خلق آدم بين مشهدية سفر التكوين ورواية القرآن. ح1


عباس علي العلي
2021 / 5 / 22 - 21:37     

في البدء كانت الحكاية ومن البدء كان القرار أن لا يكون آدم مثل الله بعد أن عرف الخير والشر ولأنه عرف الخير والشر سيعرف معنى الحياة الأبدية فلا بد أن يخرج منها، لقد خشي الرب على سلطانه من آدم العارف وقال له أخرج منها قبل أن تفسد مملكتي ويكون فيها هلاكك وهلاكي، هيا أذهب بعيدا عن جنتي وأهبط منها حيث تنتظرك الأرض الملعونة ويكون لك فيها الشقاء والتعب، هذه لعنتي الأبدية عليك وعلى أمرأتك ونسلك ومن أغواكما بعضكم لبعض عدو، منها خرجتم وإليها تعودون، فلا ناصر لكم عندي ولا شفيع، وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» 22. فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الإِلهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الأَرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا23. فَطَرَدَ الإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ 24 سفر التكوين، هذا المشهد الصوري كان نهاية العرض الذي صوره الكتاب المقدس عن آدم الخاطئ العاصي الملعون بالمعرفة والملعون للنهاية لأنه أكتشف حقيقة المعرفة بعد أن منعه الله منها.
في القرآن الكريم تختلف المشهدية بدأ وعلاتها الغائية من القرار الأول أن يجعل في الأرض خليفة فهو يعرف الهدف وحدد الوجهة، ولكون المخلوق الجديد من طين الأرض فهو لا يمكن أن يكون إلا في بيئته التي خرج منها ليكون أكثر ألتصاقا بها وكما خرج منها يعود إليها {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين} (ص:71)، إذا كان القرار واضحا منذ البدء الأرض هي دار القرار ومسكن الخليقة {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} (البقرة:30)، بعد أن أستعجبت الملائكة من قول الله سجدوا له طاعة وإمضاء للأمر {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} (البقرة:34)، كان السجود أولى دلالات الخير فلا سجود لغير الله ولا معصية لأمره فسجدوا لآدم سجود المطيع لله لا سجود العابد للمعبود، خلا إبليس الذي ظن أن سجوده إشراكا لله في عظمته فأبى وأستكبر فولدت نزعة الشر في الوجود بمعية إبليس{إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} (البقرة:34)، هنا أكتملت معادلة الصراع وبانت حقيقة من يعرف ومن لا يعرف {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون} (الحجر:33)، القرار الثاني أن يجعل الخير متمثلا برمز والشر متمثلا برمز مغاير لا من جنسه ولا من طبيعته، إنه الصراع بين النار التي تعني الفناء وبين الطين الذي يمثل النماء{قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين} (الأعراف:13).
لم تنتهي الحكاية هنا فحسب فمشروع الله بخلافة الأرض لم يكتمل بعد والموعد القادم متعلق بصراع الخير والشر{فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} (طه:117)، فالله الذي وعد الملائكة أن آدم خليفته في الأرض لن يبقى في الجنة حتى ينجلي صراع الخير والشر صراع المعرفة والجهل، فالشقاء الذي حذر منه الله لا بد أن يكون في الأرض الموعودة له والخيار متروك لآدم أما أن يحيا أبديا أو يخرج منها إلى الشقاء والفناء {ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} (البقرة:35)، إذا كان التحذير الأول لآدم أن لا يقترف الظلم لنفسه بنفسه مهما كانت المبررات، هذا التحذير كان تنبيها له من إطاعة أو تصديق العدو المبين الذي أعلن وبكل وضوح أنه لن يترك آدم دون يغويه ليظلم نفسه {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى} (طه:120-121).
قبل أن يقرر الله قراره الثالث ولأنه عدل مطلق كان عليه أن يخبر آدم أنه قد فشل في أن يحفظ نفسه من الظلم وأن تنبيهه له كان معرفة وعلم مسبق والحجة عليه، معذور من الخطأ من لا يعرفه ولكن لا عذر لمن يعرف ثم يعصي بالمعرفة ومع ذلك فالله لا ينهي الظلم بالظلم {وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} (الأعراف:22-23)، لقد كان آدم إذا يعرف تماما أنه أخطأ ويعرف الظلم ويعرف الخسارة ويعرف أن الله توابا رحيما {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} (البقرة:37)، التوبة هنا ليست سببا حتميا لبقاء آدم في الجنة {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} (طه:122)، ولكنها المرحلة الثانية من خطة الله ومشروعه والعلة التي كانت متسلسلة في إيجاد الغاية وتحقيق الهدف {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} (طه:123).
بين مشهدية التفاصيل وعرض الحدث كصورة وبين مشهدية الرؤية والفكرة كدرس يختلف القرآن الكريم عن سفر التكوين في الكتاب المقدس ليس في المضمون فقط بل بأساسيات قضية الخلق والتكوين، الكتاب المقدس أستغرق كثيرا بعرض الصورة ليبين الحدث على أساس أن الله كائن تجريبي يختبر مشروعه ليرتب النتائج النهائية على ضوء التجربة مع آدم كما كان ذلك في قضية الخلق بأيامه الستة التي كانت قبل آدم، {فَعَمِلَ اللهُ وُحُوشَ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا، وَالْبَهَائِمَ كَأَجْنَاسِهَا، وَجَمِيعَ دَبَّابَاتِ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ} الإصحاح الأول 25، فهو لم يعرف بدأ أنه حسن حتى رأى ذلك وتستمر حكاية التجريب في كل الأيام حتى يقر خلق آدم ومن ثم خلق زوجته من ظلعه {وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا} 26، فالله ليس لديه مشروع مسبق وليس لديه خطة محددة المعالم، كل ما في الأمر أنه يخضع لمنطق التجربة وينصاع لها وللفاعلين داخلها دون أن يعترض أو يمارس علمه السابق للأشياء قبل خلقها {وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ»2,18، فهو إذا محكوم بالتجربة وشروطها وما تتطلب في الوقت الذي يعرض القرآن القضية من وجهة نظر أخرى تفصح عن أمتلاك الله كل تفاصيل القصة وخيطوها وعناصرها وشكليتها النهائية {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} (النساء:1).
بين المشتركات والفوارق تجتمع القصة على حقيقة واحدة وهي أن النص الديني في غايته لا يستهدف بالتأكيد فقط أخبارنا عن قضية لمجرد أنها حدث حصل وأنتهى، بل الأهم فيها أن ما كان لا بد أن يصنع لدينا حقائق معرفية أراد النص الديني أن تكون محمولا معرفيا لا يفارق القصة، بل لا بد أن يكون هو عمادها وجوهرها، إذا لنعود لسفر التكوين ونستخلص هذا الجوهر {وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا} 15 الإصحاح الثاني، في الوقت الذي يصرح قبل ذلك وبعد أن الجنة كانت قد تم بنائها وغراسها وهندستها { 9 وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، 10وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ، وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ رُؤُوسٍ}، وفق منطق السفر كانت مهمة آدم أن يكون فلاحا وحارسا للجنة وليس أكثر من ذلك مع تنبيه الله له أن لا يقرب من شجرة المعرفة لئلا يموت موتا، في الرواية القرآنية قد نجد أن الأمر مختلف قليلا والأمر ليس متعلقا بوظيفة لآدم بقدر ما هي وضعه في التجربة وبيان قدرته على الأمتثال لأن الجنة أساسا لم تخلق له ولزمنه بل لأنها ستكون خلاص التجربة في أنتهاء الوجود كليا وهو ما يتعارض أصلا مع إغواء إبليس (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى)، إذا القضية ليست متعلقة بخطيئة محددة ولا بعصيان أمر الله بقدر ما هو بداية تفعيل الخير والشر، مع العلم أن القصة في السفر ورواية القرآن تشترك في قضية محاولة آدم أن يفهم أو يستدل على سر الخلود ومفهوم الملكية.
نستخلص من الصورتين أن آدم كان عارفا ما يريد ممتلكا لرؤية بشكلها ونتيجتها وإن لم يكن لإبليس دور لا بد أنه سيحدث ذلك طالما أنه كائن معرفي مكتشف (في سفر التكوين) ويعلم الفرق بين العدل والظلم والحق والباطل والرحمة (في القرأن)، في الحالتين لم يكن آدم جاهلا ولم يكن غير عارف ومميز بين الأشياء وهو الذب سمى الأشياء بأسمائها أول مرة (سفر التكوين) {19وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا. 20فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ}، أما في القرآن فقد تجاوز هذا العرض بعد أن هلمه الله الأسماء كلها فعرضها على الملائكة وطلب من آدم أن ينبئهم بأسمائهم (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) البقرة (31)، هذا التعلم والتعليم والعلم كان سابقا حتى على أمر النهي وحتى قبل أن ينزله للجنة، إذا كان آدم عالما عارفا متذكرا بمعنى أنه كان جاهزا من تلك اللحظة أن يكون محل تكليف بما فيه أن بالتأكيد يعرف أن لكل بداية نهاية ولكل حياة موت، ومن هنا فنسبة المعرفة للشجرة كما في سفر التكوين غير حقيقية لسبق المعرفة، والأصح أنها شجرة من أشجار الجنة تعلق برمز خاص لا تملك خصيصة إلا خصيصة عدم الأقتراب والأكل منها يمثل نسيانا لعهد الله وخضوع لمنطق الشر وأغواه بواسطة إبليس.