السرد الخيالي وأثره في القيمة التاريخية للعهد الجديد


عباس علي العلي
2021 / 5 / 15 - 02:41     

كثيرا ما يتردد في الأواسط العلمية المختصة في النقد التاريخي للسرديات الدينية أن غالب الكتب المقدسة بدأ من التوراة ووصولا للأناجيل لا يمكن الجزم بإصالتها على أنها نصوص ممكن أن تكون مدعومة من قبل أي أدلة أثرية مكتشفة حتى الآن، هذا فضلا عن كون الأناجيل الثلاثة الأولى بالرغم من تقارب الزمن في كتابتها إلا أنها لا تشكل وحدة فكرية متكاملة، وحتى التوراة في رأي بعض النقاد التاريخيين لا يمكن الجزم أيضا بوحدته الزمنية وأنه مكتوب بيد موسى أو تحت نظره، وخلال أواخر القرن التاسع عشر استنتج العلماء بالإجماع تقريبا أن سفر التثنية ليس من زمن موسى لكن من القرن 7 قبل الميلاد، وأن التوراة ككل قد جمعت من قبل محررين مجهولين من وثائق مصدرية مختلفة، وأن الحقائق التاريخية بها هي في كثير من الأحيان جدلية أكثر من كونها حقائق واقعية، خلال النصف الأول من القرن الـ 20 لفت Gunkel الانتباه إلى الجوانب الميثولوجية للكتاب المقدس، وقال ألبرشت ألت، مارتن نوث وعلماء مدرسة "tradition history" أنه على الرغم من أن التقاليد الجوهرية لها حقا جذور قديمة، فإن السرود خيالية ولم تكن مقصودة كتاريخ بالمعنى الحديث.
يدرس علم الأساطير المقارن وهو واحد من أهم العلوم التي يمكن اللجوء إليها في دراسة العهدين وسائر الكتب التاريخية وبيان ما نحل أو أنتحل فيها من أفكار أسطورية أقدم منها، أو حتى الربط الجوهري في أساسيات الأفكار المدونة فيها بناء على تحديد معنى الأسطورة وشروطها الوصفية، كما درس البعض من علماء الأسطورة أوجه الشبه التي تم اقتراحها بين تصوير الكتاب المقدس ليسوع وبين الميادين الأسطورية أو الدينية الأخرى، بعض النقاد يرون فرضية أن المسيحية كعقيدة لا تقوم على شخصية تاريخية واضحة المعالم وذات خصيصة واقعية بقدر ما هيو ابتداع خرافة مسوقه بإطار مقدس بهالة كبيرة من التفاصيل المكررة والمملة في طرحها، وواحدة من هذه الآراء تقترح أن يسوع كان المظهر اليهودي لطائفة دينية هلنستية، معروفة باسم أوزوريس- ديونيسوس *.
للقائلين بهذا الرأي حجتهم المنطقية من خلال ما وجدوا من تأثيرات وممارسات من هذه الديانة أو من مظاهرها المميزة في صلب العقيدة المسيحية، ويدرجونها في مجموعة من التقاليد أو الأمور التي لا تتناسب مع كونية العقيدة المسيحية لها أصول من الفضيلة التي من المفترض أن لا تتعاطى مع هذه الممارسات التي تتنافى مع ما أعتاد عليه المسيحيون، أو جاء الأمر مستنكرا في العديد من أقوال الرسول عيسى في ذم الخمر مثلا وهذا يدل على تسلل الأقتباس الرمزي عندهم واضح أو تأثرت عقيدتهم بها، فموضوع الخمر مثالا كرمزية في الديانة المسيحية يحيلنا إلى موضوع التشابه في الديانتين القديمة والحديثة (أن رمزية النبيذ في إنجيل يوحنا من غير المرجح أنها تستند إلى الإشارات إلى النبيذ المذكورة في العهد القديم، بل هي من تأثيرات تشير بشكل قطعي أنها قد تأثرت برمزية ديونيسوس).
كذلك في قضية الموت والعودة أو الموت والقيامة في الديانتين برغم من أن هناك من يعتقد أنهما وإن كانا يشتركان في قضايا عدة قد تجعل منهما أمرين مختلفين، لكن بعض علماء الأساطير المقارنة يقران أن كل من ديونيسوس ويسوع على أنهما ينتميان إلى نمط "الإله الذي يموت ويعود للحياة في النهاية لتعلق الأمر بقضية أكبر، حتى أن طريقة العودة تتوافق من خلال رمزية القلب الذي أستعاد من ديونيسوس وجوده هو ذات الرمز الذي عاد بموجبه عيسى للحياة وهي الكلمة، حيث أن الكلمة عندما تستقر في القلب لا يمكن أن تموت أو يموت القلب لأنها مصدر الطاقة والتجدد والخلود عند المسيحيين، فبالكلمة ولد عيسى وعاش ولأجلها تم صلبه وبها ومنها عاد في قيامته الأولى لينتظر العودة الكبرى والقيامة الثانية، إذا القصة والرمز والمضمون يشير حقيقة إلى وحدة تشبيهية لا تنفي أبدا الصلة بينهما.
في ممارسة معتادة في الطقوس اليهودية ومنهاما أنتقل إلى الديانة المسيحية ما يعرف (الطعام والشراب المقدس) مثل الاحتفال بتناول وجبة طقسية من الخبز والنبيذ بأعتبارها مشاركة وكان يعتقد أن استهلاك اللحوم والنبيذ كان تعبيرا رمزيًا لقيام الجبابرة بأكل لحم ودم ديونيسوس، وأنه من خلال المشاركة في تلك الممارسة يمكن لأتباع ديونيسوس تحقيق الشراكة مع الإله كما يفعل المسيحيون تماما بما يعرف المشاركة مع الرب يسوع من خلال أيضا تناول اللحم والنبيذ كطقس معتاد عندهم، وتبقى الأبحاث التاريخية من خلال المقارنات والمقابلة والبحث عن الاصول الأسطورية وحدها التي تكشف مدى أرتباط الديانتين بالمتشابه من العادات والطقوس التي نشأت بتأثيرات الترسب اللا واعي في الذاكرة الدينية للشعب المسيحي.
وفقا لواحد من كبار علماء الآثار الكتابيين في العالم، وليام ج. ديف يصرح أنه من المؤكد أن علم الآثار لا يثبت قراءات الكتاب المقدس الحرفية ... بل يطرح تساؤلات حولها، وهذا ما يزعج بعض الناس الذين يعتقدون حقا أن علم الآثار هدفه إثبات الكتاب المقدس. لا يوجد عالم آثار يظن ذلك أبدا منذ بدايات ما نسميه علم الآثار الكتابي، ربما قبل 150 عامًا حاول العلماء ومعظمهم من العلماء الغربيين، استخدام البيانات الأثرية لإثبات الكتاب المقدس وكما كان يعتقد لفترة طويلة أن ذلك ناجح وسيقول الكلمة التي تتوافق مع مزاعمهم التأريخية وكثيرا ما تحدث وليام أولبرايت، الأب الكبير لتخصص الأثار وعلم الاسطورة عن "الثورة الأثرية"، حسنا لقد جاءت الثورة ولكن ليس بالطريقة التي فكر بها أولبرايت وكل حقيقة الأمر اليوم هي أن علم الآثار يثير المزيد من التساؤلات حول الدقة التاريخية للكتاب المقدس العبري، وحتى العهد الجديد عما يقدم من إجابات وهذا أمر مزعج للغاية بالنسبة لبعض الناس بعض الأشياء التي تم وصفها حدثت بالفعل، لكن البعض الآخر لم يحدث ربما تعكس الروايات في الكتاب المقدس حول إبراهيم وموسى ويوشع وسليمان بعض الذكريات التاريخية عن ناس وأماكن، لكن بعض ما في الكتاب المقدس مثل "Larger than life" غير واقعي وتناقضه الأدلة الأثرية ... أنا هنا لا أقرأ الكتاب المقدس كنص مقدس ... أنا في الواقع لست حتى مؤمناً بكونه حقيقة تاريخية ووجهة نظري طوال الوقت ما هي إلا أن روايات أنتحلت في الكتب المقدس، وهي في الواقع مجرد "قصص"، وغالبًا ما تكون خيالية ودعائية في الغالب، ولكن هنا وهناك تحتوي على بعض المعلومات التاريخية الصحيحة.
مع أن التشكيك بالقيمة التاريخية للكتاب المقدس لم يأتي من خارج الدائرة المعنية به وبالإيمان بما فيه، هذا يؤكد ويدلل على حقيقة وجود التزييف والتحريف والزيادة والنقصان فضلا عن التفاوت في النسخ المتعددة منها حسب المدى الزمني الذي دونت فيه، المؤرخ الشهير ول ديورانت مؤلف موسوعة قصة الحضارة يقول (ترجع أقدم النسخ التي لدينا من الأناجيل الأربعة إلى القرن الثالث، أما النسخ الأصلية فيبدو أنها كتبت بين عامي 60، 120م، ثم تعرضت بعد كتابتها مدى قرنين من الزمان لأخطاء في النقل، ولعلها تعرضت أيضاً لتحريف مقصود يُراد به التوفيق بينها وبين الطائفة التي ينتمي إليها الناسخ أو أغراضها). قصة الحضارة ج11 ص207.
ويستطيع أي باحث عن الحق أن يعود لكتاب مقدمات العهد القديم للأستاذ الدكتور وهيب جورجي ليكتشف بنفسه اعتراف علماء المسيحية وشهاداتهم التاريخية على تحريف الكتاب المقدس! فعلى سبيل المثال ستجد في صفحة 158 أن أ.د/ وهيب جورجي يعترف أن جميع المفسرين المسيحيين أجمعوا على تحريف نص أخبار الأيام الثاني 22 – 2، ونظراً للأعداد الهائلة التي تم نسخها من مخطوطات بعض أو كل العهد الجديد خلال القرون الأولى، فإن معنى هذا أن العديد من الاختلافات قد وجدت طريقها إلى المخطوطات، وقد فقدت أصول أسفار العهد الجديد – بلا شك – في زمن مبكر جداً، وبالتالي يدل هذا على أنه ليس من الممكن أن نحدد بدقة كاملة كل كلمة من الكلمات الأصلية للعهد الجديد على أساس أي مخطوطة بذاتها، ولا سبيل إلى ذلك الا بمقارنة العديد من المخطوطات ووضع أسس تحديد الشكل الدقيق – بقدر الإمكان – للنص الأصلي، وتعرف دراسة مخطوطات الأعمال الأدبية – التي فُقِدَتْ أصولها – بهدف تحديد النص الأصلي، باسم علم "نقد النصوص".
إذا فيما يتعلق بالسرد التاريخي للأحداث ومقابلتها مع النصوص المدونة قد لا نجد ما يدعم الفرضية بصحتها، أو توافقا معقولا مستندا على أدلة وحجج يمكنها إثبات ذلك، وعلى العموم أن هذا البحث لا يراد منه الكشف الكامل على ذلك بقدر ما يؤشر لجملة من الحقائق التاريخية التي أشرها الكثير من علماء الأثار والمخطوطات وعلما الأساطير، والتي خلصت إلى (أن مؤلفين مثل ريموند براون قد قدموا حُجَجًا بأن الأناجيل في الواقع يُعَارِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا في جوانب هامة والعديد من التفاصيل الهامة، ويذكر و. د. ديفيز وإد باريش ساندرز أن: "كانت العديد من النقاط، وخاصة عن حياة يسوع المبكرة، مجهولة بالنسبة للإنجيليين ... لأنهم ببساطة لا يعرفونها، واستأنسوا بالشائعات والأمل والافتراضات، للوصول إلى أفضل ما أمكنهم". يرى العلماء الأكثر نقدا لروايات ميلاد يسوع كروايات خيالية تماما، أو على الأقل تم تكوينها من التقاليد التي تسبق الأناجيل) ، على سبيل المثال، العديد من إصدارات الكتاب المقدس تشير على وجه التحديد إلى أن أوائل المخطوطات القديمة الأكثر موثوقية وغيرها من المصادر الأكثر قدما لم تشمل Mark 16:9-20، أي أن إنجيل مرقس كان في الأصل ينتهي عند مرقس 16:8، وأضيفت الآيات الإضافية بعد بضع مئات من السنين. يعرف ذلك باسم "Markan Appendix".**
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ديونيسوس، إله النبيذ والمسرح والنشوة في الديانة اليونانية القديمة، تمت مقارنته بالعديد من الآلهة الأخرى ، سواء من قبل عباده الكلاسيكيين أو العلماء اللاحقين. تشمل هذه الآلهة شخصيات خارج الديانة اليونانية القديمة ، مثل يسوع, أوزوريس, شيفا, و تموز وكذلك شخصيات من داخل الديانة اليونانية القديمة ، مثل حادس. تم إجراء مقارنات بين يسوع المسيح وديونيسوس منذ العصور القديمة. جستن الشهيد في بلده أول اعتذار، تنص على أن عبادة ديونيسوس كانت تحاكي عبادة المسيح ، من خلال استخدامها نبيذ والحمير والموت والقيامة، في التاريخ, هيرودوت يقول أن الكثيرين يعتقدون أن أوزوريس هو الشكل المصري لديونيسوس.
**https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%86%D9%82%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%AF%D8%B3