في الاستراتيجية وتشريح «النصر الإلهي»


جلبير الأشقر
2021 / 5 / 26 - 10:57     


يوم الجمعة الماضي، وبعد ساعات من سريان وقف إطلاق النار بين جيش العدوان الصهيوني والقوات المدافعة عن غزة، أطلّ رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية، على شاشات التلفزيون ليلقي خطاباً بدا وكأنه استوحى من خطاب أمين عام «حزب الله» اللبناني، حسن نصر الله، إثر انتهاء العدوان الصهيوني على لبنان في عام 2006. وحيث كان نصر الله قد أزفّ بشرى «نصر إلهي تاريخي استراتيجي كبير» أزفّ هنية بشرى «نصر إلهي استراتيجي مركّب». فلننظر عن كثب في أمر المعركتين المذكورتين وغيرهما من مآثر الصمود في وجه العدوان الصهيوني.
كانت حرب عام 2006 ملحمة كبرى صمدت فيها المقاومة اللبنانية ثلاثة وثلاثين يوماً في وجه آلة الحرب الصهيونية التي انتهزت ذريعة اشتباك حدودي وخطف جنديين إسرائيليين لتشنّ حرباً شاملة وتبذل جهداً عظيماً في محاولة اختراق مواقع انتشار مقاتلي «حزب الله» وأسلحته وتدمير بنيته التحتية وقتل قادته. ولم تفلح، بل اضطرّت إلى الانسحاب بدون تحقيق أي من أهدافها الرئيسية، اللهمّ سوى إلحاق أضرار فاحشة بمناطق سيطرة الحزب تطبيقاً لما سمّي «استراتيجية الضاحية» وهي ليست سوى تسمية جديدة لاستراتيجية قديمة في حروب «مكافحة التمرّد» تقوم على ردع الحاضنة الشعبية لقوى «التمرّد» من خلال جعل ثمن استضافتها لتلك القوى باهظاً.
وقد نتج عن العدوان على لبنان ما يناهز 1,200 قتيل، منهم 250 من مقاتلي «حزب الله» و4,400 جريح، لكنّ الجيش الصهيوني تكبّد هو أيضاً خسائر هامة إذ سقط له 120 جندياً وجُرح 1,250، فضلاً عن حوالي 45 قتيلاً و1,390 جريحاً من المدنيين من جراء قصف الحزب ما وراء الحدود. وإذا صحّ أن عدوان 2006 على لبنان كان له مفعول رادع إذ بات الحزب أكثر حذراً إزاء إعطاء العدو فرصة الانقضاض عليه، فإن الملحمة التي حقّقها غدت هي أيضاً تردع الجيش الصهيوني عن اجتياح جنوب لبنان كما كان قد اعتاد يفعل باستمرار، إذ اجتاحه في عام 1978 ومن ثم في عام 1982 واحتله حتى عام 2000 ليعود فيجتاحه في عام 2006 للمرة الأخيرة حتى هذا اليوم، وقد مضى خمسة عشر عاماً. والحال أن تحقيق توازن الردع إنما هو إنجاز عظيم لمقاومة شعبية في وجه دولة تملك أحد أخطر جيوش العالم وأكثرها فتكاً.
ولو بحثنا عن مرادف غزّاوي للنصر اللبناني لوجدنا أن الصمود الأكثر شبهاً بظروفه إنما هو ملحمة عام 2014. في ذلك العام تذرّع الحكم الصهيوني باختطاف ثلاثة إسرائيليين في الضفة الغربية متّهماً «حماس» بالحادثة لينقضّ على الحركة في الضفة أولاً، ومن ثم في غزّة بحجة تبادل صاروخي، وقد شنّ حرباً شاملة على القطاع بأهداف مماثلة لأهداف عدوان 2006 على لبنان. كانت كلفة تلك الغزوة الهمجية هائلة حقاً نظراً لمواصلتها لمدة سبعة أسابيع وللكثافة السكانية الكبيرة جداً في القطاع. فسقط من جراء العدوان الصهيوني ما يزيد عن 2,300 قتيل و10,600 جريح، لكنّ الجيش الصهيوني تكبّد هو أيضاً خسائر هامة بالرغم من محدودية عملياته البرّية بالمقارنة مع اجتياح لبنان قبل ذلك بثماني سنوات. فسقط له 67 قتيلاً وأصيب 469 جندياً بجراح بينما حصد القصف الصاروخي الغزّاوي 6 قتلى و87 جريحاً من المدنيين.


وقد كان حقاً صمود المدافعين عن غزّة مرادفاً لصمود المقاومين اللبنانيين من حيث مفعوله الرادع على الجيش الصهيوني فيما يخصّ اجتياح القطاع، كما رأينا في الجولة الأخيرة التي لم يتجرّأ الجيش الصهيوني خلالها على الاقتحام، بل اكتفى بالاستخدام الجبان لتفوّقه العظيم في وسائط القصف الجوّية والأرضية والبحرية. ومن هذا المنظور فإن ملحمة عام 2014 كانت هي أيضاً نصراً حقيقياً إذ إن ردع الضعيف للقوي إنما هو دوماً إنجاز عظيم. فلننظر الآن فيما أسماه إسماعيل هنية «نصراً إلهياً». إن المعركة هذه المرّة، خلافاً لما جرى في عامي 2006 و2014، لم تكن معركة دفاعية في بدايتها، بل معركة اختارت «حماس» أن تشعلها بعد توجيهها إنذاراً إلى إسرائيل في العاشر من هذا الشهر، عندما «قال أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسّام إن قيادة المقاومة في الغرفة المشتركة تمنح الاحتلال مهلةً حتى الساعة السادسة من مساء اليوم لسحب جنوده ومغتصبيه من المسجد الأقصى المبارك وحي الشيخ جرّاح، والإفراج عن كافة المعتقلين خلال هبّة القدس الأخيرة، وإلا فقد أعذر من أنذر».
وفي مساء ذلك اليوم، أطلقت المقاومة من غزّة 137 صاروخاً، مشعلة حرباً جديدة مع العدو الصهيوني استمرت أحد عشر يوماً وحصدت ما يناهز 250 قتيلاً و2,000 جريح من الغزّاويين، فضلاً عن حجم هائل من الدمار وهدم البنايات والمنازل وتخريب البنية التحتية الخدماتية والصحّية التي كانت أصلاً هزيلة في القطاع. أما الخسائر من الجانب الإسرائيلي فبلغت 12 قتيلاً من المدنيين وجندي واحد، وما يناهز 120 جريحاً. وتجدر مقارنة هذه الحصيلة بعدد الصواريخ التي أطلقتها المقاومة من غزّة: ففي حين كان المعدّل 91 صاروخاً باليوم في معركة 2014 بلغ هذه المرّة أضعاف ذلك مع 396 صاروخاً باليوم، حسب الرصد الإسرائيلي. هذا يعني أن المقاومة أطلقت من غزّة هذه المرّة خلال أحد عشر يوماً ما يناهز عدد الصواريخ التي أطلقتها خلال خمسين يوماً في عام 2014: 4,360 هذه المرّة مقابل 4,594 آنذاك، ناهيكم من أن صواريخ الجولة الأخيرة كانت متفوقة من حيث المدى والقوة عنها في الجولة السابقة. ومع كل ذلك فإن الثمن الذي دفعته الدولة الصهيونية لم يكن كبيراً بالمقارنة مع الثمن الذي دفعته في عام 2006 في حرب لبنان وعام 2014 في حرب غزّة. وهي كلفة يسعى الصهاينة دوماً لتقليصها من خلال تحسين جهازهم الدفاعي ضد الصواريخ الذي أطلقوا عليه اسم «القبّة الحديدية». أما الاستراتيجية التي يسير بها الجيش الصهيوني إزاء غزّة، فقد أسماها «استراتيجية جزّ العشب» بمعنى أنه يرى من اللازم شنّ حرب دورية على القطاع كلما انقضت بضع سنوات من أجل سحق قدرات المقاومة العسكرية، لعلمه أنها تعود فتنبت كالعشب في حديقة. وهذا ما يسمح للجانب الإسرائيلي من أن يدّعي النجاح في عملية «الجزّ» الأخيرة.

وقد تعمّدت الحكومة الصهيونية معاودة استفزازاتها في القدس، وفي الحرم الشريف بالذات، يوم الجمعة بعد ساعات قليلة من وقف إطلاق النار لتؤكدّ أن ما جرى لم ولن يردعها عن المضي بنهجها الاستعماري. كلمة أخيرة حول موقف “حزب الله” في حرب 2006: أبدى الحزب ليونة كبيرة في القبول بشروط وقف إطلاق النار بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 بغية توفير الأرواح.

وفي مقابلة مع محطة «نيو تي في» اللبنانية بتاريخ 27/8، صرّح حسن نصر الله في صدد خطف الجنديين الذي اتخذته إسرائيل ذريعة لشنّ هجومها، قائلاً: «الآن إذا سألتموني [ماذا كنت فعلت] لو كنت أعلم بأن عملية الخطف هذه ستؤدي الى حرب بهذا الحجم بنسبة واحد بالمئة، فقطعاً لما فعلنا لأسباب إنسانية وأخلاقية وعسكرية واجتماعية وأمنية وسياسية». ومن هذا المنظور، فإن من يأخذ على «حزب الله» عدم إطلاقه للصواريخ تضامناً مع غزّة، إنما يُجحف إجحافاً كبيراً إذ إن الحزب على حق تام بألا ينجرّ إلى معركة لم يختر زمانها وشروطها، وهو يعلم أنه لو فعل لمنح فرصة للجيش الصهيوني كي ينفّذ الخطة الجديدة التي أعدّها ضده والتي لم يجرؤ حتى الآن على تنفيذها بحكم المفعول الرادع لنصر 2006.