استخدم الانجليز المدافع الثقيلة لقتله بهدم مبنى المستشفى عليه مع عدد من جنوده.

ان أوهام تعلق السودانيين بمصر زالت بنهاية احداث ثورة 1924 ولم تثار مسالة الوحدة مع مصر الا خلال خمسينات القرن الماضي من قبل الأحزاب السودانية الوحدوية التي اضطرها ميزان القوى الطبقية في البلاد اللجوء لشعار الوحدة لتقوية موقفها في الساحة السياسية، ولكن هذا التوجه لم يعمر طويلا فالأوهام الوحدوية مع مصر تحت ظل حكوماتها المستبدة اندثرت تماما تحت ركام المبنى الذي تم هدمه على راس البطل عبد الفضيل الماظ.

وأخيرا فان التعالي المصري تجاه السودان حوَّل التناقض بين الدولتين الى تناقض عدائي؛ والعسكريين السودانيين المخضرمين دارسي الاستراتيجية العسكرية والسياسية يدركون تماما أن الصدام العسكري بين الدولتين على المدى البعيد أمر ليس بعيدا حدوثه.