خلق آدم بين مشهدية سفر التكوين ورواية القرآن. ح3


عباس علي العلي
2021 / 5 / 23 - 09:31     

في النص القرآني مع توافق صورة الحدث لكن الموضوع ليس كما ورد في النص التوراتي، فقد كان الطوفان والعذاب والإغراق مخصوصا لقوم نوح تحديدا بناء على دعوة نوح الذي كذبه قومه، الله العادل لا يمكن أن يحل غضبه على غير من عصى بعد التبلغ، أضافة إلى أن ذنب المخلوق هو معيار الجزاء، فما ذنب الحيوانات والبشر الأخرون الذين لم يكونوا من ضمن قوم نوح (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) نوح (1)، فقد مهد قبل إرسال العذاب بالإنذار ليسقط الحجة على الناس ويقولوا لم يأتينا نذير ولا بشير، الله العادل لا يمكنه أن ينتقم لأنه ندم أو حزن على فشل تجربة أو عصيان البشر وهو الذي خلقهم وهو الذي يعرف أن ما خلق كان ضعيفا وظلوما وجهولا قبل أن يكونوا (يرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) النساء (28)، فلم يبارزهم بقوته المطلقة وقدرته التي لا تحدها حدود فهم ليسوا ندا له ولا يمكن المقارنة بين القوي المطلق والضعيف المطلق، حتى النص التوراتي يقول أن الله بعد تجربة نوح لم يعد مهتما بقضية الخطيئة الأولى واللعنة الأبدية لأنها بداية جديدة بروح جديدة { 9«وَهَا أَنَا مُقِيمٌ مِيثَاقِي مَعَكُمْ وَمَعَ نَسْلِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ}..
في الرواية القرآنية التي أعتمدت في بائها على ركنين أساسيين هما العلم والمعرفة المسبقة التي من الله بها على آدم ليكون مهيأ لدور الخلافة في الأرض، وثانيهما أن الله عندما فعل الأمر الأول لم يكن مريدا لبقاء آدم في الجنة لأن المشروع هنا ليس مشروع جنة بل مشروع خلاق طويل الأمد في الأرض، أي أن الله قد هيأ بالأساس كل مقدمات التجربة قبل أن يخلق آدم وقبل أن تحدث المعصية منه، وهذا يؤكد أن المشروع كان متكاملا وجاهزا للتطبيق وعن تصميم سابق منظم ومتكامل من جانب التدبير والتصرف، فقد فوضه به ربه بأوسع نطاق بقوله {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} فلو لم يخلق له ما في الأرض جميعاً ما صَحَّ أن يكون خليفة الله فيها، على عكس القصة التوراتية التي عمادها العلم اللاحق وردات الفعل من الله الذي كان لا يعرف أساسا كيف ستكون مجريات التجربة ولا أبعادها، والدليل أنه وصل لمرحلة المحو نتيجة حزنه على الفشل الذي أصابه مع آدم ونسله مع أنه سق وإن بارك آدم { 1هذَا كِتَابُ مَوَالِيدِ آدَمَ، يَوْمَ خَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ. عَلَى شَبَهِ اللهِ عَمِلَهُ. 2ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُ، وَبَارَكَهُ وَدَعَا اسْمَهُ آدَمَ يَوْمَ خُلِقَ} سفر التكوين الإصحاح الخامس، المستخلص من القصة التوراتية أن البركة من الله لا تنفع ولا تجدي أثرا على المبارك فيه لأن البركة واللعنة لا يجتمعان معا، كما لا يجتمع الخير والشر معا، السؤال هنا هل كان الله في نظر التوراة شريرا لا يقوى على إمضاء الخير بإرادته؟ أم أن الشر هو المتأصل في الخليقة ولا يمكن حتى للبركة أن تمحو أو تخفف من أثاره؟.
البركة في القرآن الكريم بركة تكريم وتفضيل لآدم لا تنتهي ولا تتوقف على ظرف لارتباطها أصلا بمشروع الأرض (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الإسراء (70)، بمعنى أن الله لا يتعامل بمبدأ الربح ولا الخسارة ولا يحزن ولا يغضب للنتيجة لأنه يعرف في علمه السابق أن القضية لا تغنيه ولا تشغله بقدر ما تغني موضوع المشروع وتفرحه وتحزنه (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) النساء (147)، فالعذاب عند الله معالجة لحالة وليس عقوبة فقط عن فعل خارج المشروع، ومن هنا تختلف القصة التوراتية عن الرواية القرآنية في هذا الجانب أيضا (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) السجدة (21)، الجريرة وأجر الخطيئة متجاوز حدود مسئولية الخاطئ في سفر التكوين بل هي سبب كل اللعنات حتى على الأرض التي ستكون مشروع الخير الذي أراده الله لها {17 وَقَالَ لآدَمَ: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ}، فأين دور البركة إذا؟ وأين مفعول العدل الإلهي في قضية أرادها الله أن تكون عادلة لا ظلم فيها والله لا يحب الظالمين.
المشهدية الصورية التي وردت في سفر التكوين مشهدية مادية تعتمد على التفصيل دون أن تعطي فكرة عن مشروع الله وإرادته، وتظهر لنا التجسيم والتقزيم لصورة الله الذي يبدو من خلال قراءتها وفهمها أن تجعل الله هو على صورة البشر وليس العكس { 26وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ»}، فكما أن الإنسان كائن معرفي يتعلم ويستكشف نجد أن الله في نفس المواصفات بل وأقل، فآدم بالصورة التوراتية وإن أخطأ لكنه كان أكثر قوة وشجاعة من الله بدليل أنه تحمل نتيجة التجربة وقبلها وهو يعرف أن ذلك خارج المطلوب منه، أما الله الإنفعالي المتردد بين أن يبقي آدم في الجنة وبالتالي يستدل على شجرة الخلود فينافس الرب أو يطرده منها ليتخلص من منافس حقيقي بعد أن أكل من شجة المعرفة، هذه المشهدية لا أظنها تتوافق مع صفات الله وخصائصه الذي خلق بها كل شيء لأجل أن يمجد ويطاع في أمره.
هنا نحن في مبحث علمي معرفي نقدي لا نريد أن نفضل شيء على شيء بقدر ما يهمنا الدراسة المقارنة بين طرحين مختلفين من حيث الزمان وأيضا من حيث الهدف منهما، فكلما تعمقنا في الدراسة النقدية وفق منطق العلم النقدي على أسسه التأريخية ومقارنة النصوص التي تتناول حدث واحد يمكننا أن نصل لصورة تقريبية أكثر يقينا وربما أكثر تطابقا مع الواقع التأريخي، هذا الكلام قد لا يعجب البعض وقد نتلقى ردودا قاسية من المتمسك بإحداهما ضد الأخرى، لكن الحقيقة في النهاية ستكون مع الطرح الأكثر واقعية والأقرب لمستدلات العقل السليم أيا كانت النتيجة، وأيضا قد نجد تبريرا معرفيا للطرح التوراتي من خلال الزمن الذي جاءت فيه الرواية وبنيت عمادها عليه، وأيضا لطبيعة المجتمع وخصائصه النفسية والمعرفية لها الدور الأهم في الصياغة والإيجاد، فالشعب الإسرائيلي وحسب الروايتين التوراتية والقرآنية كان شعبا يكثر في التفاصيل والأسئلة الخاصة، أي أنه شعب يهتم بتكوين الصورة مجسمة أو يرغب بها أن تكون مجسمة ليرى من خلالها وجوده، أما مجتمع الجزيرة والذي نزل عنده القرأن كان شعبا قد تعود على فهم الفكرة كرمز ومثل وقيم، لذا كان عندهم الشهر بما يمثله من أختصار وتكثيف للصورة هو المقدم والمفضل في الفهم والتعاطي معه.
قد يكون هذا تبرير وقد يكون مجرد رأي معرفي قد لا يلامس الحقيقة بحقيقتها ولكن يبقى العمل النقدي التأريخي مهما لفهم حركة التأريخ من خلال فهم وجودنا نحن، هناك الكثير من الآراء المعرفية التي تطرح هنا وهناك، من قبيل لماذا وجدنا نحن؟ وما الضرورة وما الهدف طالما أننا نكرر نفس التجربة ونفس المصير ينتظرنا؟ أو السؤال الدائم الحضور في عقل الإنسان هل أن الإنسان خلق شريرا أي مجبول على الشر؟ أم أن الشر هو تأثير الواقع عليه وأثر خارجي يجعله كذلك؟ من الأسئلة الوجودية الأخرى والتي نسمعها على الدوام هي هل حقا أن الله خلق آدم ليكون دالا عليه أو مستدلا على حقيقة لا يفهمها؟ الكثير الكثير من الأسئلة قد نقترب من إجابات جادة عليها عندما نمارس القراءة النقدية التي تربطنا بمصادر الأسئلة ومنها النص الديني بأعتبار أنه هو بتناقضاته الزمنية يثير في قل الإنسان هذه الإشكاليات التساؤلية، إذا عملنا وقراءتنا لا تتعلق فقط بما يعرف بدراسة الدين مقارنة ومقاربة فقط، إنها عملية البحث المستمر عن كل ما يشغلنا أو يثير فينا أحيانا الشعور بالعبثية والعدم اللا مفسر أو مبرر على وجه يقيني كامل.