كيف يمكن أختصار طريق النضال الفلسطيني ؟


رضي السماك
2021 / 5 / 22 - 21:38     

على عكس كل حركات التحرر الوطني العالمية التي نشطت بوجه خاص في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛مستفيدة من بروز ودعم الأتحاد السوفييتي وتزعمه للمعسكر الاشتراكي -كقوة عظمى ندة للولايات المتحدة والمعسكر الغربي - والتي تكللت جميعها بالانتصار، تفردت قضية الشعب العربي الفلسطيني الذي وقع تحت الاحتلال الاستيطاني الأسرائيلي إثر هزيمة الجيوش العربية 1948التي أنتهت بتهجير ما يقرب من مليون فلسطيني وإقامة الكيان الصهيوني "إسرائيل"، نقول: تفردت هذه القضية بمراوحتها مكانها بلا حل وازديادها تعقيداً لم تعرفه أي قضية تحرر وطني أخرى في تاريخنا الحديث، هذا بالرغم من عدالتها الواضحة وضوح الشمس؛ ووجود شعب على أرضه يقاوم الأحتلال بشتى الطرق المشروعة التي يملكها. ومع أن القضاء على الأستعمار والتحرر الوطني منه كان سمة العصر منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي (غداة نكبة 1948) وبخاصة في آسيا وأفريقيا، وكانت القضية الفلسطينية - كقضية عربية قومية - تستأثر بمشاعر واهتمام الشعوب العربية كافة، بل وتداخلت موضوعياً بشكل محكم مع مهامها الوطنية للتحرر من الهيمنة الاستعمارية الأجنبية، فلم يكن غريباً والحال كذلك أن توضع بعض الانقلابات العسكرية العربية في الخمسينيات والستينيات ضمن شعاراتها لاستيلائها على السلطة تحرير فلسطين على إثر نكبة 1948 التي حمّلت بعضها الأنظمة التي أنقلبت عليها مسؤوليتها، في حين أفرزت الحرب العربية - الأسرائيلية الثانية عام 1967 عن كارثة عسكرية أفدح من النكبة أنتهت باحتلال فلسطين كاملة. وقد لعبت الأخطاء في الحسابات الناصرية والسوفييتية دوراً في هذه النتيجة المؤسفة، ومُني المشروع القومي الناصري بانتكاسة. هنا تبنت القوى الفلسطينية المتواجدة في مخيمات اللاجئين في الأردن ولبنان خياراً غير مدروس "الكفاح المسلح" أي القيام بعمليات عسكرية في الداخل الأسرائيلي عبر التسلل من حدود هاتين الدولتين العربيتين، ورُفع في الأولى شعار تحويل الأردن إلى بؤرة ثورية شبيهة بهانوي لإسقاط النظام الأردني ، ودون مبالاة بمدى تمكن تلكما الدولتين وشعبيهما تحمل أعباء الضربات الانتقامية الأسرائيلية الوحشيى، ناهيك عن تدخل الفصائل الفلسطينية المسلحة في الشؤون السيادية الوطنية لهما، وكلنا نعرف ما نجم عن ذلك من خسارة المقاومة لكلتا الساحتين على التوالي في أيلول الأسود في الأردن عام 1970 ثم في صيف عام 1982في لبنان عندما حاصر الجيش الأسرائيلي بيروت العاصمة. وهنا أيضاً كان للقوى الوطنية اليسارية اللبنانية الحليفة للفصائل الفلسطينية أخطاؤها الفادحة لقبولها خوض حرب أهلية متشعبة المهام القومية والطبقية بالتحالف مع تلك الفصائل المستضافة والتي يُفترض ليس من مهامها الدخول في حروب لحل التناقضات المحلية. لكن ورغم هذه التجارب المريرة لم يجرِ للأسف مراجعة جريئة بل خطت القيادة الفلسطينية خطوة تخبطية للوراء بأن راهنت على انتزاع ما فقدته من "الكفاح المسلح" بمفاوضات أوسلو 1993 وهي مجردة من أوراق الضغط؛ لكنها لم تجنِ منها سوى مكاسب محدودة: سلطة مجزأة السيادة ومقسمة إلى ثلاث مناطق في الضفة وتحتكرها قيادة "فتح" المزمنة، وسلطة في قطاع غزة المحاصر تحتكرها قيادة "حماس" إثر الصراع بين الفصيلين المتقاتلين منذ عام 2007.
والحال ماكان لهذه القضية أن تستمر طويلا إلى هذا اليوم وأن يدفع الشعب الفلسطيني كل هذه الأكلاف والأثمان الباهظة من دمه ولحمه وأرضه لوتسنت لها قيادة ثورية موحدة تعرف كيف تبني استراتيجية نضالية واقعية تقوم على الاعتماد على القوى الذاتية في المقام الأول وعدالة القضية وتختط الخط النضالي السليم المتعدد الوسائل؛ وفق ما يلائم ظروف شعبها النضالية تبعاً لأماكن تواجده وبما يجبر العالم على التعاطف مع قضيته: وصولا لتكثيف الضغط على المجتمع الدولي والقوى الغربية المساندة لأسرائيل، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وإجبارها على أحترام وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية في حقه في تقرير مصيره على أرضه وإقامته دولته المستقلة وعاصمتها القدس. بيد أن الفرصة مازالت مواتية لاستغلال التعاطف العالمي والدولي الذي كسبته القضية على إثر الإنتفاضة الأخيرة في الشيخ جراح الأخيرة بالقدس والعدوان على غزة، شريطة أنهاء الإنقسام الفلسطيني الراهن وعدم المراهنة على القوى الأجنبية الأقليمية ذات المآرب من الأدعاء الكاذب بدفاعها عن القضية الفلسطينية خدمة لمصالحها السياسية.
على أن ذلك الإنقسام لن ينتهي إلا إذا توافرت إرادة سياسية لدى القوى المتنفذة في رام الله وقطاع غزة ( السلطة الفلسطينية ممثلة في قيادة "فتح " وحماس في القطاع) وأرتفعت فوق المصالح التنظيمية والقيادية الشخصية ونزعة أحتكار السلطة، وصولاً إلى برنامج نضالي موحد يأخذ بعين الأعتبار ما تحقق من مكاسب في الانتفاضة الأخيرة؛ وعدم التلكؤ في أجراء الانتخابات التشريعية بذريعة رفض إسرائيل أجرائها في القدس . إن حركة "حماس" تخطيء أشد الخطأ إذا ما توهمت بأنها بصواريخها التي أطلقتها على إسرائيل والتي كلفت شعبها أثمانًا باهظة ،وبخاصة في غزة، هي التي صنعت وحدها مكاسب الانتفاضة الشعبية الأخيرة والتي تجلت في القدس وفي أماكن ما يُعرف بعرب 48 داخل " إسرائيل"، بل هي مازالت بحاجة إلى مراجعة جريئة لهذا الأسلوب النضالي المدمر . فأطلاق الصواريخ العشوائي لا يسبب فقط في ضربات إنتقامية موجعة لأهالي القطاع ويبلبل جزءاً من الرأي العام العالمي في تعاطفه مع قضية الشعب الفلسطيني تستغله إسرائيل والقوى الغربية المساندة لها، بل ومن شأن تلك الصواريخ الطائشة أن تصيب مدنيين يهود أبرياء متعاطفين مع القضية الفلسطينية أياً تكن نسبتهم، ومنهم عرب 48 أنفسهم.
إن النضال الفلسطيني متعدد الأشكال وينبغي الإيمان بجدواه وتفعيله ومنه العصيان المدني وسلاح الإضرابات والاحتجاجات السلمية، وينبغي على القوى الفلسطينية أن تراهن على إرادة شعبها الفولاذية في خوض هذه الطرق النضالية الأنجع ثورية والأقل من التكلفة الجنونية: مهما بدا الطريق معقدا وصعباً وطويلا، وأن تُبدع في الجمع بين كل هذه الأشكال النضالية وتحسن قيادة شعبها في مواقيت استخدامها ، وأن تستفيد من تجارب الشعوب وحركات التحرر النضالية؛ فليس ثمة إسلوب واحد للنضال وليس بالضرورة ما سلكه شعب أو حركة تحرر محددة في نضالهما يصلح حتماً لظروف نضال الشعب الفلسطيني.