الأصلاح الديني طريق إعادة العقيدة المسيحية لمضمون رسالة السيد المسيح ع ح1


عباس علي العلي
2021 / 5 / 20 - 21:55     

الذي يقرأ العهد الجديد وكل الفكر الديني المتصل به من أفكار ومعتقدات وطقوس وأتجاهات تتناول ترسيخ الفكرة المضمرة فيه، وبعيدا عما يسمى بإزدراء الأديان يصل إلى جملة من الحقائق التأريخية التي نتمنى كمؤمنين بالله ورسالاته على الأرض أن تجد عقول نقدية تحاول فك التشابك بين ما هو ديني رسالي يعود مباشرة إلى إرادة الله عبر ما بشر به الأنبياء والرسل، وبين ما هو أسطوري وتأريخي قد أختلط فيه ما هو مستجيب لرغبة البشر وتجربته في الحياة منقطعا أو متعارضا مع مفهوم الخيرية والأصلحية التي أرادها الله للبشر عبر تلك الرسالات بما تحتوي من أوامر إرشادية توجيهية تأخذ طابع الإلزام مرة وطابع النصح والتنبيه مرة أخرى.
مما لاشك فيه أن أي فكرة إنسانية وهي تخوض في حياة الإنسان لا بد لها أن تكون عرضة دوما للتدخل الخارجي سواء كان ذلك بوعي الإنسان وإرادته، أو من خلال مؤثرات التجربة نفسها بما تلقي على المتلقي والمتعامل معها من أستحقاقات التقدير ورد الفعل الذي لا بد أنه أثر أصلا في فكره وإرادته، فيخرج من التجربة الفكرية بفكرة أخرى تقترب أو تبتعد حسب قوة المؤثر الخارجي على النتيجة التي أدركها، ومن ثم حاول أن يسقطها ليس على التجربة ذاتها بل على مصدر التجريب وهنا الفكرة هي موضوع التطور بأي شكل كان.
لذلك تعاني التجارب الفكرية البشرية أحيانا كثيرة مما يعرف بأنه الإنسداد أو التحجر حينما يعجز الإنسان عن هضم الفكرة بشكلها وإطارها الخارجي متخليا عن جوهرها وروحها الأصلية، الدين واحد من تلك التجارب المعرفية التي عانت هذا الأمر وحاولت أن تجد لها مخارج تنقيها من حالة تحجر العقل الديني بما يعرف بالتجديد أو الإصلاح الديني، هذا لا يعني بأي حال أن تجديد الدين هو اختراع إضافة أو حذف لدين الله بما يخل من تلك الأساسيات التي أرادها الله كخارطة طريق للإنسان نحو الكمال النسبي في مسيرته وتجربته في الوجود، وإنما يعني تطهير الدين الإلهي من الغبار والضبابية الداخلة عليه الذي يتراكم عليه، وتقديمه في صورته الأصلية النقية الناصعة كقوة قادرة على أن تنهض بالوظيفة الذاتية للدين، وتحمل معها أملا أخر بأن الله عندما شرع الدين كان مدركا لهذه الحقيقة فأودع في النص الدين كمحمول جزئي وفي عموم الدين كمحمول كلي أسباب البقاء كونه الأصلح الذي لا يمكن أن يتجاوزه التاريخ وتتجاوزه التجربة البشرية.
كل الأديان التي قيل إنها أنزلت من السماء أو التي كانت إبداعا بشريا مستجيبا للجزء المثالي من الوجود تعرضت بعد إنطلاقتها الأولى إلى شيء من التحوير والتدوير والتدخل البشري، سواء في المضمون وهو الأخطر أو في الشكليات التي مع تراكمها الغير متماهي مع سيرورة الدين أن تفرض نتائج تبعده رويدا رويدا عن الخط البدائي، خط الشروع الذي أريد أن يسير عليه ليكمل وظيفته الوجوديه بشقيها المادي والمثالي، ومن هنا لم نجد ومع كل التحرز الذي كان عليه رعاة الدين في الحفاظ على هيكلية الفكرة وهدفها الغائي، لكن التجربة التأريخية تثبت أن الإنسان هو من جر الدين لطريقه وليس السعي خلف الدين بطريقته الصحيحة.
هذا الكيد والتمثل الإنساني لعدم أستقرار وانصياع العقل البشري تحت ضغط الأنا المتضخمة المتمثل في محاولات أنسنته وتحريفه من الداخل بقصد إعادة ترتيب مفاهيمه على نحو يوافق الثقافة الغالبة التي هي ثقافة الواقع المتجذر باللا وعي الكامن، حتى يخضع بالنتيجة إلى سلطانها وأتجاهاتها الفردية على أنها هي التي تفرض قوة التغيير، وتحت مسميات وعناوين كثيرة أبرزها عملية تجديد الخطاب الديني أو ضرورة أستجابة الدين لشروط الواقع لا جر الواقع لمساحة التجديد الحقيقي الذي جاء من أجله الدين، أول المظاهر الكبرى التي عانت منها الأديان الإبراهمية ومنها شريعة ودين موسى ما يطلق عليه تهويد الخطاب الديني المتمثل بالمادية المفرطة المفروضة على واقع مثالي أعتباري بكل المقاييس، الذي تتصاعد دعاويه مع كل فرصة لأثبات أن المادية الوجودية التي جلب عليها العقل الديني اليهودي مما حدا بكبار رجال الدين فيهم أن يحاولوا تحت مبررات شتى لإثبات أن العلاقة البينية بين الإنسان والأخر لا بد أن تمر عبر خطاب مصالح، خطاب يراعي الحفاظ على الوجود المؤثر اليهودي في المجتمع تعويضا عن حالة الضعف الديموغرافي المتمثل بكونهم شعب منغلق لا يسمح لغيره أن يشاركه القدرة والقوة على التدين بدينه أو مشاركته في بناء واقع عام يخضع لمتطلبات هذه العزلة والتفرد الجنسي، وتتكاتف جهود المحرفين فيه فتصب كلها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن قصد أو عن غير قصد لصالح القوى المهيمنة على القرار اليهودي وإعادة صياغة مفاهيم الدين لهم ولغيرهم على هذا الأساس.
من أكثر الديانات والعقائد التي تأثرت بهذا التدخل المباشر والغير مباشر من قبل الفكر والثقافة اليهودية الدينية والأجتماعية هي الديانة المسيحية بشكل خاص، كما تأثر الإسلام كثيرا بها ومنها وبشكل جلي في المرويات الإسرائيلية التي دخلت دائرة المعارف الإسلامية من خلال الحديث الذي فسر أو الذي أول كثيرا من الوقائع والأحكام الدينية أستنادا إلى تلك القاعدة التخريبية التي مارسها اليهود عبر تأريخهم ضد الأخر المختلف، بدأت الانحرافات في المسيحية تظهر بشكل واضح كمشروع تغييري وليس تجديديا بأي حال مع بولس الطرسوسي أو ما يعرف عند المسيحيين ببولس الرسول، الذي كان يهتم بدراسة لاهوتيات الإسكندرية التي تتبنى أفكار المدرسة الأفلاطونية الحديثة، تتبنى هذه المدرسة الفلسفية بشكل رئيسي فكرة النشوء والتكوين الوجودي قائمة على أن العالم قد وجد وصار وتأسس أبتداء من ثلاث عناصر وهم المنشئ الأول (العقل المولد الأول أو العقل الأب)، وثانيها العقل الذي تولد من المنشئ الأول فهو منه ولكنه ليس بالضرورة أن يكون مختلفا عنه ولكن من المؤكد أنه فرع وحيد له (العقل المولد أو العقل الأبن)، والعنصر الثالث هو الروح المتناسخة والقابلة للتعدد والفعل المختلف وحتى المتناقض الذي صدرت منها سائر الأرواح، وهذه الروح عندهم تتصل بالمنشئ الأول (الأب) عن طريق العقل (الأبن) والرابط بينهما هي الروح أو الإشارة التي تحمل سر الأب والأبن معا، ومن هذه التخريجات الفلسفية التي أستغرقت في ماديتها المجردة ولد التثليث في النصرانية بعيدا عن أصل الفكرة الدينية التي تقول أن الله مطلق الكمال والتمام في الفعل دون حاجة لوسيط أو سر يربطه بالوجود المخلوق.
كان لدور المدرسة لأفلاطونية الجديدة بأفكارها المادية وأختراق الفكر اليهودي الذي كان في أحد أوجهه متماهيا بالنتيجة مع مخرجات الفكر الفلسفي الأفلاطوني الباب الذي دخل منه التحريف بشكل عقلاني منظم، فقد كان بولس من رواد هذه المدرسة وكان من أشد أعداء المسيحية بمنطلقاتها الأولى التي تأسست في بلاد الشام مع عيسى الرسول النبي، وفي ظروف غامضة ومع خروج الديانة المسيحية من حاضنتها الفكرية والعقيدية وأختلاطها مع ثقافات وقيم وعقائد أخرى، أصبح بولس الرسول قطب الرحى في الديانة النصرانية الجديدة التي تبنت تدوين الأناجيل الجديدة وفقا للواقع الراهن أنذاك، ثم تبلورت الأفكار المادية الفلسفية شيئا فشيئا لتشكل مظهر العقيدة الإنجيلية بعنوانها الحديث (العهد الجديد) وبدأت التحريفات التفسيرية التي أدخلت عليها والتي مصدرها لاهوتيات الإسكندرية وغيرها من المؤثرات التي خالطتها أثناء خروجها من بلاد الشام نحو مجتمعات ذات عقائد وثنية ومادية وإن كانت بصبغة فلسفية أحيانا، وقد أورد عديد من المؤرخين الأوروبيين أن بولس الرسول هذا لم يعتقد الديانة النصرانية أصالة إنما جاء لينفذ أجندة المحكمة اليهودية العليا المعادية والكارهة للنصرانية، ودعم المؤرخون هذا الاتجاه بدليل أن شيوخ بولس في مدرسة الاسكندرية كانوا يهودا.
إن دراسة العقيدة المسيحية الراهنة من خلال علم أصول الدين نرى أن هذه العقيدة ليست إلا إنعكاس لعلم الكلام المسيحي الذي نشأ وتطور من خلال الفلسفة المادية التي أهتمت أكثر بالتبرير والبناء والمحاججة للإثبات والنفي ولم تهتم بشكل أساسي بالحفاظ على بناء هيكل العقيدة العيسوية، لذا فمن غير المستغرب أننا نجد في طيات هذه العقيدة قوة المنطق الكلامي واتخاذ أسلوب التبرير والتأويل محاولة للدفاع عن الخلل الذي يعتري بنائها الروحي، حتى وصل الحال إلى أن الكنيسة وإلى اليوم تواجه أسئلة المسيحيين الذين يطالبون تفسيرا واضحا لمساواة الثلاثة بالواحد، بأنها قضية سرية وهذا الأمر خارج تساؤلات البشر وعليه بني مبدأ عدم جواز البوح به ! يقول القديس اوغسطين: “إن كل ما جاء في الأناجيل لا ينبغي للعقل أن يجادل فيه”.
الغريب في هذا المنحى أنهم يطلبون من أتباع الديانات الأخرى أن يفحصوا نصوصهم الدينية وأن من الواجب أن تتماهى عقائدهم التي بنيت على خلاف مع العقيدة اليهودية الإسرائيلية التوراتية بأعتبارها قانون الرب وناموس الأنبياء، لكنهم عندما تتعارض الكثير مما في الأناجيل مع الناموس ومع قانون الرب يمنحون أنفسهم عذرا بأن هذه الأناجيل معصومة من الخطأ وإن ناقضت الناموس الموسوي أو حتى بديهيات العقل، ما سعت الكنيسة إلى ابتداع مختلف وسائل التخدير الفكري والمعرفي لإبقاء ظهور الشعوب عارية تحت سياط الملوك، كل هذه العوامل كان لها تأثير عكسي حين سعى الإصلاحيون إلى التحرر من سطوة هذا التخادم بين الكنيسة كسلطة روحية والحكام السياسيين كسلطة أجتماعية وتنظيمه ذات قوة وقدرة على فرض القانون الكنسي على الشعوب مقابل أضفاء القداسة والعظمة عليها في معادلة الدين والعقل، لذلك كانت حركات الإصلاح الديني مقدمة للثورة على النظام الكنسي وعلى العلاقة التخادمية بينها وبين السلطة الزمنية، ولم تتوقف هذه الثورة على إصلاح ما ابتدعه المجامع وخطط الباباوات ورؤى القساوسة، بل امتد التمرد على ظلم وتحجر وأنحراف الكنيسة إلى سخط عام على كل ما يتعلق بالدين.
وظهر مفهوم العلمانية كواحدة من تدابير الشعوب ضدهما معا، بالتالي أن ما اكتست النهضة الصناعية الأوربية لاحقا من طابعا ماديا إلحاديا يجد مبرراته التأريخية من فشل العقيدة المسيحية من أن تقود الحياة بإيجابية بعد أن أفرطت تماما في رعاية مصالحها وثوابتها على حساب الدين وعلى حساب الإنسان، وبقيت الكنيسة والمسيحية كمؤسسة خاضعة لعلمنة الحياة الاجتماعية ومشرعة لها لأنها لا تستطيع أن تتراجع إلى المربع الأول وتنتقد مسيرتها التأريخية، ولا هي قادرة على تخليص العقيدة من إرث الواقع وتطهيرها من كل الانحرافات، فخنعت وأطاعت مرغمة تحت عناوين قوة المجتمع العلماني وإبدال الجامع القومي بدل الجامع الديني، فتحولت أوربا المسيحية إلى أوربا القوميات والشعوب وفقدت الكنيسة قوتها منزوية في القصر البابوي والكنائس التب تحولت إلى مرافق أجتماعية أكثر من كونها مؤسسات دينية تهتم بالعقيدة والمؤمنين بها.