الخطة الأقتصادية... أداة نهوض وبناء حقيقي


عباس علي العلي
2021 / 5 / 28 - 17:43     

من أبرز ما أنتجه العقل الأقتصادي المعاصر هو التخطيط العلمي والعملي لرؤية أقتصادية محكومة بالاستراتيجيات الأقتصادية كأداة عملية لتوجيه وبناء أقتصاد فاعل ومثمر، ومن ضمن مفردات هذا النهج ما يعرف بالخطة الأقتصادية المؤطرة بزمن ومحددة بأهداف مرحلية تؤسس لمراحل لاحقة وترتبط ببعد غائي طويل الأمد، والخطط الأقتصادية تبنى على أشكال وأليات وأهداف ترتبط بعامل الوقت ومحكومة بمعالجة موضوعية لجوانب محددة، فهناك خطط قصيرة الأمد تمتد لمدة ما بين سنة وثلاثة سنوات وتسمى الخطط المرحلية ومنها خطط متوسطة المدة تستغرق مدة من خمس إلى عشر سنوات تكون عماد وضعها بناء يعتمد الخلط بين ما هو مرحلي ضمن أستراتيجية وبين تكتيكات المرونة في تنفيذ أهداف تخصصية أما أن تكون تصحيحية تصويبية أو بنائية تستهدف جانب محدد في عملية البناء الأقتصادي الوطني أو المؤسساتي، بينما الخطط البعيدة المدى فهي مجموعة من الرؤى والأفكار التي لا تعتمد فقط مراعاة حالة الأقتصاد والظروف المرحلية، بل هي في مجملها تؤدي إلى خلق عالم أقتصادي محكوم بتحقيق رؤية شاملة ومتكاملة تعيد لجوهر العملية الأقتصادية حركية وأسس وقواعد تنتهي دوما بأهداف كبرى تبنى على فلسفة واضحة ومحددة المعالم.
إذن عالم الأقتصاد اليوم يمثل بجوهره العام عالم التخطيط والبرمجة على أسس علمية ووفق دراسات وأبحاث مسبقة ومحدثة تنظر للأقتصاد ليس كونه عملية تبادل وحركة سوق، بل كونه سلاح للتنافس والمزاحمة على كل شيء وصولا حتى للقرار السياسي الحاكم، من هنا يتم دوما ربط الأسس السياسية للمجتمع بالأهداف الأقتصادية في وحدة عمل برغماتية هدفها السيطرة والتوسع عبر اليات التخطيط والرسم الفكري المدروس والممنهج، إذا التخطيط الاقتصادي هو أداة لإدارة الاقتصاد القومي أو بالتحديد لإدارة جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية علي أساس علمي، حيث يساعد الإدارات التنفيذية علي إتخاذ القرارات السليمة لتوجيه المجتمع وفقا لأهدافه وإمكانياته وفي حدود القيم الخاصة بالمجتمع، وفي تنفيذ هذه البرامج الاستثمارية جرى الاعتماد على دور الموازنة السنوية في التخطيط، وحاولت بعض الدول الانتقال بالتخطيط إلى مرحلة التخطيط الشامل الذي يضم نشاط القطاعين العام والخاص، ويجمع بين النشاط الاقتصادي الكلي ومستوى المكونات التفصيلية للمتغيرات الإجمالية، كما يمثل نوعاً من عدم الثقة في دور آلية السوق لتحقيق التنمية، ويعبر عن رغبة الدولة في تحقيق الاستقلال الاقتصادي والسيطرة على النشاط الاستثماري والتجارة الخارجية إضافة إلى قيامها بعملية الدفعة القوية التي تستطيع من خلالها إقامة مجموعة من المشروعات المتكاملة اقتصادياً وتقنياً.
إذا ترتكز الخطة الأقتصادية في كل الحالات على أهمية أن تكون الإدارة الأقتصادية المسئولة عن قطاع الأقتصاد والتجارة والمال والعمل على أولا تحديد أولياتها العملية في إدارة الشأن الأقتصادي وفق رؤية متكاملة ومترابطة الجوانب، وثانيا القدرة على التحكم في شكلية وفاعلية النظام السياسي _ الأقتصادي مجتمعا من خلال فلسفة تؤمن بها وتخطط لها في ضوء ما يمكن أن يحقق أهدافا محددة ومعلومة لها، لذا قيل أن الخطة الأقتصادية دوما ما هي إلا إنعكاس لواقع السياسة والفكر الإداري المهيمن من جهة، وواقع وقدرة النظام الأقتصادي أن يطور إمكانياته وأدواته في عالم متزاحم متشابك في المصالح ومتنافس على الهيمنة التي تؤمن مصالح أفضل وأكبر في خدمة المجتمع.
في العراق الحديث عرفت الخطة الأقتصادية أبان فترة الأربعينات من القرن الماضي حين تأسس مجلس الأعمار وبدأ بوضع رؤية لإعادة بناء أقتصاد وطني قادر على تحديث مفاصل المجتمع العراقي والبدء بتنمية ما يعرف بالبنى التحتية اللازمة له، وأسوة بالتجارب العملية ونتائجها في الدول النامية الفتية تبدأ عملها التخطيطي ببرامج وخطط مبسطة تتضمن قائمة بمشروعات مطروحة من الإدارات الحكومية المختلفة من دون مراعاة لشروط التكامل فيما بينها، ومع ذلك فقد كان بالإمكان لهذا المستوى من التخطيط أن يحقق كثير من الفوائد، ويقلص من الاختناقات فيما لو انتُقيت المشروعات وصُمِّمت بصورة صحيحة وأكثر ملاءمة، وكانت المشكلة الدائمة في أن إدراج هذه المشروعات كان يتم في كثير من الأحيان من دون دراسة وافية ومن دون تقويم موضوعي لتكاليفها ومنافعها، إلى جانب أن ضعف التنسيق فيما بينها يزيد من نسبة الهدر ويقلص من دور الأولويات.
ومع النجاحات الملحوظة التي رافقت تجربة مجلس الأعمار في العراق والإخفاقات التي كان لها نصيب في الواقع، لكنها أتت بالكثير من المنافع الأقتصادية مع قلة الموارد المالية وضعف الأداء الذي كان ملازما لسوء الإدارة حتى جاءت مرحلة الجمهورية الأولى عام 1958 ليشهد التخطيط الأقتصادي دفعة كبيرة بأتجاه برمجة وتخطيط وبناء أقتصاد وطني أكثر قدرة على البناء والتطور، فولدت العشرات من المشاريع الصناعية التي ساهمت بشكل جدي في تحريك الأقتصاد العراقي ومساهمته في إحداث التغيير والتطور الأجتماعي للبلد، وبرغم قصر الفترة التي شهدتها ولادة الجمهورية والصراع السياسي والحزبي فقد شهد الثلث الأول من الستينيات تراجع الخطط الأقتصادية والتنموية على وقع أشتداد التنافس السياسي وعدم وجود فلسفة تنموية وأقتصادية توجه الإدارات المعنية نحو أهداف وغايات محددة.
في أوائل السبعينات من القرن الماضي وكما هو معروف عندما تبنى النظام السياسي الحاكم النهج الاشتراكي في إدارة الدولة أقتصاديا وأجتماعيا، برز التخطيط ووضع الخطط الأقتصادية كعنصر أساسي للبناء الأقتصادي فكانت الخطة الخمسية الأولى 70 _ 75 الأساس الذي بنيت عليه ملامح المرحلة لغاية منتصف الثمانينات، بعدها جاءت الخطة الانفجارية الثانية 76_80 لتضع العراق في مراحل متقدمة من التطور والنمو الأقتصادي الذي جعل منه واحدا من البلدان الأسرع نموا والأكثر حداثة ضمن ما يعرف بالعالم الثالث، حتى تحول العراق إلى ورشة عمل كبيرة اضطرته لاستيراد عشرات الألاف من الأيدي العالمية الأجنبية لتأمين متطلبات الخطة، لكن ما حدث أواخر عام 1980 واندلاع الحرب العراقية الإيرانية وما سببته من هدم لكل البرامج والخطط الأقتصادية أعادت العراق إلى المربع الأول، وهكذا تراجع النشاط التخطيطي والبناء التنموي لغرض تلبية متطلبات الحرب وكلفتها المالية.
ما أن أنتهت الحرب العراقية الإيرانية حتى أكتشف الاقتصاديون ورجال الإدارة أن إصلاح الوضع وإعادة تنشيط الأقتصاد الوطني يحتاج إلى فترة 7 الى 10 سنوات وأستثمارات كبيره حتى يتمكن العراق من مواصلة التطور والتحديث الأقتصادي، خرج العراق من الحرب وهو محمل بديون وألتزامات مالية كبيرة صاحبها أنخفاض كبير بأسعار النفط وحرب خفية من عدة جهات وضعته مرة أخرى في مدار حرب طويلة ومدمرة أكلت الأخضر واليابس لينتهي العراق إلى دولة تحت الأحتلال الأجنبي عام 2003، بعد عام 2003 وكان من المؤمل أن يخرج العراق من دائرة الأقتصاد الموجه إلى دائرة أقتصاد السوق الحر خاصة مع غياب الأيديولوجية السياسية الحاكمة، إلا أن ما تركه الأحتلال من أثر سياسي وأقتصادي وغياب المركزية الأقتصادية وفتح الحدود أمام التنافس التجاري والأقتصادي، جعل من الأقتصاد هذه المرة يترنح ويغلق أبوابه الباقية بابا بعد باب ليتحول العراق إلى سوق مفتوح بلا ضوابط ولا قوانين ولا خطط.