الشرق متوسطية على مشارف اللاارضوية؟/4


عبدالامير الركابي
2021 / 5 / 12 - 15:34     

نظرت وتنظر الأحادية المفهوميه واعلى اشكالها الأوربي الحديث الى الظاهرة المجتمعية كنوع واحد وحيد صنفا من جهة، وان مقياسها الرئيسي الذي تقرا بناء عليه هو مايعرف ب"المنجزالمادي"ـ او "الحضاري": متى اكتشفت الكتابة؟ او الدولاب؟ او المدينه في التاريخ؟ او أقيمت الاهرامات؟ والدول والسلالات؟ مع مايحيط بذلك من اشكال تنظيم ضمن التفاعل والصراع داخل المجتمع، ومع البيئة والطبيعة.
ومع ان الشرق متوسطية هي مسرح ابتداء وتاسيس لمايعرف بالمجتمعية بحالتها المعتبرة مكتملة وناضجه، مع ثنائيتها الظاهرة، الا ان ماكان قد امكن للعقل الغربي الحديث ان يتبينه بالدرجة الأولى منها، هو في الجوهر مجرد ثنائية مكانية، مع اختلافات لاترقى لمستوى يوجب البحث في احتمالية الاختلاف النوعي بين مجتمعيتين هما النيلية، والرافدينيه، ويلحظ هنا ان البحث الموضوع بهذا الخصوص يركز عادة على الاختلافات ضمن "الوحدة"، وان البحث مهما كان، بما في ذلك الذي يقدم ارض الرافدين زمنيا، ومن حيث مستوى الفعالية والتاثير(1) في النموذج النيلي، يبقى يقول في العمق بان المجتمعية هي الأحادية، وان نموذجها ومثالها هو النيلي المصري، الامر الذي يترتب عليه اغفال مجحف، واقتطاع متعسف لجوانب رافدينيه غاية في الأهمية، ومن النوع الذي من شانه ان يقلب كليا مفهوم الكائن البشري عن نفسه والمجتمعات ومنطوياتها.
ومن حيث يظل يلحظ دائما من قبل المتصدين لبدايات المجتمعية المكتمله قواما في الشرق المتوسطي، التباين بين مجتمعية محكومة للتوافق البيئي النهري الإنتاجي "مصر هبة النيل" كما قال هيرودوت، مقابل حالة أخرى قائمة على اشتراطات معاكسة كليا، علاقة المنتجين فيها بالبيئة علاقة صراع ومجافات كلية تصل حد او حالة العيش على حافة الفناء، فان المقياس ومعامل البحث يبقى ثابتا بين "حضارة وجدت ناضجه"!!! (2)هي النيلية، وأخرى ظهرت وتبلورت "ديناميكية" في ارض مابين النهرين، او في تلك الزاوية الضيقه منها جنوبا، والتي لاتقاس مساحة بالمصرية الاضخم منها بعشرات المرات، مع انها لاتضاهيها من حيث المنجز الشامل، ونوعه الحري بان يحال لو توفر الحد الضروري من طاقة الإحاطة العقلية، الى نوع اخر من المجتمعية الاعجازية، مقارنة بتلك الأرضوية كما هي ماثلة في حالة مجتمعية النهر الواحد الساكن.
هل وجدت المجتمعية في الشرق المتوسطي على الشاكلة التي وجدت عليها من نمطين كابتداء، لكي تقول بان المجتمعات البشرية "سماوية/ كونيه" لا "ارضوية"؟ مقابل صيغة "ارضوية / أحادية"، وان المفاهيم والعقل البشري، ومستويات ونوع ادراكيته، هي مادون كونيه سماوية، وتظل كذلك محكومة لاشتراطات تمنعها ابتداء من الارتقاء لمستوى الظاهرة اللاارضوية، فتبقى قاصرة تتشكل وتنمو تفاعلا، سائرة نحو الاكتمال من خلال، وبالتفاعل داخل الظاهرة المجتمعية، الى ان تصل درجة مقاربتها، ولحظة اماطة اللثام عن مكنونها ومنطوياتها.
ثمة منجز مجتمعي لاارضوي ابتداء، هو المنجز وشكل التحقق الرافديني متولد عن اشتراطات مجافاة البيئة، ومايترتب عليه من الازدواج المجتمعي، تنتج رؤية شامله، تتحول الى كوكبيه برغم وحدانيتها، وكونها فريدة نوعا على مستوى المعمورة، مقابل مجتمعات موزعه على الكوكب الأرضي، أحادية من صنفين، صنف مجتمعات أحادية دولة نموذجها الأدنى النيلي، ومجتمعات لادولة أحادية، مثل مجتمع الجزيرة العربيه الاحترابي، او اشباهه من غير الاحترابيه، بما يعني ازدواجا مجتمعيا رافدينيا، هو وحدة كيانيه، وازدواج متفرق الى احاديات لكل منهما شكل اعلى واكثر ديناميه، مثل النوع الأوربي الانشطاري الافقي الطبقي كاعلى وذروه النمط الأحادي، والجزيري الاحترابي الأقصى، الأعلى تجسدا وقت الضرورة من بين احاديات اللادولة.
بحسب الشروط المعاشة، تتمثل الرؤية وردود الأفعال، فلا يجوز لحالة طرد ارضي للكائن البشري ان تنتج منظورا، ونوع رؤية، وعلاقة بالوجود، ارضوية كما حال تلك التي هي حاضنه ومستقبلة مرحبة، وهذه قاعدة لايتردد الارضويون عن اعتمادها في تقريرعلاقة اقرب للعضوية بين الواقع والأفكار، بغض النظر عن انهم لن يستطيعوا، ولن يتسن لهم بحسب مستوى ونظام استيعابهم العقلي، القفز عبورا نحو ماهو خارج بداهتهم العقلية المجتمعية، وإذ هم يلاحظون باستمرار وتكرارا، ان الأحوال الطبيعية لم تكن "في بلاد مابين النهرين وعلى عكس ماهي في مصر، لتهيئ الظروف الملائمه لتطور المدنيه. ( المقصود المدنية الارضوية ـ التوضخ مني)، فالتغيرات الفجائية تستطيع ان تخلق احوالا تفوق قدر ة الانسان على ضبطها والسيطرة عليها، ان المد الربيعي في خليج فارس ( المقصود خليج سومر) قد يرتفع الى ثمانية او تسعة اقدام، كما ان العواصف الجنوبيه التي تستمر فترة طويله قد ترفع شاطيء النهر قدمين او اكثر بما تذروه من تراب وغبار. ثم ان سقوط الثلوج في ارمينيه وسقوط الامطار في الجنوب بصورة غير عادية، قد يؤديان الى ارتفاع مستوى النهرين بصورة مفاجئة، وقد يسد زحل الأرض مجرى الزابين الضيقين او مجرى الخابور، ثم لايلبث المجرى طويلا حتى يدفع بكمية ضخمه من الماء، واية واحده من هذه الاحداث، او وقوع اثنين منها في وقت واحد قد يسبب فيضانات لاقبل لسدود السهل الجنوبي ان تصدها او ان تمنع اخطارها. وفي الأزمنة السابقه للتاريخ حين كان الفلاحون البدائيون يزرعون المواسم بعد الفيضان، كان بالإمكان تكييف الاستيطان بحسب التغير الدائم لتوزيع الماء والأرض حتى ولو تكرر تدمير القرى مرات كثيرة. لكن المدن الكبيره الثابته التي تعتمد على التجفيف والري تحتاج الى مجار مائية ثابته. وهذا لايتحقق الابالمراقبة والكدح الشاقين، لان مياه دجلة الجارية بسرعه تجرف معها غرينا خشنا بحيث تنسد الاقنيه بسهوله، حتى لو نظفت سنويا فانها ترتفع عن السهل نتيجة للترسب، ومن هنا فان خطر انفجارها او انفجار النهرين لايستبعد ابدا، وفي عام 1831 ارتفع دجلة فجاة وحطم حواجزه وهدم 7000 منزلا في بغداد"(3) والصوره نفسها تقريبا يجري تكرارها باستمرار، مع إضافة هامة اغفلها النص أعلاه، هي كون النهرين العظيمين مدمرين بطبيعتها، لابل هما الأشد تدميرا بين مايماثلهما من الأنهار، فهما يفيضات طبيعة عكس الدورة الزراعية، باختلاف تام كلي عن حالة النيل، وليس هذا كل شي يفترض اضافته للنص أعلاه، فثمة عنصر هام للغاية مفقود من اللوحة، هو وطاة انفتاح الحدود شرقا وغربا وشمالا، وسيول السلالات النازلة الى الوادي الخصب، وماتورثه من شعور بخطر اخر، وعامل تحفيزاقصى مولد لجنون الحدود.
ومع هذا كله، فان أحدا لم بتوقف يوما كي يقول تعالوا نتخيل نوع الحياة، وشكل التفاعل البشري البيئي في حالة ومسرح حياتي وانتاجي من هذا النوع، وهل هو او ماينتج عنه هو من نفس نوع او نمط المجتمعية الذي يتولد عن غيره من مجتمعات، حيث اشتراطات الإنتاج متوافقة مع الجهد البشري، خصوصا واننا نتحدث عن موضع هو من انشا برغم شبه الاستحالة الموصوفة في النص السابق، المدينه الأولى في التاريخ، واكتشف الكتابه، والدولاب، اعلى اكتشاف تقني، ومن اعلاها الى الوقت الحاضر، هذا عدا عن عشرات الأول، او الاوئل كما عددها نوع كريمر، وهذا كله حصل على حافة الخراب والافناء، ماينتج في الحصيلة حالة طمس وإلغاء لنوع سردية مجتمعية، ظلت مغفله وغير مقاربة عقلا، وخارج الادراك.
وكل ذلك يتم ارتكابه تحت طائلة التنكر المقارب للعدائية النموذجية والمفهومية، يمكن وصفه بالدكتاتورية النمطية، او استبدادية النمط الواحد، بالاخص حين يتعلق الامر بالمنظور الإلهي اللاارضوي النبوي المؤقت، وشموله العالم كخطوة لاحقة على الاسطورية التالهية، حين يخرج الامر هنا عن نطاق القصورية العقلية الموضوعية البحته، الى الغباء الممتزج بالغرضية، ومما يلفت النظر بقوة ظاهرة اتفاق جميع "الباحثين" على البدء من مصر كنموذج واساس قياس، يجري تقريب او قياس، او مقارنة النمط الرافديني وارجاعه اليه، بينما لم يحصل على الاطلاق ان اعتمدت حالة الرافدين "نموذجا" ينظر في، ويبحث بالحالة او النمطية المصريةعلى ضوئها، وارتكازا لها كنمط ازدواج مجتمعي أساس مقابل الأحادي النيلي.
ولنتصور لو ان احدهم اعتمد حالة ونمط مجتمعية مابين النهرين، ثم ذهب الى وادي النيل ليعتبره ناقصا تكوينيا، لاينطوي على حالة التحدي "الضروري" للإرادة والعقل، الامر الذي لن يعدم مايبرره من قبيل مثلا سكونيه مصر واحاديتها، والوهة حكامها / فراعنتها، وربوبية دولها، وكونها اجترارية ذات منجز وحيد تكراري، ولاديناميتها مقارنه بضخامتها مساحة، واستقرارها وحماية حدودها الصحراوية لواديها، وكونها مع ذلك لم تنتج " كلكامش" الذي هو مفتتح مايعرف بالادب البشري، او " قصة الخليقة"، و الأساس الملحمي( الشعري)، ولا هي من ولدت بين جنباتها الرؤية الكونية الابراهيميه المنفية، ولاعرفت الدولاب، وتاخرت حتى عرفت الكتابه، وتاثرت على طول الخط بالمنجز الرافديني، وصولا الى الفاطمية منجز العراق في الدورة الثانيه، الذي خرج من ارضها مثل الابراهيميه الأولى، هو والقرمطية، ليتجلى خارج ارضه، في المغرب، واليمن والبحرين، والشام، وصولا الى مصر، قرمطية واسماعيله وتشيعيه.
وقتها كان الامر سينقلب انقلابا كليا، والسردية التاريخيه المجتمعية تتغير من حيث القاعدة النموذجية، لصالح الازدواج واللاارضوية، بدل الأحادية والارضوية.
ـ يتبع ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يقول هنري فرانكفورت :" وقد قصرت بحثي على مصر وبلاد مابين النهرين، مركزي الثقافة في الشرق الأدنى القديم، اذ ان الحضارة في المناطق المجاورة لهما نشات متاخرة، وكانت دائما، الى حد ما، مشتقة منهما. وقد تاثرت مصر أيضا، في فترة نشوئها، بحضارة مابين النهرين، ولكن بدون ان تفقد طابعها الأصيل الفريد"/ فجر الحضارة في الشرق الأدنى/ منشورات مكتبه الحياة / بيروت ـ نيويورك 1965/ ترجمة ميخلئيل خوري/ ص11/ والكاتب يضع في نهاية مؤلفه ملحقا بعنوان / تاثير بلاد مابين النهرين على مصر حوالي أواخر الالف الرابع قبل الميلاد/ ص ص 137 ـ 157 .
(2) هذا راي "طه باقر" اهم باحث عراقي في مايعرف بالحضارة العراقية والحضارات القديمه.
(3) فرانكفورت المصدر المذكور أعلاه صص66 ـ 67 .