كيف يُهزَم وجه القوّة في زهرة المدائن؟


جلبير الأشقر
2021 / 5 / 12 - 09:37     


كثُرَ الحديث في الأيام الأخيرة عن انتفاضة فلسطينية جديدة تعمّ عموم فلسطين بين البحر والنهر، بل وتمتد إلى ضفة النهر الأخرى، إلى الأردن حيث تراكمت أسباب الغضب الشعبي بالغةً درجة الغليان. ولا شكّ في أن الانتفاضة هي أمضى سلاح يحوز عليه الشعب الفلسطيني للضغط على الدولة الصهيونية والنظام العالمي المساند لها. ونقصد هنا بالانتفاضة «ثورة الحجارة» ذلك الفعل التاريخي الرائع الذي قام به شعب فلسطين منطلقاً من غزة في أواخر عام 1987 وبالغاً ذروته في العام التالي، كاسباً عطف الرأي العام العالمي إلى حدّ أن تعبير «الانتفاضة» العربي بات سارياً في شتّى لغات العالم، ومُحدِثاً أزمة عميقة داخل المجتمع الصهيوني، بما فيه جيش العدوان الإسرائيلي المسمّى زوراً «جيش دفاع» ومسبّباً حرجاً كبيراً لدى كافة الحكومات الغربية.
وقد وظّفت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ذلك الزخم العظيم الذي نتج عن الانتفاضة كي تعلن قيام «دولة فلسطين» التي اعترفت بها على الفور عشرات الدول، بما حدا بإدارة رونالد ريغان الأمريكية على بدء حوار رسمي مع المنظمة (ولو أفسد أبو عمّار مغزى هذا الانتصار بقبوله آنذاك بالشرط المُهين الذي فرضه عليه وزير الخارجية الأمريكي جورج شولتز، متمثلاً بإعلانه أن المنظمة «تتخلّى عن كافة أشكال الإرهاب»). والحقيقة أن انتفاضة عام 1988 حققت أكبر قدر من الإنجازات للقضية الفلسطينية، بما جعل إدارة جورج بوش الأب تفرض على حكومة إسحاق شامير الليكودية الدخول في مفاوضات مدريد في عام 1991. وقد أثّرت الانتفاضة في المجتمع الصهيوني بحيث عاد حزب العمل إلى الحكم في انتخابات سنة 1992 بقيادة إسحاق رابين، ودخل من ثم هذا الأخير في مفاوضات أوسلو (وهي فرصة أخرى أفسدها أبو عمّار بتوهّمه بأن تأجيل بعض المطالب الفلسطينية الأساسية، بما فيها تجميد الاستيطان، سوف يفضي في نهاية المطاف إلى قيام «دولة فلسطين المستقلة» في الأراضي المحتلة سنة 1967). يبقى مع ذلك أن انتفاضة عام 1988 أنجزت للقضية الفلسطينية أعظم إنجاز شهدته منذ حرب 1967 وسيطرة حركات الكفاح المسلّح على منظمة التحرير الفلسطينية في السنة التالية.
أما «انتفاضة الأقصى» التي أشعلها آرييل شارون باستفزاز متعمّد حين قام بتدنيس الحرم الشريف بصحبة كتيبة حراسة مكوّنة من ألف شرطي إسرائيلي في أيلول / سبتمبر عام 2000، فكان يمكن أن تكون محطة ثانية جبّارة في النضال من أجل وقف الاستيطان الصهيوني في أراضي 1967 وقلبه، وفرض الانسحاب الإسرائيلي من تلك الأرضي، لولا جرى تبديد الفرصة بالوقوع في فخ استخدام السلاح في وجه الصهاينة. نقول الوقوع في الفخ، إذ إن إسرائيل تخشى «الحجارة» أكثر بكثير مما تخشى الأسلحة النارية، وذلك لسبب لا يحتاج فهمه إلى عبقرية استراتيجية. فإن الدولة الصهيونية متفوّقة عسكرياً على الشعب الفلسطيني، بل وعلى المحيط العربي برمّته، لكنّها ضعيفة معنوياً في وجه انتفاضة شعبية عزلاء، لاسيما أنها مرتهنة بالدعم الغربي وبالتالي بالرأي العام الغربي. وفي أي معادلة استراتيجية، ينبغي على الضعيف أن يلجأ إلى وسائل «لا تناظرية» بخوضه المعركة بالأشكال التي يستطيع بها التعويض عن تفوّق الخصم في أدوات القوة المعتادة.


فجاءت الحصيلة على عكس ما أنجزته «ثورة الحجارة» إذ أتاحت «انتفاضة الأقصى» لآرييل شارون الوصول إلى الحكم (وكان قد قام باستفزازه وعينُه على الانتخابات الإسرائيلية التي كان مزمعاً إجراؤها في بداية عام 2001) ومن ثم شنّه هجوماً وحشياً على الضفة الغربية بوجه خاص، بما فاق عنف الاحتلال الأول لعام 1967، ثم قضاءه على أبو عمّار بعد وضعه تحت الإقامة الجبرية في «المقاطعة». وقد نجم عن ذلك انحطاط كبير في طبيعة «السلطة الوطنية» الفلسطينية التي باتت تحت قيادة أبو مازن تتعايش مع الاحتلال الصهيوني في «تعايش سلمي» طويل الأمد، لا يُزعج الاحتلال على الإطلاق، بل سمح له تكثيف العملية الاستيطانية، وخلق مناخاً أتاح لأنظمة الغدر العربية السير قدماً على درب «التطبيع» بينما كانت «السلطة» تغرق في الفساد الاستبدادي وصولاً إلى هذا الدرك الذي تمثّل أخيراً بإلغائها انتخابات أدركت أنها سوف تخسرها.
وقد بتنا جميعاً نتمنّى انتفاضة شعبية فلسطينية جديدة، فجاءت الاستفزازات الصهيونية الأخيرة في زهرة المدائن، متمثلة بمحاولة اقتلاع أهل الشيخ جراح من ديارهم وبسائر الاستفزازات المتعلقة بالحرم الشريف، جاءت لتفجّر الغضب الشعبي الذي كان قد بلغ الذروة. وقد دخلت فلسطين مجدّداً على درب انتفاضة تمنّينا، ولا زلنا نتمنّى، أن تعادل انتفاضة 1988، بل أن تفوقها. غير أن هذه الانتفاضة الجديدة مهدّدة بالتحوّل عن مسار 1988 الجبّار نحو مسار 2001 الفاشل، وذلك من خلال توخّي قادة «حماس» و«الجهاد» الاستفادة من عزلة «السلطة» ومن نقمة الشعب الفلسطيني كي يبدوا بمظهر أبطال الساعة، وذلك بتوجيههم إنذاراً إلى إسرائيل وهم عالمون تمام العلم أن الدولة الصهيونية لا تكترث لإنذاراتهم، بل أن أنجع طريقة للحؤول دون تراجع إسرائيل عن أمر ما هو قيام «حماس» أو «الجهاد» بالمطالبة به مصحوبة بإنذار.
وبالطبع، انتهى الإنذار فانطلقت الصواريخ، وانفرج بنيامين نتنياهو الذي رأى في الأمر فرصة لإعادة إحياء شعبيته على غرار سلفه شارون، فشنّ هجمة وحشية جديدة على غزة، مصوّراً ما يجري وكأنه حرب بين طرفين مسلّحين وليس قمعاً وحشياً لشعب أعزل من قِبَل دولة استعمارية مدجّجة بالسلاح. وقد انقلب المنحى الدبلوماسي الغربي إلى إدانة إطلاق الصواريخ من غزة و«مطالبة الطرفين بوقف العنف» بعد أن كان يدين إسرائيل لممارستها القمع وجرائم الحرب (بما فيها الاستيلاء على المساكن والممتلكات) في القدس. فإن إطلاق الصواريخ من غزة، إذ يدغدغ المشاعر نظراً للسخط الشديد المشروع ضد الصهاينة، إنما لا يعدو كونه «فشة خلق» أي تنفيساً للمشاعر بكلفة باهظة، ليس أقلها ما يزيد عن عشرين قتيلا سقطوا في غزّة ليل الإثنين من جراء القصف الصهيوني المجرم. فبقي لنا أن نتمنّى أن يغلب العقل الاستراتيجي على العاطفة في المواجهة الدائرة كي يدرك الجميع أن المعركة التناظرية، السلاح في وجه السلاح، ليست في مصلحة الشعب الفلسطيني، بل تكمن مصلحته في الالتزام باستراتيجية «ثورة الحجارة» التي تخشاها إسرائيل أكثر من أي وجه آخر من أوجه المعركة.