تقارير التنمية الثقافيّة: وقفةُ مُراجَعة


عبد الحسين شعبان
2021 / 5 / 28 - 13:33     

من القضايا التي تميَّزت بها مؤسّسةُ الفكر العربيّ كـ "مؤسّسة أهليّة دوليّة مُستقلّة"، التنمية الثقافيّة العربيّة، وذلك منذ تأسيسها في العام 2000 بمُبادرةٍ من الأمير خالد الفيصل، وبدعْمٍ من كَوكبةٍ لامِعةٍ من أهل الفكر والعِلم والمُثقّفين والباحثين ورجال المال والأعمال، حيث جعلتها في صلب أهدافها وتوجّهاتها وبَرامجها وعملت على تعزيزها. فالتنمية الثقافيّة العربيّة هي السبيل الأكثر جدوى لمُواجَهة التحدّيات وإحداث التغيير المنشود لما تلعبه من دَورٍ في توفير المُستلزمات الضروريّة للتقدُّم بالتواصُل والتفاعُل والمَعرِفة. وهذه الأخيرة قوّةٌ أو سلطةٌ بحسب الفيلسوف فرانسيس بيكون، وخصوصاً إذا أُحسِن استثمارها وتوجيهها بشكلٍ صحيح.
فنظَّمت لهذا الغرض مؤتمراتٍ وندواتٍ وورشَ عملٍ ومُحاضراتٍ لتأكيد توجُّهها، وقرَّرت إصدارَ تقريرٍ سنويٍّ يُغطّي بعض جوانبها، ويتخصُّص كلّ عام بحقلٍ من حقولها. أَصدرتْ المؤسَّسة، بدءاً من العام 2008 إلى اليوم، أحد عشر تقريراً للتنمية الثقافيّة، أَسهَم فيها مئات الباحثين والمُتخصّصين والمُثقّفين الإبداعيّين والكُتّاب والفنّانين والإعلاميّين، وعالَجت هذه التقاريرُ العديدَ من حقول الثقافة والمَعرفة، ويُشكِّل مجموع هذه التقارير مُنجَزاً عِلميّاً يُمكن الرجوع إليه من الدّارسين والباحثين العرب والأجانب.
وبجردةٍ سريعة نستطيع أن نتعرّف إلى الحقول المُهمّة التي لامَستْها تقاريرُ التنمية الثقافيّة السنويّة:
أوّلها: التعليم العالي، وقد انشغل به التقرير الأوّل (2008)، انطلاقاً من فكرة الاستثمار في التعليم، ولا يُمكن لأيّ أُمّة أو شعب أن يتقدّم من دون التعليم. ويُمكن هنا استذكار ما يُنسب إلى الزعيم الفرنسي شارل ديغول حين قال كلمته الشهيرة، وهو يدخل باريس مُحرِّراً: "إذا كانت جامعة "السوربون" بخير، ففرنسا بخير"، وذلك في معرض سؤاله عن الأضرار التي سبَّبها الاحتلالُ النازي لبلاده. كما يُمكن هنا التوقُّف عند تجربة ماليزيا في ميدان الاستثمار في التعليم، والتي حقَّقت نجاحاتٍ كبيرة خلال سنوات قليلة بل نهضة حضاريّة وتنمويّة كبيرة.
وقد تناولَ التقريرُ الثالث (2010) البحثَ العِلمي بإسهابٍ وتفصيل، مُركِّزاً على العلاقة بين التعليم وسوق العمل. وكرَّس التقرير الرّابع (2011) مساحةً مُهِمّةً لبحثِ ذلك، واستكملَ التقريرُ السادس (2013) بفقرةٍ خاصّة "التعليم وسوق العمل والتنمية"، وعاد التقرير العاشر (2018) ليتوقَّف بعُمق عند "البحث العِلميّ، واقعه، وتحدّياته وآفاقه". ولعمري أنّ ذلك دليلٌ على أهميّة التعليم، حين يكون ذا جودة وأساليب حديثة بعيدة عن التلقين والتلقّي، وفي تنمية التفكير الحرّ وإثارة الأسئلة، والتّحفيز على النقد.
ثانيها: المعلوماتيّة، اعتبرها التقرير الثاني (2009) رافِعةً للتنمية الثقافيّة، وخصوصاً في عصر "الرَّقْمَنة"، مُتوقِّفاً عند واقع مُجتمع المعلومات من منظورٍ ثقافي مُستقبلي. وقد تَناول التقريرُ الثالث (2010) المعلوماتيّةَ كمَبحث رئيس تحت عنوان: "المعلوماتيّة والتواصُل الرقميّ - واقع البنية المعلوماتيّة العربيّة من منظورٍ ثقافيّ"، كما توقَّف عند مفهوم التواصُل الرقمي ومنهجيّة قياس التواصُل الثقافي عبر شبكة الإنترنت مُتسائلاً أيّ ثقافة رقميّة يبحث عنها العرب؟ وأيّ محتوى رقمي يُنتجه العرب؟
لا يُمكن للمُجتمعات العربيّة أن تتقدّم وتلتحق بالركب العالَمي من دون الاستفادة القصوى من مُنجزات الثورة العِلميّة التقنيّة، ولاسيّما من التطوُّر الهائل في تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والطفرة الرقميّة "الديجيتل" والذكاء الاصطناعي. وهذه كلّها أَصبحت "فرض عين وليس فرض كفاية" كما يُقال، لضرورتها وراهنيّتها.
ثالثها: اقتصاد المعرفة، وقد تناوله التقرير الخامس (2012)، باحثاً في طائفة من المَفاهيم المُتعلّقة بالصناعات الثقافيّة والمعرفيّة، مُتوقِّفاً عند المَملكة العربيّة السعوديّة وبعض دول الخليج ومصر وبعض دول المَشرق، فضلاً عن بحثه في اقتصادات المَعارِف العلميّة والتكنولوجيّة ومنظومات العلوم والتكنولوجيا في الدول العربيّة، وإسهام التعليم والتدريب في الانتقال إلى اقتصاد المَعرفة، كما يبحث التقرير في اقتصاد حركة التأليف والنشر في المَشرق العربي، ابتداءً من الكِتاب ومروراً بالمَطبعة، وصولاً إلى الدَّور الاقتصادي لصناعة النشر والعلاقة بين النشر الورقي والنشر الإلكتروني، وبين النشر العِلمي واقتصاد المَعرفة، ويتناول التقريرُ أيضاً اقتصاداتِ الإبداع من الإنتاج السينمائي والدراما إلى الغناء والموسيقى.
رابعها: الرّاهن والمُستقبليّ في قضايا التغيير، وقد بَحثها التقريرُ السابع (2014) بعنوانٍ مُثير ورؤيوي موسوم بـ "مآسي الحاضر وأحلام التغيير - أربع سنوات على الربيع العربيّ"، وهو وإن لم يَكتمل لإصدارِ حُكمٍ عامّ حوله، إلّا أنّ الحيثيّات المُلتبِسة وما رافقه من عنفٍ وتصدّعاتٍ بنيويّة على صعيد الهويّة الدينيّة والطائفيّة والإثنيّة والمناطقيّة، وضعف أو انهيار سلطة الدولة وتفكُّك بعضها، كان وراء بعض الاستنتاجات المبكّرة التي عكستها بعض الأوراق البحثيّة التي بلْوَرها التقرير.
وتوقَّف عند حركات الاحتجاج الشعبيّة ومآلاتها والتحدّيات والعقبات والكوابح التي واجهتها، من دون أن ينسى النواقص والثغرات والعيوب الذاتيّة التي عانت منها، سواء في تونس، أم في مصر، أم في ليبيا، أم في اليمن، أم في سوريا. وقدَّم التقريرُ قراءاتٍ مَعرفيّة وتخصُّصيّة في ما أُطلق عليه تسمية: "الربيع العربي"، مُتعرِّضاً إلى بعض الترسيمات المُستقبليّة والدّوافع الخفيّة لبعض الجهات الخارجيّة، واستغلال بعض جماعات الإسلام السياسي، الذي ركب المَوجة وحاوَل تجييرها لصالحه، كما بحثَ التقرير في سيناريوهات المُستقبل من ثلاث زوايا: خليجيّة وإقليميّة ودوليّة، مُتوقِّفاً عند النّتاج الثقافي والأدبي والفنّي في المرحلة الانتقاليّة.
خامسها: التكامُل العربيّ وقد وَضَعَ له التقرير الثامن (2015) عنواناً فرعيّاً: تجارب وتحدّيات وآفاق، وقد تّم بحثه من خلال ستّة عناوين أساسيّة، كلٌّ منها يُشكِّل مِحوراً يُمكن التوسُّع فيه بتعميقه وتطويره وفتْح آفاقٍ جديدة على مُعطياته؛ عن إشكاليّات الهويّة العربيّة وتحدّياتها، على قاعدة المُواطَنة الثقافيّة والشراكة في الوطن الواحد، وإنْ كانت العروبة تقوم على أساس اللّغة (اللّسان) والثقافة والتاريخ والعَيش المُشترَك، فإنّها بهذا المعنى رابطة وجدانيّة إنسانيّة تتقبَّل الآخر وتَعترِف بحقوقه المُتساوية.
وكان التكامُل العربيّ ومشروع الدولة الوطنيّة هو المحور الثاني. وثمّة أسئلة طرحها التقرير: هل الدولة العربيّة بحاجة إلى عقْدٍ اجتماعيّ جديد؟ وما هي عناصر التكامُل بينها وبين الدول العربيّة الشقيقة؟ في حين انشغلَ المحورُ الثالث بـ "الثقافة العربيّة في إقليم مضطّرب"، وفيه عرضٌ للمَشهد الثقافي في دُول المَشرق: مجلس التعاوُن الخليجي، بلاد الشام والعراق، مصر، وقد أَبرز التقريرُ أهميّة الاستقرار والسِّلم المُجتمعي لتحقيق التقارُب والتنسيق بين دوله. واحتلَّ "الأمن القوميّ العربيّ" المحور الرّابع حيث بَحَثَ في خبرات التنسيق والتكامُل في الميدان الأمني والعسكري، مع الأخْذ بعَيْن الاعتبار التجارب التاريخيّة الناجحة والفاشلة للاستفادة منها. أمّا التكامُل في بُعده الاقتصاديّ، فقد كان من حصّة المحور الخامس، وفيه عودة إلى فكرة السوق العربيّة المُشترَكة، ودَور الصناعات التحويليّة في التنمية الاقتصاديّة. وكان المحور السادس عن "جامعة الدول العربيّة" وإصلاحها والتحدّيات التي تُواجِهُها، وقدَّم مُعالَجاتٍ لتجاوُز أزمتها، وذلك تحت عنوان: "الواقع والمُرتجى".
سادسها: الثقافة والتكامُل الثقافيّ في مجلس التعاوُن الخليجيّ، حيث توقَّف التقرير التاسع (2016)، عند السياسات والمؤسّسات والتجلّيات في كلٍّ من المَملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المُتّحدة، ودولة الكويت، ومَملكة البحرين، وسلطنة عُمان، ودولة قطر. وهو بحث في السياسة الثقافيّة والثقافة السياسيّة، وخصوصاً حين انتقل إلى الاستراتيجيّات والمؤسّسات والمَشهد الإبداعي الخليجي بجميع جوانبه، وهو مُساهَمةٌ مُهمّةٌ للتعريف بالثقافة والمؤسّسات والسياسات الثقافيّة الخليجيّة.
سابعها: الابداع الثقافيّ وقد تناولَتْه معظم تقارير التنمية الثقافيّة الأحد عشر، حيث يشكِّل الإبداعُ الثقافي الشعري والسردي والسينمائي والدرامي والمسرحي والموسيقي والغنائي حلقاتٍ مُتواصِلة من سلسلة طويلة انتظَمتْ في حبّاتها جميع حقول التنمية الثقافيّة.
كنتُ آمل أن يكون الفنّ التشكيليّ كالرسْم والنَّحت، جزءاً من الإبداع الثقافي الذي تناولَته التقارير السنويّة، فضلاً عن التصوير الفوتوغرافي وما يتعلَّق بالتراث الشعبي والفولكلور والأزياء، كجزء من الثقافة.
ثامنها: فلسطين في مَرايا الفِكر والثقافة والإبداع، وقد عالَجه التقريرُ الحادي عشر (2019) في سبعة مَحاور تاريخيّة وفلسفيّة وما تعلّق منها بالهويّة والوجود، وفي الأدب والفنّ والإبداع، وفي مرايا الثقافة العالَميّة، فضلاً عن اللّغة والتربية والعلوم. وتوقَّف التقرير عند المُقاوَمة الثقافيّة من إدوارد سعيد ومروراً بكلٍّ من عبد الوهّاب المسيري ومحمود درويش وغسّان كنفاني وناجي العلي وجبرا إبراهيم جبرا وآخرين.
ويُشكّل التقرير الحادي عشر هذا مَرجعاً مُهمّاً للقضيّة الفلسطينيّة وللمُقاوَمة الثقافيّة في مُواجَهة التحدّيات الخاصّة بها، وفيه استعراضٌ يبدأ من فِكر رجالات النهضة العربيّة حتّى يومنا هذا، حيث تسعى إسرائيل إلى اقتلاع ما تبقّى من الشعب العربي الفلسطيني، بتأكيد "يهوديّة الدولة"، من دون اعتبار لقرارات المُجتمع الدولي والشرعيّة الدوليّة بما فيها القرار 181 المعروف بقرار التقسيم الصادر عن الأُمم المُتّحدة 1947.
تضاريس التنمية الثقافيّة العربيّة
جديرٌ بالذكر أنّ غالبيّة التقارير السنويّة للتنمية الثقافيّة تضمَّنت حصاداً ثقافيّاً سنويّاً، وهي أقرب إلى توثيق يوميّات الثقافة منذ العام 2007 ولغاية العام 2019. عِلماً بأنّ طريقة البحث والتحليل والتناوُل في التقارير الأحد عشر أَرستْ أساساً يُمكن البناء عليه وتطويره بتقارير جديدة لمَعرفة تضاريس التنمية الثقافيّة العربيّة وتطوّراتها من خلال خريطةٍ واضحة المَعالِم يجري الإضاءة فيها على عددٍ من الموضوعات والمَحاوِر التي لم يتمّ تناوُلها.
فثمّة موضوعات أخرى ذات أهميّة كبيرة تنتظر أن تتناولها تقارير التنمية الثقافيّة، التي يُمكن بمجموعها والمُشاركات الواسعة التي تشملها أن تغطّي المَشهد الثقافي العربي، وتكون مادّةً دراسيّةً ثريّةً ومنوّعةً يُمكن اعتمادها مَصدراً مُهمّاً وراهِناً للثقافة العربيّة في الجامعات والمَعاهِد العليا وفي كِتابة رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه.
وبتقديري إنّ المواد التي تناولَتْها التقاريرُ لا غنىً عنها لأيّ دارِسٍ أو باحثٍ في الثقافة العربيّة، وذلك بالتكامُل مع ما أَنتجه "مَركز دراسات الوحدة العربيّة" من كُتبٍ ودراساتٍ وأبحاثٍ تخصّ الوحدة الثقافيّة والتنمية المُستدامة. ومن المُمكن تخصيص تقارير سنويّة جديدة تبحث في موضوعات اللّغة العربيّة كأحد الدروع الأساسيّة للدفاع عن الهويّة، ضدّ الانكفاء والتغريب في آن، وكذلك إصلاح المجال الديني استناداً إلى أنّ أيّ إصلاح مُجتمعي يبدأ من إصلاح الفكر الديني بحسب هوبز، ومن خلاله يُمكن بحث المُشترَكات الإنسانيّة والتعايُش السلمي، والاعتراف بالآخر وحقوقه، وقبول حقّ الاختلاف من دون تخوينٍ أو تحريمٍ أو تجريم.
ولا بدّ أن يتخصَّص أحد التقارير بأبحاثٍ مُكثَّفة عن المرأة وقضاياها وحقوقها ودَورها وتأهيلها وتمكينها للإسهام في عمليّة التنمية الثقافيّة. والأمر يشمل الشباب أيضاً، وحبّذا لو تناوَلَ أحدُ تقارير التنمية الثقافيّة، الرياضةَ ودَورها في نشْرِ ثقافةِ السلام والتسامُح واللّاعنف والصداقة والأخوّة بين الشعوب والأُمم.
وآمل أن يتناول أحد التقارير السنويّة لاحقاً موضوع حُكم القانون واستقلال القضاء ودَورهما في التنمية الثقافيّة، ذلك أنّ نشْر الثقافة الحقوقيّة والقانونيّة هو أحد السُبل في تطوير المُجتمعات العربيّة وتمدينها وتقدُّمها. فالقانون بحسب مونتسكيو ينبغي أن ينطبق على الجميع، وهو مثل الموت لا يَستثني أحداً.