لنْ أرثيْكَ!


رائد محمد نوري
2021 / 5 / 18 - 00:29     

{مهداةٌ إلى روحِ المفكّر والباحث الأكاديمي والأديب العراقي الدكتور الكفيف خليل محمّد إبراهيم}

أبي ومعلّمي وصديقي د. (خليلَ): فَجَعْتَني مساءَ الخامسِ عشرَ من مايس الحالي برحيلِكَ عن عالمِنا! .
لم تخلِفْ لي وعداً قطُّ إلا الشِّفاءَ من فايروس كورونا اللعينِ، لماذا يا حبيبي؟
على الرّغم من كلِّ مشاعرِ الحزنِ والغضبِ والألمِ والعجزِ التي تعتملُ في صدري وتضغطُ على شراييني، إلا أنّني لن أرثيكَ يا أيّها الحيُّ الحاضرُ في كياني أبداً، فأنا أعلمُ أنَّ الموتَ حقٌّ مثلما أنَّ الحياةَ حقٌّ، لكن لا بدَّ من كلمةِ وفاءٍ يجبُ أن تقالَ فيكَ يا أيُّها الإنسانُ الكبيرُ، والأب الرّحيمُ، والمعلمُ المعطاءُ، والصَّديقُ الوفيُّ؛ فأعنّي يا ذا الهمّةِ العالية.
سأبدأُ من أوّلِ لقاءٍ جمعني بك في فضاء (كلّية الآداب) – (جامعة بغداد) شتاء عام 1999 على ما أتذكّرُ:
كنْتُ وصديقةٌ لي واقفين صباحَ شتاءٍ باردٍ أمامَ (قسمِ اللّغةِ العربيّةِ) نتحدّثُ بانبهارٍ عن أستاذِنا الرّاحلِ د. (عناد غزوان)، لم نلتفت إلى أنَّكَ كنْتَ واقفاً تصغي لنا بحبٍّ واهتمامٍ، فاجأَنا صوتُكَ ينسابُ بهدوءٍ بيننا جذلاً بما نقولُ، ومسدياً النّصحَ لنا بأن نبحث عمّن نحبُّ من أساتذتِنا، ونتتبّعُ نشاطاتِهم وإنجازاتِهم، ووعدْتنا بأن تجلب لنا نسخةَ محاضرةٍ ألقاها د. (عناد غزوان) في (المجمع العلمي العراقي) ووفيتَ، فكان ذلكَ اللّقاءُ مفتاحَ علاقةٍ امتدّتْ إلى يومِنا هل تذكرُ؟
ثمَّ تعرّفْتُ بفضلِكَ إلى الشّاعرةِ العراقيّةِ الكبيرةِ (لميعة عبّاس عمارة) وإلى ديوانِها (لو أنبأني العرّاف) الذي كان مصدرَ جدلٍ بيني وبين أصدقائي ممنْ قرأَ أو قرأَتِ الديوانَ، كنْ تَ أنت سعيداً بأن أثارَ ديوان (لميعةَ) المعارُ هذا الجدلَ، هل تذكر؟
فرحُكَ -يا حبيبي- بالجدلِ حول (لو أنبأَني العرّافُ) (فتحَ الأبوابَ أمامي حتى صارَتْ لميعةُ) سبباً في حصولي على أوّلِ أجرٍ نقديٍّ أتقاضاه على مقالٍ كتبْتُهُ عن الخيال في شعرِها نشرَتْهُ لي جريدة (العرب) اللّندنيّة.
ظلّ بستانُ تواصلِنا يمتدُّ ويتوسّع بما نتعهّدُهُ من ألفةٍ وتثاقفٍ عبَْرَ آفاقٍ متعدّدةٍ، ويفتِّحُ كلَّ يومٍ وردةً جديدةً؛ حتى بلغنا احتلالَ (العراقِ) الحبيبِ ربيعَ عام 2003 ، إذ ذاك توطّدت الأواصرُ بيننا؛ باكتشافِنا أنَّ همّاً عراقياً إنسانيّاً ورؤىً تقدّميّةً مشتركةً تجمعنا، كنْتُ قد قلْتُ لك قبل تلكم العاصفةِ: إنَّ (مأساة طائر) –المجموعةُ القصصيّةُ التي نشرَتْها لك (دار الشؤون الثّقافيّة العامّة) مطلعَ الألفيّة الثّالثة- هي مجموعةٌ ساخرةٌ من واقعٍ مزرٍ، السّخريةُ كانَتْ حجرَ الزّاوية في كشفٍ نقديٍّ منشورٍ لي في مجلة (كليّة الآدابِ) -–العدد: 103 عام 2013- يقول: (مأساة طائر) هي بشارةُ واقعيّةٍ جديدةٍ اسمها (الواقعيّة المقلوبة).
في (ديالى) كانَ (اتّحادُ الأدباءِ) –ربيع عام 2003- سبّاقاً في إنتاجِ ثورةٍ ثقافيّةٍ سلميّةٍ تعرِّي الدّكتاتوريّة، وتنتصرُ للحريّةِ والتّعايشِ السّلمي، وتدعو إلى أن تكون الثّقافة والجمال الفنيّ متاحين كما الماء والهواء، ثمّ دعوناكَ، فحللْتَ ضيفاً علينا وألقيْتَ محاضرتَكَ: (إشكاليّةُ المثقّف العربي السّميسر أنموذجاً)؛ في وقتٍ صعبٍ على البعقوبيين أنفسِهم؛ كوننا كنّا قد شرعْنا بتلمّسِ معاناةِ بدايةِ تفاقمِ خطرِ الظلاميّين.
توالَتْ بعدَها محاطّاتُ العمرِ، لكنّني لن أنسى عشيّةَ هاتفتَني لتسألَني عن رأيي في شأنِ خوضِكَ المعتركَ الانتخابي في صفوفِ المدنيين الدّيمقراطيين، الحقَّ أقول: كانَتْ فكرةُ ترشُّحِكَ تلحُّ عليّ قبلَ تلكم المكالمةِ، كنّا نعلمُ أنّنا سنحفر بأظافرِنا في جبلٍ من صوّانٍ، لكنّ الأمل في قلوبنا كانَ أقوى، وحبَّ (العراقِ) كانَ ولا يزالُ يفيضُ في شرايينِنا؛ لهذا خضْنا المعتركَ الانتخابي ربيعَ عامِ 2014 بحماسةٍ منقطعةِ النضيرِ، أعلمُ أنَّك وثّقْتَ التجربةَ في كتابٍ لمّا يرى النّورَ!، لكن هل تذكرُ ماذا قلْتَ لي قُبَيْلَ إعلانِ النّتائجِ؟
كنْتَ تخشى على العراقيين من كارثةٍ مقبلةٍ يمتدّ أثرها المدمّرُ عقوداً، كارثةٍ كنْتُ أنا أراها على مبعدةِ سنواتٍ أربعٍ على الأقلِّ، وكنْتَ أنت تقول: لا يا (رائد) لن يطولَ الأمرُ أكثرَ من شهورٍ ستّةٍ!، فقد سمحَتْ قوىً محلّيّةٌ وإقليميّةٌ ودوليّةٌ بعد أيامٍ من مقولتِكَ تلكَ للتكفيريين باحتلال ما وسعهم احتلاله من أراضي عرقِنا الحبيبِ، فكانَ توقّعُكَ المتشائمُ في محلِّهِ!.
إنَّكَ –يا حبيبي- مثقّفٌ رؤيويٌّ، كرّسْتَ حياتَكَ كلَّها للنّضالِ دفاعاً عن المعوّقين والضّعفاءِ والمثقّفين المهمّشين،
في دروبِ الثّورةِ سِرْتَ حاملاً في صدرِكَ ورأسِكَ (سبارتوكوس) و(عليّاً) و(أبا ذرٍّ) و(الحسين) و(كارل ماركس) و(فريدريك أنجلز) و(فلاديمير لينين) و(جوزيف ستالين) و(يوسف سلمان يوسف) – (فهد)- و(سلام عادل)، ومن إلى هؤلاء الثّوّار الإنسانيين العظام.
تعلّمْتُ مِنْكَ أنَّ الحقَّ صعبُ المسلكِ وعرُهُ، وتعلّمْتُ منْكَ أنَّ المثقفين ليسوا كتلةً واحدةً تفعلُ ما يُطلبُ منها كأنّها جوقةٌ موسيقيّةٌ تستجيب لطلباتِ المستمعين، وتعلّمْتُ منْكَ أنَّ المثقّفين منقسمون ما بينَ ظالمٍ ومظلومٍ، أمّا المثقّفُ الظّالمُ، فمفتّحةٌ أمامَهُ الأبوابُ كلُّها إلا تلك التي تريدُ السّلطةُ –أيُّ سلطةٍ- إغلاقَها، وأمّا المثقّفُ المظلومُ فمهمّشٌ –على الأغلب- لأنّهُ لا يملكُ المالَ، ولا يخطبُ ودَّ السّلطةِ الظّالمةِ.
(الأندلس) والمنجزُ الثّقافيّ العراقي كانا في صلبِ اهتماماتِكَ الثّقافيّة، فضلاً عن كونِكَ أديباً شاعراً وروائيّاً مقتدراً، لكنَّكَ كنْتَ مثقّفاً مهمّشاً؛ لأنَّكَ صُلْبٌ نزيهٌ، ولأنَّكَ لم تكنْ ذا مالٍ وفيرٍ، ولم تخطبْ ودَّ السّلطةِ الظّالمةِ لحظةً قطُّ*
أشهدُ أنَّكَ كنْتَ لي أباً رحيماً،
وأشهدُ أنَّكَ كنْتَ لي معلّماً ناصحاً،
وأشهدُ أنَّكَ كنْتَ لي صديقاً وفيّاً،
فرحْتَ لفرحي، وتألّمْتَ لألمي، وكنْتَ حاضراً في كلِّ خطوةٍ أخطوها، قسوْتَ عليَّ، وشددْتَ على عضدي، كنْتَ تريدني أن أكونَ أقومَ منْكَ لساناً!، وأفضلَ منْكَ خُلُقاً!، وأغزرَ منْكَ ثقافةً!، وأحسنَ منْكَ سلوكاً!، وأعلى منْكَ همّةً!، وأكثرَ منْكَ حبّاً للنّاسِ والحياةِ!، وأصلبَ منْكَ موقفاً!،
فيا أيها الإنسانُ المثقّفُ الكبيرُ، والأبُ الرّحيمُ، والمعلِّمُ المعطاءُ، والصّديقُ الوفيُّ: شكراً لكلِّ ما فعلْتَهُ وتفعلُهُ منْ أجلي.
لنْ أنساكَ، وأعدُكَ أنَّكَ ستبقى حاضراً في كياني حتى ألقاك يومَ أوارى الثّرى،
وأقسمُ لكَ ب(العراقِ)الذي همْتَ بهِ حبّاً؛ أنّي سأعرّفُ النّاسَ بكَ وبمنجزِكَ الثّقافي مثلما كنْتَ تنتظرُ منّي يا حبيبي.
سلّمْ لي على أصدقائنا (إبراهيم الخيّاط) و(ألفريد سمْعان) و(مروان عادل حمزة).
وأخيراً أقول لك يا ذا الهمّةِ العاليةِ: أمّا الصّبرُ الجميلُ على فقدِكَ ، فنعم. وأمّا السلوان، فلا؛ لأنّكَ حيٌّ حاضرٌ أبداً في قلوب محبّيكَ.
أحبُّكَ، فهل وفيْتُكَ شيئاً من حقِّك؟
***











بغداد:
17-5-2021 .