مع أدب السجون في فلسطين- سردية الخرزة لمنذرمفلح


سعيد مضيه
2021 / 5 / 12 - 14:11     

مع أدب السجون
منذرخلف مفلح : الخرزة- إصدار دار الفاروق للثقافة والنشر- نابلس
الطبعة الأولى 2021

إهداء من المؤلف"الى الذین خطوا الروایة الحقیقیة والذین احتفظوا بها ، والى الذین رسمت بخطوط مصائرهم ، والى الذین اباحوا بها... الى كل الامهات اللواتي ینتظرن ، والى والدتي وهي تنتظر. والى كل من آمن بهذه الحكایة : حسن عبادي ، رائد الحواري، وفراس حج محمد
قدم للرواية حسن عبادي من حیفا تحت عنوان: مسعودة ونصر، یقول فیه
"یعید منذر تعریف السجن والعلاقة مع السجان والزنزانة وتعزیز الأحاسیس والمشاعر، بعیدا عن البطولات والأسطرة، لا بطولات في السجن.".
ویقول ایضا: "ان سردیة منذر تحدثنا عن مسعودة ونصر وما أكثر المسعودات في مجتمعنا.... "شدتني لمسة الوفاء لجبریل عواد أمجد ملیطات وفادي حنیني ویامن فرج، یحمل منذر وصایا رفاق دربه الشهداء ما بین الأزمنة والأمكنة، لیرسم خارطة وطن حلموا به، ليحتل المشهد ويعود معهم من الهامش الذي اراده لهم الآخرون، كي يحتل صدر روايتهم شاء من شاء وأبى من أبى".
یختم مقدمته بالقول: "تعتبر الكتابة متنفسا للأسیر، تدفعه نحو الأمام. تجعله يتنفس شكلا من أشكال الحرية..."
والكاتب من بلدة بيت دجن بمحافظة نابلس؛ ولد عام 1976، حصل على شهادة بكالوريوس صحافة وإدارة أعمال من جامعة النجاح الوطنية . اعتقل عام 2003 ، يقضي محكومية مدتها 33 عاما. حصل وهو بالسجن على ماجستيرفي الشئون الإسرائيلية من جامعة أبوديس(القدس)عام 2018. كتب العديد من المقالات والأبحاث المنشورة في أكثر من موقع، وكتب مجموعات قصصية وقصائد. ورواية "الخرزة" أولى إبداعاته الروائية.
* * *
جاء في قاموس "لسان العرب" السْرُد في القَّصِة و الر َوایَة ذكر الوقائع والأحداث حسب تسلسلها والسردية هي من جنس الرواية . الراوي، منذر، سجین یتذكر الأحداث ویسردها حسب حضورها الى ذاكرته، فجاءت أحداث الروایة غیر منتظمة حسب تتابعها الزمني.
لكن قیمة الروایة تكمن في التقییم الموضوعي للأحاث والمواقف، بحیث يرفع الطهر والتقدیس المطلقین عن المقاومة وأسرى السجون والمعتقلات الإسرائيلية ، مثلما هو دارج في المناسبات المتعلقة بالأسرى الفلسطينيين، حيث تغضدق صفات البطولة بلا حساب . بموضوعية يسرد الراوي الأحداث كمطلع شاهد على الوقائع والأحداث ودخائل النفوس. وفي رواية "الخرزة " نجد التضحیة االعالیة لدى والد نصر والتنظیم المتقن واستشراف المستقبل من حیث تهیئة البیوت یختفي داخلها المناضلون، وتزویدها بمعدات المقاومة : السلاح والكتب. ونجد في السردیة مظاهر التساقط والتخاذل ، دُمِرت الدفاعات الأمامیة للأسرى بجهود مخابرات الاحتلال وضغوط السجن، او بنضوب معين الطاقة الروحية لدى الأسير، الفقيرة أصلا ، حيث التحق بالمقاومة بدافع الحماس وتقليد الآخرين... مرتدون لم یحتملوا تكالیف الموقف فتساقطوا." في سجن عسقلان، كما في السجون ذات التاریخ المعروف يعمدون لوضع قسم ‘ عصافير’ كي يستغلوا ذلك لخدیعة الأسرى الجدد، المستعدین فطریا للبوح بأیة أسرار للتفاعل مع البشر(116). ثم مظاهر أخرى نجمت عن عفویة التنظيم وعدم تمكينه بالوعي لرفع سوية المناضل الوطني ، فيبرز دخلاء بين صفوف المقاومة لا أسمح لنفسي بترویج مصائرهم المخجلة. ‘
نجد أیضا وعیا سطحیا لدى اهالي القریة. "رجع الأهالي الى قریتهم المهجورة لیروا معجزة لم یشهد أحد مثیلا لها من قبل: آثار دم یخرج من الشجرة ورائحة موت بعد عشرة ایام من الحادث"(70) . الأهالي حولوا الشجرة الى معلم مقدس. يضفون القداسة إذ يجهلون علاقة السببية ، یغیب عن تفكیرهم أن المحتلین وجهوا رصاصهم نحو البشر والشجر والحجر ، وكان یختبئ أحد المقاومین داخل جذع الشجر؛ فالدم المسال دم حقيقي وليس أسطورة او معجزة. مع مواصلة النضال اهتدى المناضلون الى هیكل عظمي في جوف الشجرة.
السجن رمز الاضطهاد وقمع الرأي وإرهاب المجتمع لفرض الخضوع. وقد یرفق الإرهاب بحیل ماكرة وخدع تفرض الموافقة، مثل ثقافات التسلیة والتخدیر، وكذلك فبركة أحداث وقضایا تغیب الواقع المنكود .السجن الكبیر یُخضع الجمهور لخیار الاضطهاد او الانشغال بمقتضیات تحصیل الرزق وتسلیك معيشة الأسرة ، ینهمك البشر في الهموم الیومیة، ینجرف الكثیرون مع ثقافات تزیف الواقع او ینخدعون بقضایا تنصب أهدافا زائفة وتروج ثقافة اشلوعي الزائف.
--ینكل الصهاینة بشعب فلسطین وینكلون بالمتعاطفین معهم والمتضامنین حتى الیهود منهم. أحدهم "ذاق من العنصریة اضعاف ما مورس ضد الفلسطینیین.مهاجر من العراق الى اسرائیل وهاجر منها ناقما وانضم للشعبیة ویقال انه مدیر مكتبها في بغداد"(111).
أحداث السردیة تداعیات تذكرات لأحداث أیام النضال وسنوات السجن المدیدة، ينكشف المناضلون قبل ان یتصلب عودهم وتنضج تجربتهم، ويطاردون ويقعون سريعا في قبضة امن الاحتلال، نظرا لجهلهم ملابسات العمل السري وافتقادهم اليقظة الثورية. وقائع أخرى تدور داخل السجن؛ فجاءت احداث الروایة غیر متسلسلة زمانیا. وبذا یختزل دور الدراسة النقدیة تفسر لغة الفن للمتلقين في إعادة تنظیمها زمانيا.
داخل السجن الصغیر یتمسك السجین بالأفكار التي الهمته الاشتراك بالمقاومة؛ هذا إن كان لديه المعين و لم يتخاذل تحت وطاة الضغوط. يفترض في السجين ان يمثل دور مندوب المجتمع والوطن، یواجه ممثل الاحتلال برباطة جأش وتحدي لدى الاعتقال والتحقیق والمحاكمة والسجن. ولهذا زود والد نصر البيوت النضالية بالكتب علاوة على الأسلحة.دأب السجان على تنكيد أوضاع السجناء، وغايته ان يتركوا یذوون في عالمهم المحصور داخل الأسوار في العزلة الباردة ، یلوكون الماضي وتتكثف الحجب لتسد الرؤى عن المستقبل؛ وبعض من السجناء مزود بثقافة تحثه على الصمود ، یقبضون على جمر المعارضة وحریة التعبیر وتحدي السجان؛ یقودون المقاومة دفاعا عن الكرامة الشخصیة والوطنیة..
" فجاة كان صفیرا اخترق أدمغتهم وأفقدهم الحواس..اوسلو رفضوه بالفطرة دون تحلیل سیاسي او معرفة بالسیاسة والأبعاد الدولیة، وقرروا ستستمر الانتفاضة... استمروا رغم الاعتقال لیجدوا العالم وقد تغیرت ملامحه" (128).
وبعض البعض يخترق خياله وفكره جدران السجن ، ینطلق الخیال، ویطلقون العنان للدماغ یبدع فكرا في إطار بحث اجتماعي أو قصة او روایة.
یستحق أدب السجون، لذلك ، الإطراء والرعایة ، فعلاوة على التعریف بعالم السجن وحرماناته ومعاناته، فهو یعكس إفشال خطط السجان؛ يتمرد الكاتب على واقع السجن ، ويختراق حجب حصاره، يمتن صلته بالحیاة. من إبداعات السجناء ، أو الأسرى، سردیة "الخرزة" أبدعها منذر مفلح.
ذكریات النضال قبل السجن تلهم قوة الاحتمال وبهجة الإنجاز."اضطرت ام نصر ان تخبره الحكایة بعد إلحاح وإصرار كبیرین منه ، باحت له سر ا من اسرار القریة التي قلما تبوح بأسرارها (36).
"لماذا اسماني ابي نصرا؟ لیتفاءل بالنصر. لا ، ارید أكثر! قلقها علی وحيدها من مصیر والده یغریها بإخفاء سير النضال الوطني؛ وبإصراره یعرف نصر حكايات غنية وملهمة .. تتفتح امام بصیرته الكثیر من وقائع الكفاح الزطني عبر العقود. تخبره بحكایة نصر الثوري"(37) غدر به عمیل ساهم في تصفية فدائیین منهم من تعود تجربته الى" الثمرد ضد الأتراك"(ص10) . أحد قادة الكفاح الأوائل ضد الاحتلال الإسرائیلي استلهم سیرة نصر وأطلق اسمه على ابنه الذي یتولى سرد الحكایة. هنا تستعاد ذاكرة تصل النضال الراهن بالنضال السابق ضد الأتراك. نصر الأول ناضل ضد ظلامیة الحكم التركي وتعرض لمحاولة اغتیال نجا منها ؛ ترك فرسه الأصیلة تذهب الى البیت ؛ امتطتها زوجته، ابنة مدینة نابلس التي تدور فیها الأحداث، وحملتها الى حیث یرقد الجریح ونقلته الى مخبأ ، ونشرت حكایة موته، وسیلة لخداع الأتراك كي یكفوا عن ملاحقته. عاشت الأسرة في حیفا.
.شارك نصر في النضال ضد الانتداب البریطاني؛ هبط لیل الاحتلال على الضفة وهب للكفاح. هكذا تتصل حلقات النضال الفلسطیني في العصر الحدیث ؛ بالمقابل، تتراكم تلفیقات قوى الهیمنة تشوه الوعي الاجتماعي والنضالات الوطنیة لتشیع الإحباط. "ان الأقاویل السلبیة وبعض الإضافات السلبیة دسته السلطة العثمانیة ولاحقا الاستعمار البریطاني ثم الیهود لهدم ثقافتنا وشحنها بالسلبیة".
تشیر إیحاءات السرد أن نصر الأول أسكن ابنته في بیت في أطراف المدینة، كان یخص امها، على ان یعود من رحلة شرقي النهر ویاخذها معه الى حیفا. "تذكّر مسعودة التي قابلها في عتمة منزلها، لا لیس منزلا..فقد كانت تعیش في (خرابة).. هي ایضا ماض محتوم لجثة محتملة.. مرة أخرى یتساءل"(11). اغتیل نصر على ید احد العملاء ، استولى على مسبحته ومسدس البارابیلو؛ لیلقى جزاءه على ید مستلهم سیرته الكفاحیة، والد نصر ، انتزع منه المسبحة والمسدس، وأودعهما عند زوجته.
علاوة على المسبحة والمسدس حوت تذكارات الماضي مفاتیح لشقق مخبأة ، كان والده یدخرها مخابئ ، ویزودها بالمؤن وبالذخیرة وبالكتب "تحوي حكایات النضال في بقاع المعمورة". البيوت ماوى للفدائيين القادمين عبر النهر"."
الكتب في الغرفة المخفیة تشیر الى اهتمام بالثقافة لم یعد قائما . "السلاح والثقافة زوادة المقاومین"؛
والهدف الاستراتیجي:عالم المستقبل في مسرحیة توفیق الحكیم ، ضمن الكتب التي خبأها ابونصر. كل ما یحتاجه البشر متوفر، والجمیع یحصلون على ما یریدون بدون اضطهاد وبدون حروب وبدون احتلالات، لا سادة ولا عبید وهنا أدرك أن ابو نصر كان یحاول قراءة المستقبل الذي یریده من رحلة الثورة" (130).
اكتشف(نصر) بابا عند القوس؛ هل هبطت رحلة الثورة من المستقبل ، هل انتهت رحلة التیه"؟
دخل ‘"أسرار البیوت المهجورة تبعث خرافات واوهاما ، ولا تبعث مناضلین مثلما خطط أبو نصر
منه الى غرفة سریة خلف الجدران(9). یعود الى الباب السري بالشقة: اسلحة وعتاد وذخیرة مخبأة ومخزنة جیدا. ووجد كتبا عن الثورة في فییتنام وكوبا والجزائر وخرائط. عثرعلى بیان في إحدى الأوراق. وهنا اكتشف سر "الجنیات" التي تناقلها أهل المدينة في المنزل الأول.
نصر عرّف مجموعته من المقاومین على مسعودة، بیتها صار بیت الثورة. جاءوا الیها بعد ان توسعت المدینة واصبح مسكنها جزءا من الحي الجدید . لا احد یعرف من هي ولا من این جاءت(121). نصر هو الذي اعاد الیها الحیاة، أعاد جزءا من عالمها الخاص ولا احد یعلم لم"...
" تستسلم بین یدي نصر، تعود كطفلة " یوشوش في أذنیها..فتهدأ وتنام، وهي تشتم رائحة یدیه. في الیوم التالي اجتمع الشبان في بیت الثورة ، بیت مسعودة لیلا. حین ترى نصر تستكین كالأطفال؛ لكنها هذه المرة تحولت لوحش مسعورة لم تهدأ الا بإرغامها بالقوة. انتابتها الحالة غیر المعهودة لما رأت المسبحة ومسدس البارابیلو مع نصر". دلالة على علاقة حمیمة؛ فلا حاجة إذن الى مختار رافيديا المقيم بلندن كي يفسر (طلاسم) حكاية نصر الأول وابنته مسعودة وامها ابنة مدينة نابلس.
هیاج مسعودة كنایة عن صدمتها. أحداث السردیة تداعیات تذكرات لأحداث أیام النضال وسنوات السجن المدیدة، ينكشف المناضلون قبل ان یتصلب العود الثوري، وتنضج تجربتهم، ويطاردون ويقعون سريعا في قبضة امن الاحتلال، نظرا لجهلهم ملابسات العمل السري ووجائب اليقظة الثورية. وقائع أخرى تدور داخل السجن؛ فجاءت احداث الروایة متداخلة زمانيا ؛ وبذا یختزل دور الدراسة النقدیة في إعادة تنظیمها زمانيا. فقدان الأمل خبأته في تلافيف صمتها . تیقنت ان والدها صاحب المسبحة والبارابیلو قد غادر الحیاة.
تودعنا من جدید مواجهة مع جیش الاحتلال ثم رسالة من ام حلمي لتسلمهم هذه امانتكم آن اوانها .. ثم رجعت راحلة. ظرف سلمه إیاها كمیل امانة لیلة الاعتقال في العام 1994 .فضضناه لنجد فیه ملفاتنا القدیمة ومعلوماتنا القدیمة ، وثلاث رصاصات من نوع 9ملم، انطلقنا كل برصاصة نطلقها وتندلع الثورة من جدید ، فالأجواء مهیأة والشعب مجمع على الثورة...(133). هل هي السخرية؟! لم ینتظروا إنضاج ظروف الثورة المسلحة، ویجهلون ان تلك الظروف وعي متنام لدى الجماهیر بحیث تغذي الثورة المسلحة ویتغذى الوعي ويتصلب من عملیات الثورة.
"وبعد ان انفرط عقد المسبحة بكت(مسعودة) كما لم نرها تبك من قبل... حالة من الطفولة تلبستها. ثم هرعت كالمجنونة تلملم حبات الخرز ؛ وزعتها علینا فاحتفظ كل منا بخرزته حتى یهدأ روعها(25". قبل اعتقاله بایام، وعلى إثر اشتباك مع قوات الاحتلال في أحد ضواحي مدینة نابلس هرعنا منسحبین من مكان الاشتباك لأحد الأزقة، وكلا منا[هكذا وردت] هرع باتجاه حتى نعود الى نقطة الالتقاء(18).
بحث عن ملجأ(66).(حدس باقتراب العدو، فحركة آلیات اسفل الحي، ثم هرب المقاومون (69).
"أأبي التقى بأبي عمار؟! تجاوزت ام نصر سؤاله وتابعت حملة التشويق.
"أبو نصر عنوان لمرحلة انتهت قبل ان تأخذ مداها، مفْصلا من مفاصل الثورة قد خلع، نقطة ارتكاز للثورة قد دمرت"(105). یغیب أبو نصر ولا یُعرف كیف انتهى في ساح الكفاح وأین. تقول الجدة أنها شاهدت ابا نصر عام 1979، في كنف البيت مع مجموعة في طریقهم لتنفیذ مهمة(75).
ودلیل آخر یشیر الى استشهاده اولى ایام الاحتلال في جوف شجرة القریة. في هذا العام "أخذت الثورة مداها".
احتفظ نصر الثاني بإحدى خرزات المسبحة التي انفرط عقدها وتناثرت خرزاتها. تخص نصر الأول. علقها في سقف البرش،(17) . الخرزة هي منقذته.. عالمه الآني التي یمكنها ان تعیده الى واقعه أو تفرز ما بین الواقع والخیال...".حین لاحت الخرزة في افق ذاكرته لیلا ظهر الشبه بین حالة مسعودة الأسیرة بماضیها والأسرى في حاضرنا. الجمیع منوم بحلم(121).
وزعت مسعودة خرزات مسبحة والدها بين المقاومين كي لا ينفرط عقدهم. فكرة لمعت بخيالها وهي بازمة قاسية فانطلقت تلملم الخرزات وتوزعها.
تكّات الخرزة تعود بنصر الى الانتفاضة الأولى(69) .(لم یشارك فیها لكنه تشرب كل حكایاتها. الأم تخاف على ولیدها فتحدثه حكایات الجنیات، وخرافة الشجرة المقدسة. یتذكر جثة مجهولة وجدها في ظلام كهف قدیم بالصدفة. هل هو تشابه المصائر .. جثة هامدة وجثة لا زالت تنبض.
يهدف الرحلة (النقل بین السجون) إخضاعه (السجین) لحالة نفسیة متوترة وقلقة لینجح المحقق في اختراق دفاعاته النفسیة....بعد خروجنا من مركز تحقیق بتاح تكفا: الى این نحن متجهون؟ الى مسلخ روشبینا السري. لم یكن یعلم عن وجود مسالخ ولا یعرف این هي روشبینا . اعتراه القلق. وحین وصل به المسیر الى المكان المحدد لم یجد لا مسالخ ولا ما یحزنون(110).
"العدو الأساسي للأسیر هو الفراغ والخوف من ان یسیطر الفراغ على هواجسه. نقسم الوقت الى اربع وعشرین مهمة". یبرمج السجناء يومهم الى مهام كي ینهضوا بأعباء الحصار؛ فانهماك السجناء في المهمات یساعدهم على تلافي سأم التكرار الممل المدمر للنفسیة.
حقب خمسیة یقسم فترة السجن: انكار خمس سنوات، ثم اعتراف بواقع السجن، ثم التكیف (94). رضوخ لقوانین السجن وبتفاصیل حیاته. داخل السجن یعانون الجوع الجنسي ، آحدهم یجهر بمعاناته: "اتمنى الأنثى كي اشعر بإنسانیتي، كي احافظ على توازني النفسي الذي یحاول السجان اقتلاعه من صدورنا وعقولنا، یحاول تحویلنا الى وحوش ضاریة....(38) .حقا فالمرأة عنصر حضارة ، إذ تلطف االحیاة ويفرض حضورها لغة حوار مهذبة؛ في غياب المرأة داخل السجن او المعتقل تتخشب لغة الحوار. یكثر اللغط ویتبذّل التعامل بین نزلاء السجون."الرجل مهما كان قویا صلبا تبقى مساحة واسعة هشة في قلبه. یجب ان تملأها المرأة كي یصبح اكثر صلابة. ابو مخ یرى ان الأم قرمیة البیت ان انخلعت انخلع البیت. علاقته بأمه علاقة زیتونة رومیة بقرمیتها. دائما كان هناك مكان للمراة في الثورة(107)
وآخر یشكو من "فجوة عمیقة ما بیني وبین أولادي، لا أشعربهم ، فالإحساس بیننا مفقود، اعتادوا على غیابي وأصبحت فائضا عن الحاجة"(82).
وآخر قرر ان یمد جسرا للحیاة... انجبت زوجته سناء بنتا اسماها میلاد لیؤكد حقه في أن یكون أبا... واجه حكومة الاحتلال ووزراءها بصناعة الحیاة وقوتها في عمق النفس الفلسطینیة. تم عزله وإبعاده عن إمكانیة رؤیة میلاد ابنته (113).. ."بدوري حاولت الاتصال بحسام وكیان كي اكون لهم[هكذا وردت] ابا ولكنني كنت عاجزا لفترة طویلة. كیان تخضع لعلاج مكثف وحسام یخضع لمعالجة نفسیة. تعقیدات الحیاة خارج السجن شوهت نفسیة شاب كان واعدا یبشر برجولة تتحكم بمصیرها(114)
أحیانا تعبر علیهم هموم الخارج، فالسجن مجمع المحن : صدمة دلال ، والدة كيان وحسام (الأسماء في السردية ذات دلالة) وعائلتها تحكي مأساة الفلسطیني المركبة حتى مع الكورونا. وصبلت دلال السعودیة بدعوة من شقیقها للمعالجة من مرض؛ تحتجز بسبب الكورونا ؛ تستغیث كي تعود الى ابنتیها المصابتین بالسرطان، ماتت إحداهما، وبقیت كیان قید العلاج. وبقي ابنها الشاب، كان معتقلا التقى بنصر داخل السجن ولفت نظره ما یتمتع به من نجابة وتمثل بالرجولة. كارثة تجمعت عواملها وتساندت وتعقدت لتجرف الجمیع. هنا نرى الراوي ، نصر، یرمز لمنذر الروائي نفسه."أنا الآن في الخمس الرابعة وبقي خمستان. ابو عنان لا زال یعیش زمن الإنكار رغم قضاء أكثر من خمسة عشر عشر عاما متفرقة"(96)، فمن هو أبو عدنان ؟ إنه احد شهود التداعي.
یشعر السجین بقیمته وهو یؤدي مهمة اسندت الیه من الرفاق وفق قرارات تنظیمیة . أعفي أحدهم من المهمة بعد أن أسندت الى سجین آخر."ان الرفیق یدیر العمل الاعتقالي منذ سنوات، قد تصل الى عشر سنین. وحین ذهبت لاستلام مهامه بكى فشعرت لو انني جردته من مهامه یمكن ان یموت، ویشعر ان السجن قد تمكن منه(30).
سنوات ماتت مسعودة وحیدة دون أن نعرف من هي.(144) . أما الدلائل فتحدد هويتها. دفنها أهل القریة في مكان شبه معزول تماما الى جانب الجثمان المجهول الذي وجدناه في المغارة وبقایا الجثمان الذي وجد في الشجرة المقدسة ، وما یقال انه جثمان ابو نصر(145 ).
رهف فتاة كان یتذكرها طفلة یكسب ودها بهدایا الحلوى وهو مطارد يتردد على بيت ذويها. تتالت سنی السجن ، وتنتقل رهف من الابتدائیة الى الثانویة فالجامعة...
." حولت الذكریات الى بیزنیس"(77) .(افتتحت مكتبا بالشراكة مع محامیة كانت ابنة اسیر والشریحة المستهدفة للمشروع هم الأسرى والمناضلین"[هكذا وردت](88).
یتراكم الرماد یغطي جمرة .سقطت الشجرة المقدسة ، انكسرت نتیجة تقادم الزمن والریح ، انتهكت قداستها التي طالما حررتها السماء ، هاهي السماء تزیحها ولم ینفعها حرص المؤمنون [هكذا وردت]المبالغ فیه ولا أدعیة ولهفة المكروبین(136).
"هل أصبحت التضحیات في فلسطین لها نكهة الألم والعذاب بعد ان كانت ممزوجة بالفخر والفرح والأمل؟" . تتساءل رهف:" هل الأسرى مناضلون ام موظفون یبحثون عن استحقاقاتهم المالیة؟ (87). في مكالمتها الأخیرة "اخبرتني رهف انها تعرفت بوعد الذي طالما حدثتها عنه؛ واتفقا على انشاء مشاریع إسكانیة تخص الأسرى والاستثمار برواتبهم بعد تخرجه.
وحسام هو الآخر یخبرني انه یدور ما بین خیارین ، فالحیاة قد قست علیه لیقسو بدوره على نفسه ولا یعرف طریقا جمیلا للحیاة.... أن یاتي للسجن بأي تهمة او یذهب لدلال للقبر بأي ذنب؟"(144)
مقابل ذلك :"تكاد الاسماء تقرع طبلة الأذن تردد شعارات الثورة: عمر القاسم اكملوا ما جئتم لأجله. ربحي حداد یدفع ثمنا . رسمیة وعائشة عودة. .."(119).
وستبقى تحمي مصیر ومستقبل البلاد حكایا الشهداء ستبقى حكایة المستقبل، فدماؤهم ترفض التزویر" (144).
سردية منذر تخص مرحلة من عمر المقاومة الفلسطينية وضعت نهايتها احداث الشيخ جراح وباب العمود، والأقصى ؛ ونامل أن لاتتكرر حقبة التداعي وتبقى ذكرياتها مع شواهد القبور تحذر وتنذر....