مكتبة غزّة -خوف الغزاة من الذكريات-


حسن مدن
2021 / 5 / 29 - 13:13     

ما قام به الصهاينة، في عدوانهم الهمجي الأخير على قطاع غزة، من استهداف المكتبة العامة الوحيدة في القطاع، مكتبة منصور، وتدميرها بكل محتوياتها، ليس غريباً على هؤلاء الصهاينة، الذين يثبتون يوماً عن يوم وسنة عن سنة، أنهم فاشيو العصر ليس فقط في وحشيتهم في التعامل مع الشعب الفلسطيني المدافع عن حقه المشروع في استعادة بلده المحتله، وإقامة دولته الوطنية المستقلة عليها، وإنما أيضاً في استهدافهم لرموز الثقافة والحضارة في فلسطين، أكانت دينية أم تعليمية وتربوية، من مدارس ومعاهد، أم ثقافية وتاريخية.
وجّه جيش الإحتلال طائرات إف 16، أمريكية الصنع، عنواناً للحلف غير المقدس بين واشنطن وتل أبيب، لتقصف المكتبة المذكورة، وقبل ذلك استهدفت الطائرات نفسها مؤسسات للثقافة والفنون، وقرية الفنون والحرف، رغبة في إطفاء شمعة صغيرة، ولكنها في غاية الأهمية، وسط ظلام الاحتلال والحصار الدامس، كون الثقافة عنواناً من عناوين مقاومة الفلسطينيين للمحتل، المستقدم من مختلف بقاع الأرض، والغريب عن الأرض التي يقتل أبنائها ويسرق أراضيهم ويهدم بيوتهم ومستشفياتهم ومدارسهم ودور عبادتهم، أما عن المكتبات فطالعت في تقرير على الشبكة العنقودية حديثاً عن استهداف الاحتلال، على مدار عقود احتلاله، لمكتبات بعضها في القدس تعود إلى عهدٍ ذهبي للمدينة، وفي مدن فلسطينية أخرى، بما فيها غزة نفسها.
بشكل عام يخشى الطغاة الكتب. هذا ما يشهد عليه التاريخ في مختلف مناطق العالم. وهو أمر تناولته بشيء من التفصيل في مؤلفي: "الكتابة بحبرٍ أسود" بعنوان: "اضرام النار في الكتب"، فليس بوسعنا، على سبيل المثال، نسيان ما فعله النازيون في ألمانيا حين احرقوا في الشوارع كنوز الثقافة الألمانية والأوروبية عامة، في مجالات الفلسفة والفكر والأدب، وهو أيضاً ما فعله رجال الديكتاتور بينوشيت في شوارع سانتياجو عاصمة التشيلي بعد الاطاحة بحكومة سلفادور الليندي التقدمية، والمنتخبة من الشعب، حيث جمعوا في أكوام كل الكتب ذات المضامين التقدمية واليسارية وأضرموا فيها النيران.
وليس بعيداً في الزمن قام الدواعش حين سيطروا على الموصل، المدينة العراقية العريقة، باقتحام مكتبات جامعة المدينة ومكتبات المساجد والكنائس وجمعوا منها الكتب – الكنوز التي لا تقدر بثمن وأحرقوها.
وحتى في العصور القديمة وجدنا أن البرابرة حين يستون على الحكم بالقوة كانوا محكومين، دائماً، بالهلع من الكتب بوصفها ذاكرة، وهذا ما فعله، جنود هولاكو، وفي مكان ليس بعيداً عن الموصل، حين استباحوا بغداد، فألقوا بما في مكتباتها في النهر، ومثلهم قام القشتاليون حين سقطت غرناطة بأيديهم بتمشيط البيوت بيتاً بيتاً بحثاً عن كل ما هو عربي من الكتب ثم حرقوها في الساحات، وقيل إن نحو مليوني مخطوط طالتها تلك النيران.
صهاينة "إسرائيل" هم من الطينة نفسها، طينة الطغاة الذين يكرهون الكتب وكل ما يمت إليها بصلة، لأن الثقافة قرينة الذاكرة، وليس عبثاً أن شاعر فلسطين الكبير، محمود درويش، هو بالذات من تحدث عن "خوف الغزاة من الذكريات"، وبذلك لخّص الفكرة في أجمل العبارات، لأن ذكريات فلسطين العربية، هي ما يؤرق الطغاة ويقضّ مضاجعهم، لكن من قال إن الذاكرة الجمعية لشعب صاحب قضية عادلة يمكن أن تُمحى؟
إذا كانت القوة الغاشمة قد أدت إلى اقتلاع أجيال من الفلسطينيين من أرضهم، فإنها لم تفلح ولن تفلح في اقتلاع الذاكرة من جذورها الضاربة في الوجدان الفلسطيني، وهذه المعركة بالذات لن يكسبها العدو، مهما طغى وبطش واستبد.
وإذا كان حرق المكتبة الوحيدة في غزة الصامدة، المحاصرة منذ عقدين براً وجواً وبحراً، ينم عن حقد هذا العدو على كل ما يذكر ب"الذاكرة"، فإنه لن يزيد الفلسطينيين إلا تصميماً على التمسك بها وشحذها كسلاح لا بيد الجيل الحالي فحسب، وإنما بيد الأجيال القادمة أيضاً، حتى يستعاد الحق المغتصب، ورغم الفظائع التي ارتكبها جيش الاحتلال في عدوانه الهمجي الأخير على غزة.
لم يخرج الفلسطينيون من الحرب الأخيرة مهزومين، رغم التفاوت الكبير في القوة بين الطرفين، بل، بالعكس، خرجوا منتصرين على أكثر من صعيد، لأنهم يملكون ما لا يملكه عدوهم: الذاكرة، ووجه صمودهم رسالة بليغة للمتصهينيين من العرب الذين حسبوا أن التطبيع مع العدو الصهيوني أنهى القضية الفلسطينية، وأغلق ملفها إلى الأبد، فإذا بها تفاجأهم بحضورها الساطع، وإذا بالعالم الذي غفل، ولو لبرهة، عن فلسطين وحق شعبها، يفوق من غفلته مجدداً، لتمتلأ ساحات العواصم، وفضاءات العالم الافتراضي بكل تعابير التضامن مع فلسطين، التي جعلت العدو يدرك مدى عزلته، حتى لو توهم خلاف ذلك، فالحق لا يسقط بالتقادم، وينبعث من رماد كل معركة وهو أقوى.
يروي فيلم فرانسو تروفو "فرنهايت451" قصة مدينة محكومة بإرهاب النار، مهمة الإطفائيين فيها أن يضرموا النار لا أن يطفئوها، وشغلهم الشاغل هو حرق الكتب والمكتبات، لكن المثقفين، حرصاً منهم على الثقافة، يفرون إلى الغابة وقد حفظ كل واحد منهم مضمون كتاب عن ظهر قلب، وفي الغابة لا يفعلون شيئا سوى تلاوة ما حفظوه، حتى لا ينسوه، ليلقونه لأبنائهم من بعدهم.
شأن الفلسطينيين الصامدين، في العلاقة مع قضيتهم وحقهم التاريخي، شأن حفظة الكتب في "فرنهايت 451"، الرواية والفيلم، وهم يحفظون ذاكرتهم، التي لن تمحى، حتى لو حرقت طائرات المعتدي الكتب التي تحويها.