الغياب في الحب الإلهي


حمودي عبد محسن
2021 / 5 / 29 - 14:47     

استوقفني كتاب الشاعرة نوار الشاطر الموسوم بعنوان (كوكب دري) الصادر عن دار ـ سوريانا الدولية ـ دمشق ـ عام 2019 الذي هو عبارة عن نصوص تثير الجدل بماهيتها وغايتها خاصة تأتي في ظروف الحروب والقهر والحرمان والمآسي، لتصوغ المؤلفة هويتها الذاتية في هذا العالم، وتضع حدا فاصلا بينها وبين ما يحيطها بمسعى طقوس الثبات في المقدس الرباني بقدرة اختيار واختبار لهذا العبور والانتقال من دنيوي زائل وفاني إلى إلهي سرمدي نوراني عظيم برؤية مبهجة وكشف وتجرد دنيوي وإلتحام تطهري، لتحمي نفسها من الشدائد والهموم بحب ارتقائي وصعود بطابع طقسي فيه المناجاة، وفيه الدعاء، وفيه تراتيل، وفيه نسمة عذبة رقيقة خاشعة في المخاطبة، لذلك سأتناول هذه النصوص من ثلاثة مداخل:
1ـ الإنكفاء على الذات:
نقول غالبا في الأدب أن الظلام يغشي البصر أي لا يرى الشخص شيئا آخر. هذا صحيح، وكذلك صحيح حين نقول أن النور يغشي البصر لأن المتصوف حين يدخل في خلوته لا يرى في لحظات تأمله إلا إشراقة نور الله مثلما أشار السهروردي في (حكمة الاإشراق) عن ذلك معتمدا على الآية الكريمة (أن الله نور السموات والأرض). هكذا يتجلى كل شيء لنوار الشاطر في خلوتها بنشوة إيمانية بعيدة عن وجود أرضي مفزع بخرابه وضياعه المجهول وقساوة حدته وتصدعه وألمه.
ـ أهذا هروب؟
نعم، أنه هروب من واقع مرير لا يمكن التآلف معه، وهروب من الخلاص من الضياع فيه، وهو أيضا نموذج إنطوائي فيه عزلة خالية من هموم الدنيا لا تسمع فيه إلى صوت قلبها الذي ينشد لحنه في هذا الحب، فكل الأصوات تتلاشى إلا صوت قلبها، وكل الصور تتلاشى إلا صورة إيحائية تخيلية أو شكل بوهج نوراني يغشي عينيها، وهي متعلقة به، وهو حجابها الذي يلفها، ويأخذها إلى السماوي الرباني شوقا ومحبة، وهذا هو عالمها في خلوتها لأن قلبها يتجه صوبه في لحن روحي ونشوة روحية تنبعث من القلب، وتبعث في القلب فيها نفحة زكية من جنان، إذ مات العالم الدنيوي ورغباته وبؤسه، ويحدث التضاد بين الوجود الزمني والوجود الذهني لاسيما أن هذا النور الرباني فيض باهر، وهو في نفس الوقت لغز غامض تعيشه نوار الشاطر في لحظات حاسمة في جلوتها خاشعة مبتهلة كما تقول في نص (ميموزين):
(بت أؤمن أن هذا القلب لا يحيا إلا بالله وحده
وهذا مفهوم الحب الحقيقي الحب الخالد الحب
الأزلي ...الحب الإلهي الذي يحيي رميم الأحلام
كلما ماتت داخل الإنسان كل شيء)

2ـ التفاعل مع الغياب:
هنا في خلوتها بذاتها تجاهد الشاعرة نوار مع التأمل في خشوع قدسي الذي تتوق به للخروج من العالم الدنيوي بصمت هادئ يبتهج له القلب، ويفعمه بالسعادة وتتجاوز شخصيتها في نشوة عذبة رقيقة كمؤمنة، فيتجلى لها إيقاع يخطف بصرها وتعلو فيه وترتقي حسيا إلى موطن الحب الإلهي كأصالة وصدق وجود، فتجتذبها تقوى روحانية لا نهائية طليقة حالمة، متحررة من دنيا الظلام من صميم جروحه، فيكون هذا هو القلب بحسه المرهف، وهو الصوت برقته، وهو العقل بجذوته فيه مسحة مشهد بهيج، ولحظات حاسمة بألوان النعيم، فتغيب بعقلها وقلبها في العلا بكماله الأبدي، الغير مرئي، وغير جسماني، هو الواحد المقرر القادر على كل شيء، الحي الأزلي، الحق العارف بما يحدث في الكون وديا الأرض التي تعيش فيها الشاعرة، وهذا الهيام الوجداني لا يبلغه إلا الأطهار كما تقول المتصوفة، فهو غياب في الحب الإلهي وإندماج في فيضه النوراني، وهو تبشير سعيد ناطق بصمت، نابض بأسرار النفس البشرية، فالشخصانية الصوفية تتحول في بعيدة عن مسار الحياة اليومية ـ الواقعية وتذوي ذاتها في هذا الحب في حالة نادرة لا يبلغها إلا من أدرك العرفان الرباني. عندئذ تكون نفسه هادية خيرة، مضيئة منتعشة، وطافحة بالنعيم الإلهي بذات الإيمان التأملي الملتهب بذات الغياب في رونق المناجاة والهوى بأروع انغماس، محلقة ببصرها نحو العلا كإنطلاقة وإتصال غيبي، وكذلك إنتماء ومحبة في نقاء وصفاء يتولاها هذا الفيض النوراني في ذات الاحساس، مستنيرة بروعته مبتعدة عن صخب الدنيا وملذات الحياة، وتوغل في نشيد كزني بنقاء، وأثر جليل، فهي حالة مفاجئة لكنهه ليست مستحيلة لأن فيها استيقاظ تغيب فيها الشاعرة عن شخصانيتها لتبلغ هذا الفيض النوراني، إذ كل شيء يتهاوي ويذوي في الوجود إلا هذا الانغماس في الحب الإلهي، لتحي نفسها في عالم صوفي، ويغرق قلبها في هذا الحب، حين تقول الشاعرة في نص ( الحب الإلهي):
(بدايتها الحب
يشهدها الفؤاد
في محراب الروح)
3 ـ الإلهام الفردي:
أن النص الأدبي في هذا الكتاب (كوكب دري) هو معاني معرفية كنتاج فكري ـ حسي إدراكي بدلالة جمالية ـ بلاغية، وهو في نفس الوقت يوحي لنا أنه تخاطبي فرداني محددا بالسمو والعظمة الإلهية كي تتأدب النفس وتتغذى روحيا من قدراتها الكلية ـ الأبدية بلغة أنيقة. وكذلك هو ارث بمحتواه وأثر حين يتناص مع التقليد الصوفي باختيار الذات كانطباع وشعور عن عصر كثر فيه الظلم، وكثرت فيه الخطيئة والذنوب، فهو محفز نحو الخير والمحبة والفضيلة التي لا تصنع إلا بالدلالة الربانية والخوف من عواقب الآثام. هذا هو بالضبط جودة الانسياح عقليا وقلبيا في الحب الإلهي. إذن هذه النصوص فنا ابداعيا تعتمد الإلهام الفردي دون التفاعل أو التآلف أو الانسجام بالعالم الدنيوي المحيط بالفردانية في عصر يسبب الألم والإنزعاج.
الشاعرة نوار الشاطر في كتابها هذا تتبع منهجا روحيا من خلال تأمل مطلق في بنية معنوية ذات غاية أي غائية مقنعة تماما في خلق تعبيرا لماهية الوجود من حيث موضوع ونسق الحياة، ومن حيث التآلف الشخصاني مع الكل العلي القدير، إذ توظف نفسها لهذا الغرض، فيصبح الوجود بالرمز القدسي. حينئذ تكون الشخصانية راضية مقتنعة في نزعتها الروحانية مسخرة نفسها لهذا التألق، متجردة ومنسلخة بما يحيط بها، لتتآلف بحسها وذوقها يقينا صادقا بعمق، وتوجه إدراكها بالإكتشاف الخاص الملهم لوجودها برؤيك كما يطلق عليها البعض باطنية ـ خفية.
ـ هل هذا مختلق؟
أنه كل ما نستطيع أن نقوله أنه تحول فريد في الإلهام الفرداني أن تكون الذات غابرة ـ معاصرة ترتقي إلى أغنية صامتة أو ترتيل صامت حيث كل الأصوات مهما تعددت تمس ذوق الاحساس، لتكون الفردانية هي العالم الذاتي في دلالته، تتعايش معه، وتتآلف معه في تغير مفاجئ. هذا سيغير كل شيء لأي متصوف لا سيما وهو ينبذ كوارث الأرض التي صنعها الانسان لنفسه، وفي نفس الوقت تبتهج الفردانية الصوفية الملهمة بمدى رباني أوسع، فهذا هو الحضور الحقيقي الفاعل، لذلك تدهشنا الشاعرة نوار الشاطر بمنظرها الذهني من خلال نصوصها، زهذا جوهر نصوص كتاب (كوكب دري) الذي فيه تجلي في الحب الإلهي بوعي تأملي يسوده الورع وتسوده التقوى.
2021-05-29