المسيح من الولادة للرسالة


عباس علي العلي
2021 / 5 / 19 - 08:15     

كثيرا ما يردد المسيحيون أن ولادة المسيح وبعثته ورسالته مذكورة في التوراة وعلى لسان الرسل والأنبياء من بني إسرائيل، وكان الامر جليا أن أخر أنبياء بني إسرائيل والذي سيكون أخر ملوكهم موضع أمر يقيني لا شك فيه، الشيء الذي يتفق عليه بني إسرائيل هو أن القادم سيكون من نسل داوود حتما وحدَّد أرميا انه يأتي من نسل داود "ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن بر‍ّ فيملك ملك وينجح ويُجرى حقًا وعدلًا في الأرض، وفي أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمنًا وهذا هو اسمه الذي يدعونه به الرب برُّنا" ( ار 23: 5، 6)، وتأكيدا لهذه النبوءة فقد تكررت في مواضع أخرى منها نبوءة بلعام " أراه ولكن ليس الآن، أبصره ولكن ليس قريبًا، يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل فيحطم طرفي موآب ويهلك كل بني الوغا" (عد 24: 17) وهذه النبوة هي التي حركت المجوس من أرض المشرق عندما رأوا نجمه، كما جاء أيضا في تلك النبوءات الزمن والمكان الذب يبكون مولدا للنبي الموعود (وحدَّد دانيال الزمن الذي يتجسد فيه الله قدوس القدوسين، وربط هذا الزمن بإصدار الأمر الملكي لتجديد أورشليم فقال "سبعون أسبوعًا قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة لتكميل المعصية وتتميم الخطايا ولكفارة الإثم وليُؤتى بالبر الأبدي ولختم الرؤيا ولمسح قدوس القدوسين فأعلم وافهم انه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعًا" (دا 9: 24، 25).
هنا ومجارات مع فهم بني إسرائيل لتلك النبؤات القادمة زمانا ومكانا وشخصا كان على بني إسرائيل أما التصديق بما فيها من أمر وأنتظار الموعود الجديد منذ أول يوم من ولادته وحتى قيامه بالدعوة التي أرسل من أجلها، وتبعا لذلك فكان من المفترض ومع إيمانهم بتلك النبوءات أن لا يتركوا الأمر دون ملاحقة وتتبع وتدوين كل شيء لأنهم مأمورين أصلا بطاعته وأتباعه وتصديقه بما سيأتي به، البحث التأريخي لم يذكر لنا من كل ذلك إلا حالتين الأولى ولادته وتعميده وهي كما وردت (إن يوسف جرى إلى بيت لحم يبحث عن داية وعندما عاد إلى المغارة كانت مريم قد وضعت والطفل ملفوف ونائم في مزوده، وإن الداية التي أحضرها يوسف كانت مصابة بالجذام لكنها ما أن لمست الطفل حتى شفيت من الجذام، وإن الطفل تم ختانه في المغارة وتم الاحتفاظ بغرلته في آنية من الألبستة والمراهم، وإن نفس هذه القنينة هي التي اشترتها مريم الزانية ودهنت أقدام الرب)، والثانية هجرته مع أمه إلى مصر ومن ثم العودة مرة أخرى إلى الناصرة مع التأكيد على وجود الكثير من اللغظ في موضوع الولادة وموضوع الهجرة، والتركيز في العهد القديم كله على حياته فيما بعد الرسالة، السؤال هنا لو كان الأمر بهذه الدقة من المعرفة والتحديد لماذا لم نجد تأريخا مفصلا عن المسيح المنتظر قبل إعلان رسالته، بل كل القصة التأريخية تركز بشكل مبالغ فيه وأكثر على موضوع الصلب والقيامة الأولى؟.
تتفق الدراسات التاريخية على أن أكثر ما متوفر من تفاصيل شخصية عن السيد المسيح لا تتناول إلا الفترة ما بعد الثلاثين من عمره، أما قبل ذلك فالمصادر شحيحة والمعلومات المتوفرة لا تتناسب مع أهمية الشخص الموعود والمتنبئ به، وهذا يدل على أن النبؤات كانت قد أولت لاحقا بهذا الأتجاه، أو أن هناك نوعا من التجاهل المتعمد لتغييب جزء من الصورة لأهداف وغايات يراد منها إظهار جزء من الصورة المزيفة والتغطية على الجزء الأهم والذي لا يتناسب مع الطروحات التي دونت لاحقا، الأهتمام كان محصورا في قضيتين فقط ولادته وتعميده من قبل أبن خالته يحونا، ومن ثم الزعم بهروبه مع والدته إلى مصر ثم العودة للناصرة، وهذه التفصيلية مشكوك بها حتى أن أكثر المؤرخين ينفون حصلها جملة وتفصيلا.
حتى أن الكنيسة بتأريخها عن السيد المسيح لا تعطي طبيعة واضحة محددة لعيسى لا كتأريخ معزز بالبراهين والحجج التي يمكن الوثوق بها، ولا حتى لماهية عيسى كفرد والمجمع لديهم أنه مجهول الطبيعة و الهوية والوصف، تارة يصفونه بأنه إنسان وتارة يصفونه بأنه إله، وتارة هو ابن الله، وتارة هو إنسان وإله معًا، تارة يقولون (له طبيعة إنسان، وتارة له طبيعة إله، وتارة له الطبيعتان معًا)، وتارة يقولون (له إرادة بشرية، وتارة له إرادة إلهية، وتارة له الإرادتان معًا)، هذا يجعل من شخصية عيسى النبي شخصية غامضة مبهمة ليس لها مصداق واقعي، فقد لعبت السياسة والمصالح التوافقية بين الكنيسة والإمبراطورية الحاكمة شروطها وتاريخها في بناء قصة النبي وحياته تدعيما لما جاء أو ورد في العهد القديم، عندما تم فرض المسيحية في القرن الرابع ديانة رسمية لكل الإمبراطورية الرومانية، انبرى الكهنة في كل دولة لاستكمال صياغة الأناجيل ليتم فرضها كنصوص منزلة، متخذين من نصوص العهد القديم دليلا على كيانهم الذي يختلقونه، كما قامت في نفس الوقت بإدخال أهم الجزئيات من الديانات المحلية لتسهيل عملية دخول الأتباع في المسيحية، وهو مما تم فرضه في مجمع نيقيه الأول سنة 325 لتأليه يسوع.. وهنا يؤكد كلا من ديفيد إيكة، وجيرالد ماسيه، وجريفز ـ على سبيل المثال لا الحصرـ إلى وجود من مائة إلى ثلاث مائة نقاط تشابه بين يسوع وكريشنا.. ولا أقول هنا شيئا عما استحوذوا عليه من الديانة المصرية القديمة وغيرها..
في حكاية سفر العائلة المقدسة كما يسمونها في أدبياتهم الدينية هناك خلل وعدم موضعية وثقة في مصدر الرواية وطريقة نسجها كما هي الآن، فالسند الوحيد الذي ذكرها هو إنجيل متي فقط وأصلها المنفرد كما ورد ينحصر في الصورة التالية {"وبعد أن انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، لأن هيرودس مزمع يطلب الصبي ليهلكه فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة هيرودس لكي يتم ما قيل من قبَل الرب بالنبي القائل من مصر دعوت ابني" (متّى 2: 13 ـ 15)، وعندما علم هيرودس "ان المجوس قد سخروا به غضب جدا فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس، حينئذ تم ما قيل بإرمياء النبي القائل" (متّى 2: 16 ـ 17)}، الخلل في الرواية فضلا عن أنها وردت في إنجيل متي المستبعد ورغم أهميتها وأهمية الحدث فلم ترد لا في بقية الأناجيل ولا حتى في كتابات عصر الإمبراطورية عن مذبحة للأطفال في عصر هيرودس.
النقطة الأخرى ومن بقية القصة والعودة يتكلم إنجيل متي {"فلما مات هيرودس إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلا. قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل. لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي. فقام وأخذ الصبي وأمه وجاء إلى أرض إسرائيل. لكن لما سمع إن أرخيلاوس يملك على اليهودية عوضا عن هيرودس أبيه خاف أن يذهب إلى هناك. وإذ أوحى إليه في حلم انصرف إلى نواحي الجليل. وأتى وسكن في مدينة يقال لها الناصرة. لكي يتم ما قيل بالأنبياء أنه سيدعى ناصريا" (متّى 2 : 19 ـ 23)}، ما يعيب هذه الرواية فضلا عن هشاشة القصة وغيابها عن المدونات التاريخية قضيتين، الأولى عن الناصرة المدينة التي لا ذكر ولا وجود لها في عصر الرواية، والأخرى في النص المسروق من واقعة أخرى لا علاقة لها بالسيد المسيح وهي (من مصر دعوت ابني).
ففي القضية الأولى وكما تؤكد كل المصادر التأريخية والأركيولوجية كما يوضح ميشيل كوكيه قائلا: "بعد قرن من الحفائر الأثرية المقدسة لم يتم العثور على أي دليل عن الهروب إلى مصر" وقد استقروا في الناصرة لكي تتم نبوءة الأنبياء: "إنه سيدعى ناصريا" (متّى 2: 23). وهنا يوضح كوكيه: "تظهر مشكلة جديدة: فما من مؤرخ وجد مثل هذه النبوءة في العهد القديم، كما لم يتم العثور على مدينة الناصرة في تلك الفترة، لذا لا يوجد أي أمل في العثور على ما يثبت ذهاب العائلة المقدسة إلى مصر"، تقول الباحثة ألكسندرا دورّ في بحثها حول "طفولة يسوع" : "إن هذه القصة تطورت بناء على تكوين النموذج الأوّلي، الذي تمت صياغته فيما بين القرن الخامس والسادس، وبدأ التكوين الفني يزدحم بإضافة شخص ثم مجموعة ثلاثة أشخاص حتى وصل الجمع إلى مدينة مزدحمة .. وذلك في الوقت الذي يقول فيه المصدر الإنجيلي الوحيد: "فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلى مصر" (متّى 2: 14). وبينما يقول متّى إن الهروب إلى مصر وقع قبل "مذبحة الأبرياء"، فإن النصوص المحتجبة اتفقت على تغيير التاريخ وجعلت الهروب إلى مصر عقب المذبحة. كما ملأوا النص بالتفاصيل وأهمها إضافة الأشخاص".
هذا التناقض الشديد والمعلومات المنتحلة والتواريخ المزيفة يستخلص منها جواب واحد هو أن المسيح لم يعرف قبل ذلك لا بين اليهود ولا عند الامبراطورية الرومانية حتى إعلان رسالته فيما بعد الثلاثين من عمره، وكل ما كتب عن حياته الخاصة وطفولته لم تكن إلا كذبة تاريخية صدقها المؤمنون تحت دواع الفخر والمبالغة في التقديس والتعظيم ليس إلا، وتواصل الباحثة نتائج تحرياتها التأريخية لتقول "لا يوجد أي أثر مكتوب يشهد تاريخيا بأن الهروب إلى مصر قد وقع فعلا، والإنجيل وفقا للوقا لا يتجاهل واقعة الهروب فحسب، وإنما يعلن أن العائلة المقدسة، بعد تقديم الطفل يسوع إلى المعبد، عادت إلى منطقة الجليل في مدينة الناصرة (لوقا 2 : 39)، وهو الأصح تاريخيا بما إن هيرودس لم يزعج المسيح ابدا لأنه كان يجهل وجوده في تلك المدينة"..
الخلل إذا يرجع إلى الوهم المفتري أو الدس المختلق لإنجيل "متّى المستبعد" الذي تمت صياغته وتدوينه في أواخر القرن السادس الميلادي أو بعد ذلك، لكننا لا نمتلك منه أي نسخة مخطوطة قبل القرن الحادي عشر، كما توجد تنويعات لهذه القصة في الإنجيل العربي لطفولة يسوع الذي تمت صياغته في القرن السادس الميلادي أيضا، ويضم الكثير من القصص الأسطورية حول طفولة يسوع، ويعلق دي مولينير على هذه الجزئية في بحثه قائلا "إن هذه التقنية في التفسير التي يطلق عليها الدليل عن طريق الكتابة، تتلخص في إظهار الحدث الذي عاشه يسوع على أنه تحقيقا للعهد القديم، وقصة سقوط الأصنام عند مرور يسوع تعتمد على نفس التقنية، فقد تولدت من نص نبوءة في العهد القديم وكان لا بد من تبريرها، إشعياء 19: 1 ؛ إرمياء 43 : 13". أما في تعليقه على معنى تحطيم الأصنام فيقول إنها بدأت في القرن الحادي عشر والثاني عشر لإثبات انتصار يسوع وانعكاس سلطانه على الوثنية المصرية، موضحا "إن تمثيل سقوط الأصنام هو جزء لا يتجزأ من أسلوب سيطرة الديانة المسيحية على العقائد الأخرى، القائمة على تحطيم صورة الآخر وفرض وجهة النظر الجديدة"، غير إن كمّ التماثيل المصرية القديمة الذي لا يزال قائما يعد أكبر دليل على هذه الأكاذيب وتفاهة الرواية من أصلها وبالشكل التي طرحت فيه.
في "القاموس العقلاني للعلوم والفنون والحِرَف" من الموسوعة الفرنسية التاريخية والتي صدرت في القرن الثامن عشر والتي أجتهد في كتابتها كم هائل من المؤرخين والمفكرين والباحثين طوال خمسة عشر عاما من التدوين وأستغرق أمر طباعتها أحدى وعشرين سنه، نجد الخلاصة في قصة عيسى منذ عمر الثانية عشر وحتى الثلاثين منطقة خالية من كل حدث سوى تبرير متهافت يتعلق بما أسمته التستر والإخفاء ("وأخيرا وصل يسوع إلى سن الثانية عشر وظهر في المعبد وسط العلماء الذين أدهشهم بأسئلته وإجاباته، لا حول الشرع فحسب، ولكن أيضا حول الفلسفة وعلم الفلك وكل مختلف العلوم، ثم عاد به يوسف ومريم إلى مدينة الناصرة حيث ظل بها إلى سن الثلاثين، خافيا معجزاته ودراسته للشرع، وذلك هو ملخص الأشياء الرئيسية الواردة في النص العربي الذي ترجمه سيكيوس، أما الجزء اليوناني الذي ترجمه السيد كتلييه فهو يختلف قليلا فيما يتعلق بترتيب المعجزات والظروف، لكنه يحتوي على وقاحات وقصص أكثر استهزاء مما تقدم"، والغريب ان كافة الوثائق الكنسية لا تذكر شيئا عن حياة يسوع من سن الثانية عشر حتى سن الثلاثين، حين بدأ يبشر !!.
الشيء المضحك والذي لا وجود له إلا في أناجيل العهد الجديد والعقيدة المشخصنة لنبي موهوم يختلف تماما عن ذلك الرسول الذي بعثه الرب ليصحح ويكمل ناموس الأنبياء، هي عملية التصويت التأريخية ففي عام 325 م ، أي بعد عيسى المسيح بنحو ثلاثة قرون عقد رجال الكنيسة اجتماعا ليبحثوا فيه طبيعة عيسى (هل هو إنسان رسول أم إله متجسد في إنسان؟ وبعد المناقشات الطويلة، توصل المجتمعون إلى أنه إنسان رسول، ولكن القرار لم يعجب إمبراطور القسطنطينية آنذاك، فحل المجمع الكنسي وعين قساوسة جددًا، وجرت مناقشات توصلوا إلى القرار الذي عينهم الإمبراطور من أجله، وهو أن المسيح إنسان إله، وهكذا نال عيسى مرتبة الآلهة بالتصويت وكأن عيسى آنذاك أول من يُعَيَّن إلهًا بالتصويت!)، هذا هو تاريخ عيسى المزعوم أما التأريخ الصحيح والحدث والرسالة فلا أظن أحد يجرؤ منهم أن يتكلم فيه لأنه وكما قال أحد الباباوات كما ذكرنا سابقا إعلان كامل وصريح بزيف العقيدة التي بنيت على رغبات وخطط ومصالح لا علاقة لله بها ولا علاقة لعيسى النبي الرسول بها، وهنا تسقط الأكذوبة الكبرى أكذوبة ديانة المسيحية الكنسية وإعلان أن كل ما جاء فيه عيسى هو أتجاه لطائفة تسمى النصرانية هدفها تصحيح مفتريات وتحريفات وكذب جزء كبير من العهد القديم وتصحيح مسار الدين اليهودي الموسوي وإعادته لموسى ولله بعيدا عن ترهات وأنحرافات الكهنة ورجال الدين الذين لم يتركوا من شريعة موسى شيء إلا وشوهوا وحرفوا مساراته.