الأصلاح الديني طريق إعادة العقيدة المسيحية لمضمون رسالة السيد المسيح ع ح2


عباس علي العلي
2021 / 5 / 20 - 23:13     

وظهر مفهوم العلمانية كواحدة من تدابير الشعوب ضدهما معا، بالتالي أن ما اكتست النهضة الصناعية الأوربية لاحقا من طابعا ماديا إلحاديا يجد مبرراته التأريخية من فشل العقيدة المسيحية من أن تقود الحياة بإيجابية بعد أن أفرطت تماما في رعاية مصالحها وثوابتها على حساب الدين وعلى حساب الإنسان، وبقيت الكنيسة والمسيحية كمؤسسة خاضعة لعلمنة الحياة الاجتماعية ومشرعة لها لأنها لا تستطيع أن تتراجع إلى المربع الأول وتنتقد مسيرتها التأريخية، ولا هي قادرة على تخليص العقيدة من إرث الواقع وتطهيرها من كل الانحرافات، فخنعت وأطاعت مرغمة تحت عناوين قوة المجتمع العلماني وإبدال الجامع القومي بدل الجامع الديني، فتحولت أوربا المسيحية إلى أوربا القوميات والشعوب وفقدت الكنيسة قوتها منزوية في القصر البابوي والكنائس التي تحولت إلى مرافق أجتماعية أكثر من كونها مؤسسات دينية تهتم بالعقيدة والمؤمنين بها.
هذا التحول ليس نتيجة التطور التاريخي بين العلم والدين ولا هو نتيجة صراع حضاري بين كونية الدين والحاجة إلى نظام أخر مبني على علائق وروابط مختلفة، بل هو نتيجة للإنحرافات والتغيير والتزييف ومغادرة العقيدة الصحيحة وإبدالها بصورة مشوشة وضبابية لها من خلال التركيز على الصورة الطقوسية البعيدة عن أساسيات الدين الثلاثة التي تكلمنا عنها في مبحث سابق، التجربة التأريخية أيضا تثبت لنا أن مقدار المباعدة بين جوهر الفكر وحقيقته يقاس دوما بابتعاد الإنسان ذاته الفطرية المؤمنة أصلا بقانون الله، ولو رجعنا مثلا إلى ما سمي بالتوراة الموجودة حاليا والتي يطلق عليها العهد القديم نجد أن (في الأبواب الأولى وهي الأبواب المليئة بالتفاصيل الجزئية جدًا حول القرابين.. وسنكتشف أن ما دون فيها لا علاقة للشريعة الموسوية الحقيقية بهذه الآداب والطرق ولا قيمة عقائدية لها مع جاء بالواح موسى وأحكام التعبد والعبادة، وأن كل ما مدون فيها منقول وبتأثر شديد بما في العقائد العراقية القديمة التي نقلها اليهود في السبي وأدخلوها كجزء من العقيدة الموسوية وبثوبها الوثني القاسي الذي لا يتوافق أصلا مع إرادة الله في أن يكون الإنسان معمرا للوجود وليس جزارا يقدم الأضاحي والقرابين ليرشي ربه ويسخر من إرادته)، ومن هذه الروح الدموية تبنى اليهود شعار (الدم أجر الخطيئة) أو (الموت أجر الخطيئة) ومنها أنتقل إلى العقيدة المسيحية لتؤسس إلى مفهوم الفداء الذي تكلمنا عنه في مباحث سابقة.
الخلاصة التي نصل لها في كل مرة عندما نقرأ الدين أيا كان شكله ومصدره نجد أن العامل البشري والأقرب له والدائر في إطاراته، هو العامل الرئيسي في جره إلى خارج ماهيته أما من خلال محاولة تعيين حقيقة الدين من الناحية الخارجية، بمعنى قراءة الدين بغير أدواته أو النظر له بعين مغايرة، وثانيهما بيان التعاليم الدينية المثالية الروحية بالمصطلحات المادية أو الحسية والتي لا يمكنها أن تجيب دوما عن ضرورة وأهمية ودور تلك التعاليم في الحياة العامة، تماما كمن يسأل نجار قديم عن أسرار الفلك والفيزياء بحجة أنه صانع ولديه تجربة في التكوين ويمكن له أن يدرك السؤال بحقيقة أن جزء من مهنته وتجربته تعتمد بعض القضايا الفيزيائية .
هذا لا يعفي من إيماننا أن العقيدة يجب أن تكون أقرب للإنسان من نفسه ومن واقعه ومن منطق الأشياء التي ترتبط بنظام الكون الشمولي، ومهما حاولت العقائد أن تبعد هذا الإنسان عن أرتباطاته ستجد نفسها عاجزة تماما أن تدرك الديمومة والتواصل، مما يدفع رعاتها وقادتها أن يبدلوا ويغيروا في كل مرة للخروج من الإنسداد التاريخي بأفكار ربما تتناقض مع القديم المختنق، مثلا منشأ فكرة التثليث الأب والأبن والروح القدس مع إن المسيح عليه السلام لم يعلم هذه العقائد في حياته، بل هي غير موجودة حتى في أناجيل متى ومرقص ولوقا ويوحنا، لقد اخترع ”بولس” عقيدة ”الكفارة“، أما “التثليث” فكان مجهولاً في أيامه، إنها عقيدة ظهرت بين المتكلمين المسيحيين المتأخرين.. فعندما خرجت المسيحية من حدود الشام، بدأ رجال الدين المسيحيين يبينون التعاليم المسيحية باللغة التي تفهمها الشعوب الأخرى، كالمصريين واليونانيين وبعدها أقرت الكنيسة تحريفات بولس في اجتماعها في فينيقيا، وأقرها حاكم الدولة الرومانية في تلك الفترة ولازالت هذه الإضافات إلى اليوم تشكل وتمثل محور العقيدة المسيحية الراهنة والتي تتعرض كل يوم للتغيير مع كل إحراج أو إنكشاف يعود لبداية عصر التغيير، للحد الذي هدد أحدد الباباوات أن نسف فكرة الفداء والخلاص يفرغ المسيحية من جوهرها ويعيد بها إلى الديانة التي لا تملك هوية وليس لها هدف وضرورة.
يمكنني القول وأنا واثق تماما أن الكثير مما أدخل في العقيدة المسيحية من أفكار محرفة أو أحكام بنيت على التأويل التأريخي أو اللغوي خارج ما قاله السيد المسيح بآراميته التي كان يتكلم بها، لو أعدنا دراستها ونقدها نقدا علميا بتجرد من الإنحياز لها أو ضدها ، نجدها تقول ومن غير غطاء كيف يمكنك أن تكذب على الله كذبا مقدسا ليستطيع المغفلون تصديقك وأنت تعلم أنك تكذب عليهم، وتعلم أن الله لم يقل هذا ولا يأمر به، كما أن الكثير المدون في العهد الجديد لم يكن من هدف عيسى ولا من أصل رسالته، فبينما أصبحت الإضافات البشرية جزءًا لا يتجزأ من النصوص السماوية القديمة حتى أن مسألة تمييز الجزء السماوي من الإضافة البشرية بات أمرًا مستحيلاً وهو المطلوب أساسا من القوى التي أرادت هذه النتيجة وسعت غليها، اليوم لا يمكنك أن تجد إنجيلا واحدا كتب في عهد عيسى، ولا توراة حقيقية كتبت في عهد موسى، مع العلم أن الشعب اليهودي بمرحلتيه الموسوية والعيسوية كان شعبا مدونا وذو ثقافة فكرية عالية تدرك قيمة المدون وأثره في حفظ العقيدة وصيانتها من التحريف والتبديل.